صفحة جزء
باب فيمن أحصر بعدو أو مرض

ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أحرم بعمرة ، فلما بلغ الحديبية وصده المشركون حل .

وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه أحرم بعمرة ، وكان نزل الحجاج بمكة لقتال ابن الزبير - رضي الله عنه - فقال : "إن صددت صنعت كما صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" .

ولا خلاف فيمن أحصر بعدو ، وهو محرم بحج أو عمرة أن له أن يحل ، ولا قضاء عليه إذا لم تكن حجة الإسلام .

واختلف فيمن أحصر بمرض أو كسر أو حبس في دم أو دين ، فقال مالك : لا يحله إلا البيت ، وعليه قضاء ما حل منه من حج أو عمرة ، وهو قول ابن عباس وابن عمر والشافعي . وقال عطاء بن أبي رباح والنخعي والثوري وأبو حنيفة وأبو ثور : العدو والمرض سواء .

وللمحصر بعدو خمس حالات يصح الإحلال في ثلاث ، ويمنع في وجه ، ويصح في وجه إذا شرط الإحلال ، فإن كان العدو طارئا بعد الإحرام ، أو متقدما ولم يعلم ، أو علم وكان يرى أنه لا يصده فصده- جاز الإحلال . [ ص: 1256 ]

وقد أحرم النبي - صلى الله عليه وسلم - والمشركون بمكة ، وهو يرى أنهم لا يمنعونه ، فلما منعوه حل .

وإن علم أنهم يمنعونه لم يحل ، وعلى هذا الوجه يحمل ما قاله محمد بن المواز .

وإن شك فمنعوه لم يحل ، إلا أن يشترط الإحلال ، كما قال ابن عمر - رضي الله عنهما - .

ومن صد عن طريقه وهو قادر على الوصول من غير مضرة لم يحل ، وإن كان أبعد ، إلا أن يكون طريقا مخوفا ، أو فيه مشقة بينة ، ولا يرجو انكشاف ذلك قريبا . وقد قاضى النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل مكة على أن يأتي من العام المقبل ، ثم حل ؛ لأن الصبر إلى قابل فيه مضرة .

واختلف فيمن أحصر وهو محرم بالحج في ثلاثة مواضع : في الوقت الذي يجوز أن يحل فيه ، وهل عليه دم إذا حل ، وهل يلزمه القضاء إذا كان محرما بحجة الإسلام ؟ فمذهب ابن القاسم إذا كان على إياس من انكشافه حل مكانه . وإن كان يرى أنه يذهب قبل ذلك أو شك أمهل حتى يصير إلى وقت إن ترك لم يدرك ، فيحل ، وقال أشهب : لا يحل حتى يوم النحر ، ولا يقطع التلبية حتى يروح الناس إلى عرفة .

يريد : لأن الحج لما كان معلما بوقت ، وكان الإمساك عن الوطء والطيب [ ص: 1257 ] وغيره عبادة ، وقد التزم المحرم بالحج الإمساك عن هذه الأشياء إلى وقت ، كان عليه أن يبقى على تلك الطاعة إلى ذلك الوقت . ويلزم على قوله : إن أحرم بعمرة وهو على بعد أن لا يحل إلا في الوقت الذي كان يحل فيه من أحرم بحج لو لم يحصر ، وقد كان إحلال النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ما مضى الوقت الذي كان يحل فيه .

ومن أحرم بالحج من موضع لا يدرك فيه الحج من عامه ، ثم أحصر من ذلك العام ، لم يحل إلا أن يصير إلى وقت إن حل لم يدرك الحج عاما قابلا .

وقال ابن القاسم فيمن حل ممن أحصر بعدو : لا هدي عليه . وقال أشهب في كتاب محمد : عليه الهدي ، وإن لم يجد صام ، وقد قال الله تعالى : فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي [البقرة : 196] قال : فهذا فيمن أحصر بعدو ، وتأول ابن القاسم الآية على المرض .

والأول أحسن ؛ لأن الآية نزلت بالحديبية ، وقد حصرهم العدو ، فقال تعالى : فإذا أمنتم والأمن يكون من الخوف ، فكان حمل الآية على الخوف الذي كانوا فيه ، وعلى المعهود من هذا الاسم ؛ حتى يقوم دليل أن المراد الأمن من المرض .

وقد اختلف في موجب هذين : أحصر وحصر ، فذكر إسماعيل القاضي عن أبي عبيدة ، أنه قال : ما كان من مرض أو ذهاب نفقة قيل : أحصر ، وما كان من حبس قيل : حصر . واستشهد بقول ابن عباس - رضي الله عنهما - : لا حصر إلا من عدو .

وقال ابن فارس في مجمل اللغة : ناس يقولون حصره المرض ، وأحصره العدو . وهذا عكس ما حكاه أبو عبيدة . [ ص: 1258 ]

وقال ابن فارس : الإحصار : أن يحصر الحاج عن بلوغ المناسك بمرض أو غيره . فسوى بين المرض والعدو .

وقال أبو عمرو : حصرني الشيء وأحصرني إذا حبسني ، قال الله تعالى : للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله [البقرة : 273] . يريد الله تعالى أن الفقر أحصرهم ، وليس المرض . وقيل : حصره إذا ضيق عليه ، وأحصره إذا منعه شيئا ، وإن لم يضيق عليه غيره . فمن منع من في مدينة أن يخرج منها كان قد حصره ؛ لأنه ضيق عليه ، وإن منع من كان خارجا منها أن يدخل إليها كان قد أحصره .

وقال مالك وابن القاسم فيمن أحصره العدو : يحل من حجة الإسلام ، وكان عليه القضاء .

وقال ابن الماجشون في كتاب ابن حبيب : لا قضاء عليه . والأول أحسن ؛ لأنها مضمونة . فإذا أحصر عن هذا العام بقي الحج في الذمة على حاله . وكذلك من نذر حجة مضمونة عليه القضاء ، وإن نذر عاما بعينه أو التزمه بالإحرام من غير نذر لم يكن عليه قضاء ، وكذلك إن نذر عمرة مضمونة قضاها ، وإن عينها لشهر أو وقت فانقضى ذلك الوقت لم يكن عليه شيء .

وقال عبد الملك في كتاب محمد : إن انكشف الخوف قبل أن يحل فله أن يحل ؛ لأن العدو بلغ به ذلك . [ ص: 1259 ]

يريد : إذا فاته الحج وهو على بعد من مكة ، وإن كان قريبا لم يحل إلا بعمرة ، وكذلك إن كان إحرامه بعمرة فذهب الخوف وهو قريب من مكة لم يحل دون مكة .

وقال في المبسوط فيمن حل له الإحلال ، فلم يفعل حتى أصاب النساء : فإن كان نوى أن يحل فلا شيء عليه ، وإن نوى أن يقيم على إحرامه لقابل كان قد أفسد حجه إلى قابل ، ثم عليه أن يقضي حجته تلك .

قال : ومن اعتمر في أشهر الحج ، ثم أهل بحجة من مكة ، ثم أحصره العدو بعرفة حتى فاته الحج- حل ، ولم يستحدث طوافا يحل له ، وعليه هدي لمتعته كما لو تم حجه . وإن كان قارنا فأحصر أو أفسد كان كمن لم يحصر وهو في حج تام ، فعليه هدي القران وهدي الفساد في العام الثاني . وأصل ابن القاسم في هذا : أن يسقط عنه دم المتعة ؛ لأنه قد صار عمله إلى فساد ولم تتم المتعة . واختلف عنه في دم القران عن العام الذي فات .

التالي السابق


الخدمات العلمية