إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وقال أبو طالب المكي هو العلم بما يتضمنه الحديث الذي فيه مباني الإسلام ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : " بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله إلى آخر الحديث " لأن الواجب هذه الخمس ، فيجب العلم بكيفية العمل فيها ، وبكيفية الوجوب .

والذي ينبغي أن يقطع به المحصل ولا يستريب فيه ما سنذكره وهو أن العلم كما قدمناه في خطبة الكتاب ينقسم إلى علم معاملة وعلم مكاشفة ، وليس المراد بهذا العلم إلا علم المعاملة
(وقال) الإمام (أبو طالب) محمد بن علي بن عطية الحارثي (المكي) في كتابه "قوت القلوب إلى لقاء المحبوب" ترجمه الخطيب في التاريخ والذهبي في الميزان، فقال: الزاهد الواعظ صاحب القوت، حدث عن علي بن أحمد المصيصي، والمفيد، وكان مجتهدا في العبادة، حدث عنه ابن عبد العزيز الأزجي وغيره. وقال الخطيب: كان من أهل الجبل، ونشأ بمكة، ووعظ ببغداد، مات سنة ست وثمانين وثلاثمائة. اهـ .

قلت: وأخذ عن أبي الحسن أحمد بن محمد بن سالم، وأبي سعيد بن الأعرابي، وأبي عثمان المغربي، وعنه ولده عمر بن أبي طالب.

وفي كتاب لطائف المنن نقلا عن الشاذلي: إن كتاب الإحياء يورث العلم، وكتاب القوت يورث النور، وكان يقول: عليكم بالقوت فإنه قوت، وتلقاه كل الصوفية بقبول، وأثنوا عليه، كسيدي عبد الجليل القصري صاحب شعب الإيمان، وابن العريف، وكان يسميه السهروردي ديوان الإسلام، وأثنى على مؤلفه في عوارفه، وابن عباد في رسائله .

قال رحمه الله في كتابه المذكور بعد أن أورد الأقوال التي ذكرناها ما نصه: فهذه أقوال العلماء في معنى هذا الخبر، حكينا ذلك عن علمائنا بمذاهبهم على معنى مذهب كل طائفة، واحتججنا لكل قول، فالألفاظ لنا والمعنى لهم، هذا كله حسن ومحتمل، وهؤلاء كلهم وإن اختلفوا في تفسير الحديث بألفاظ فإنهم متقاربون في المعنى، إلا أهل الظاهر منهم فإنهم حملوه على ما يعلمون، وأهل الباطن تأولوه على علمهم، ولعمري إن الظاهر والباطن علمان لا يستغني أحدهما عن صاحبه بمنزلة الإسلام والإيمان، مرتبط كل واحد منهما بالآخر، كالجسم والقلب، لا ينفك أحدهما عن صاحبه، وهؤلاء المختلفون في الأقوال مجمعون على أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يرد بذلك طلب علم الأقضية والفتاوى، ولا علم اختلاف المذاهب، ولا كتب الحديث مما لا يتعين فرضه، وإن كان الله تعالى لا يخلي من ذلك من يقيمه بحفظه، والذي عندنا في حقيقة هذا الخبر -والله أعلم- أن قوله -صلى الله عليه وسلم-: "طلب العلم فريضة" (هو العلم بما يتضمنه الحديث الذي) ذكرت فيه (مباني الإسلام، وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: "بني الإسلام على خمس") هكذا في النسخ، وهي الرواية المشهورة، وفي نسخة: على خمسة، وهي رواية لمسلم، والتقدير: خمسة أشياء أو أركان أو أصول، وفي رواية عبد الرزاق: "على خمس دعائم" .

ولنذكر أولا تخريج هذا الحديث، ثم نلم ببقية كلام الإمام أبي طالب .

قال العراقي: رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي، من رواية عكرمة بن خالد، عن ابن عمر، رفعه: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان" قال الترمذي: حديث حسن صحيح .

وأخرجه مسلم أيضا من رواية عاصم بن زيد بن محمد بن عمر، عن أبيه، عن ابن عمر. ورواه الترمذي من رواية حبيب بن أبي ثابت، عن ابن عمر، وقال: حسن صحيح. اهـ .

قلت: رواه البخاري في أول صحيحه، فقال: حدثنا عبيد الله بن موسى، أخبرنا حنظلة بن أبي سفيان، عن عكرمة بن أبي خالد، عن ابن عمر، ورواه في التفسير، وقال فيه: وزاد عثمان بن وهب، أخبرني فلان وحيوة بن شريح، عن بكر بن عمرو، عن بكير بن عبد الله الأشج، عن نافع، عن ابن عمر.

وأخرجه مسلم في الإيمان عن محمد بن عبد الله بن نمير، عن أبيه، عن حنظلة، وعن ابن معاذ، عن أبيه، عن عاصم بن محمد، عن أبيه، عن جده، وعن ابن نمير، عن أبي خالد الأحمر، عن سعد بن طارق، عن سعد بن عمير، عن ابن عمر، وعن سهل بن عثمان، عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن سعد بن طارق به، فوقع لمسلم من جميع طرقه خماسيا، وللبخاري رباعيا .

وزاد مسلم في روايته عن حنظلة قال: سمعت عكرمة بن خالد يحدث طاوسا أن [ ص: 135 ] رجلا قال لعبد الله بن عمر: ألا تنفروا، فقال: إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكر الحديث. وقال البيهقي: اسم الرجل السائل حكيم، كذا في شرح العيني على البخاري.

قلت: وفي المخلصيات من رواية يزيد بن بشر السكسكي، عن نسي والد عبادة: كنت عند ابن عمر فسأله رجل من أهل العراق فذكره، ويزيد بن بشر مجهول، ورواه كذلك الإمام أحمد في مسنده .

وممن روى عن حبيب بن أبي ثابت سعيد بن الحسن ومسعر بن كدام، وهو في المخلصيات من رواية محمد بن ميمون الحناط، عن سفيان بن عيينة، عنهما .

وأخرجه المدني في مسنده عن سفيان، عن مسعر وحده عنه، وهو في الغيلانيات من رواية حماد بن شعيب الحماني، عن حبيب بن أبي ثابت.

وأخرجه أبو نعيم من رواية حجاج بن منهال، حدثنا همام بن يحيى، عن محمد بن جحادة، عن طلحة بن مصرف، عن ابن عمر، وفيه زيادة، وليس لطلحة عن ابن عمر شيء في الكتب الستة .

قال العراقي: ويروى عن جرير أيضا، رواه أحمد وأبو يعلى في مسنديهما، والطبراني في الكبير من رواية عامر، عن جرير، قال سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "بني الإسلام على خمس" فذكرها، ولم يقل: أن محمدا رسول الله. اهـ .

قلت: والمعنى واحد؛ لأن الشهادة هي قولنا: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله كما عرفت .

(لأن الواجب هذه الخمس، فيجب العلم بكيفية العمل فيها، وبكيفية الوجوب) ونص القوت: ثم إن العمل لا يصح إلا بعلمه، فأول العمل العلم به، فصار علم العمل فرضا من حيث افترض العمل، فلما لم يكن على المسلمين فرض من الأعمال إلا هذه الخمس صار طلب علم هذه الخمس فرضا؛ لأنه فرض الفرض. اهـ .

(والذي ينبغي أن يقطع به المحصل ولا يستريب) أي: لا يشك (فيه) هو (ما نذكره) ونورده الآن، وهذا الذي يذكره المصنف هو خلاصة ما ذكره أبو طالب في كتابه مع زيادة إيضاح وبيان لتقريره، كما يظهر لمن تأمل في كلاميهما .

(وهو أن العلم كما قدمناه في خطبة الكتاب ينقسم إلى علم معاملة وعلم مكاشفة، وليس المراد بهذا العلم إلا علم المعاملة) أي: علم المعاملة القلبية والقالبية، واعلم أن الفرض بعد التوحيد نوعان:

أحدهما: ما يكون فرضا على العبد بحكم الإسلام، وهو علم المعاملة القلبية، وإصلاح الباطن لازدياد الأنوار النفسية، وإزالة الأخلاق الردية، وإثبات الشمائل المرضية .

وثانيهما: ما هو فرض عليه عند تجدد الحادثة، كدخول وقت الصلاة والصوم والحج والزكاة وغيرها، وأما العبد إذا أسلم في وقت لم تجب عليه فيه هذه الأشياء فليس عليه أن يعلمها بفرض ... إدراك؛ لأنه لم يدرك وقتها، وإنما يكون الفرض عليه حينئذ علم المعاملة القلبية، فلو وجد برهة بعد الإسلام وفراغا ولم يشتغل في تحصيل علم المعاملة القلبية كان تاركا للفرض مسؤولا عنه يوم القيامة، وإن لم يتجدد له من تلك الفروض الظاهرة شيء كالصلاة ونحوها، فتأمل؛ فإنه إجمال سيفصله المصنف فيما بعد .

التالي السابق


الخدمات العلمية