إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وقيل في معنى قوله تعالى وجاءت سكرة الموت بالحق أي : بالسابقة يعني أظهرتها .

وقال بعض السلف : إنما يوزن من الأعمال خواتيمها .

وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يحلف بالله ما من أحد يأمن أن يسلب إيمانه إلا سلبه .

وقيل من الذنوب ذنوب عقوبتها سوء الخاتمة نعوذ بالله من ذلك .

وقيل : هي عقوبات دعوى الولاية والكرامة بالافتراء .

وقال بعض العارفين لو عرضت علي الشهادة عند باب الدار والموت على التوحيد عند باب الحجرة لاخترت الموت على التوحيد عند باب الحجرة لأني لا أدري ما يعرض لقلبي من التغيير عن التوحيد إلى باب الدار وقال بعضهم لو عرفت واحدا بالتوحيد خمسين سنة ثم حال بيني وبينه سارية ومات لم أحكم أنه مات على التوحيد .

وفي الحديث : من قال أنا مؤمن فهو كافر ، ومن قال : أنا عالم فهو جاهل وقيل في قوله تعالى وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا صدقا لمن مات على الإيمان ، وعدلا لمن مات على الشرك وقد قال تعالى : ولله عاقبة الأمور فمهما كان الشك بهذه المثابة كان الاستثناء واجبا لأن الإيمان عبارة عما يفيد الجنة ، كما أن الصوم عبارة عما يبرئ الذمة .

وما فسد قبل الغروب لا يبرئ الذمة ، فيخرج عن كونه صوما فكذلك الإيمان بل لا يبعد أن يسأل عن الصوم الماضي الذي لا يشك فيه بعد الفراغ منه فيقال أصمت بالأمس ؟ فيقول : نعم إن شاء الله تعالى إذ الصوم الحقيقي هو المقبول والمقبول غائب عنه لا يطلع عليه إلا الله تعالى فمن هذا حسن الاستثناء في جميع أعمال البر ويكون ذلك شكا في القبول إذ يمنع من القبول بعد جريان ظاهر شروط الصحة أسباب خفيفة لا يطلع عليها إلا رب الأرباب جل جلاله ، فيحسن الشك فيه .

فهذه وجوه حسن الاستثناء في الجواب عن الإيمان وهي آخر ما نختم به كتاب قواعد العقائد .

تم الكتاب بحمد الله تعالى وصلى الله على سيدنا محمد وعلى كل عبد مصطفى .


ثم شرع المصنف في ذكر آيات وآثار تدل على ذلك فقال: (وقيل في معنى قوله تعالى) ونص القوت: وقال بعض العلماء في معنى قوله عز وجل: ( وجاءت سكرة الموت بالحق) ذلك ما كنت منه تحيد ، (أي: بالسابقة) زاد المصنف: (أي أظهرتها) ، وأصل السكرة من السكر، بالضم وهي حالة تعرض بين المرء وعقله، (وقال بعض السلف: إنما توزن من الأعمال خواتيمها) ، هكذا أورده صاحب القوت، والبحث في وزن الأعمال قد تقدم .

(وكان أبو الدرداء) عويمر بن عامر الأنصاري -رضي الله عنه- تقدمت ترجمته في كتاب العلم (يحلف بالله) عز وجل (ما من أحد أمن أن يسلب إيمانه إلا سلبه) ، هكذا أورده صاحب القوت، ولفظه ما أخذ، وقوله سلبه بالبناء للمجهول، والضمير عائد إلى الإيمان، وإلى هذا أشار سيدنا القطب الجيلاني: إن الله قد أعطاني سبعين موثقا أني لا أمكر بك يا عبد القادر، وفي كل مرة أزداد خوفا، فهذا مقام العارفين الخائفين، (ويقال من الذنوب ذنوب عقوبتها سوء الخاتمة نعوذ بالله من ذلك) ونص القوت: ويقال: من الذنوب ذنوب لا عقوبة لها إلا وقت الخاتمة، وهذا أخوف ما خاف العاملون مع قوله عز وجل: ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون ، وقيل: من الذنوب ذنوب تؤخر عقوبتها إلى وقت الخاتمة لا عقوبة لها إلا التوحيد في آخر نفس. (وقيل: هي عقوبة دعوى الولاية والكرامة) ، ونص القوت: وقيل هذا يكون عقوبة للدعوى للولاية والكرامات (بالافتراء) على الله عز وجل، ولقد سمعت شيخنا السيد عبد الرحمن بن مصطفى العيدروسي -رحمه الله تعالى- يقول: سمعت شيخنا الشيخ مشيخ ابن جعفر العلوي، يقول: الدعوى فضيحة ولو كانت صحيحة، يشير إلى دعوى الولاية، ودعوى الكرامة، يعني ولو أثبت ما أراد إثباته بإظهار شيء من خوارق العادات، فإنه غير معتبر عند أهل الكمال، هذا إذا كان صحيحا في نفس الأمر، فأما إذا كان بالافتراء والاختلاق فهو أشبه بالسحر، والتخديم، وهذا يورث سوء الخاتمة، كما صرح به العلماء .

(وقال بعض العارفين) بالله تعالى: (لو عرضت علي الشهادة) في سبيل الله عند باب الدار (و) عرض علي (الموت على التوحيد) الخالص (عند باب الحجرة) التي داخل الدار (لاخترت الموت على التوحيد) إذ كل الصيد في جوف الفرا، قيل: له ولم قال (لأني ما) ونص القوت: لأنني لا (أدري [ ص: 276 ] ما يعرض لقلبي من التغيير عن التوحيد) من باب الحجرة (إلى باب الدار) كذا في القوت .

(وقال بعضهم) أي العارفين، ونص القوت: وقال بعض الخائفين وكل عارف بالله خائف: (لو عرفت واحدا بالتوحيد) ، ونص القوت: لو علمت أحدا أو عرفته على التوحيد، (خمسين سنة ثم حال بيني وبينه سارية) هي الأسطوانة، (ومات) وفي القوت: ثم مات (ما أحكم) عليه (أنه مات على التوحيد) لعلمي بسرعة تقلب القلوب، (وفي الحديث: من قال أنا مؤمن فهو كافر، ومن قال: أنا عالم فهو جاهل) ، هكذا هو في القوت .

وقال العراقي: أخرجه الطبراني في الأوسط، الشطر الأخير منه من حديث ابن عمر، وفيه ليث بن أبي سليم، والشطر الأول، روي من قول يحيى بن أبي كثير، رواه الطبراني في الصغير بلفظ: من قال: أنا في الجنة، فهو في النار، وسنده ضعيف، ورواه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث البراء، بإسناد ضعيف جدا .

ورويناه في مسند الحارث بن أبي أسامة من رواية قتادة عن عمر بن الخطاب، مرفوعا، وهو منقطع اهـ .

قلت: هكذا نقله الحافظ السخاوي بتمامه في المقاصد إلا أنه قال في رواية الديلمي: عن جابر بدل البراء، فلا أدري هو تصحيف في نسخة المقاصد، أو تغيير منه قصدا فليراجع .

(وقيل في قوله) تعالى، وفي القوت: كانت هذه الآية مبكاة للعابدين في معنى قوله تعالى: ( وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا ) قيل: (صدقا لمن مات على الإيمان، وعدلا لمن مات على الشرك) ، كقوله تعالى: إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم .

(وقد) قال تعالى: ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون ، وقال تعالى: أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ، وقال تعالى: وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص ، و (قال الله تعالى: ولله عاقبة الأمور ) وقال تعالى: قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله .

(ومهما كان الشك) في الإيمان بهذه المثابة (كان الاستثناء) فيه (واجبا) أي لازما; (لأن الإيمان عبارة عما يفيد) صاحبه (الجنة، كما أن الصوم عبارة عما يبرئ الذمة) ، أي: ذمة الرب عن عتق العبد، (و) من المعلوم أن (ما فسد) بالإفطار (قبل الغروب لا يبرئ الذمة، فيخرج عن كونه صوما فكذلك الإيمان) إذا انتقض قبل الوفاة خرج عن كونه إيمانا .

وسيأتي لهذا بحث من كلام السبكي، (بل لا يبعد) كذا في النسخ، وفي أخرى بل ينقدح (أن يسأل عن الصوم الماضي الذي لا يشك فيه) وفي نسخة عن الصوم الماضي لا لشك فيه، (بعد الفراغ منه فيقال) له: (أصمت بالأمس؟ فيقول: نعم إن شاء الله) ، فربط الشرط بالماضي وهو صحيح، (إذ الصوم الحقيقي) أي: المعتد به عند الله تعالى (هو المقبول) عنده، (والمقبول غائب) ، وفي نسخة: مغيب (عنه لا يطلع عليه) ; لأنه من أمور الآخرة، ولكن يظهر في بعض الأحيان بالأمارات الدالة عليه، (فمن هذا) السبب (يحسن الاستثناء في جميع أعمال البر) ، أي: الخير، (ويكون ذلك شكا في القبول) وفي تقييد الأعمال بالبر رد على الطائفة المشهورة بالمرازقة بالديار المصرية، وغيرهم ممن غلوا غاية الغلو، وتجاوزوا عن الحدود حتى صار الرجل منهم يستثني في كل شيء فيقول أحدهم: هذا ثوب إن شاء الله، هذا جبل إن شاء الله، فإذا قيل لهم هذا لا شك فيه يقولون لكن إذا شاء الله أن يغيره .

ثم قال المصنف: (إذ تمنع من القبول بعد حرمان ظاهر شروط الصحة أسباب خفية لا يطلع عليها إلا رب الأرباب، فيحسن الشك فيه) بهذا الاعتبار، (فهذه وجوه حسن الاستثناء في الجواب عن الإيمان) وحاصل ما في الوجه الأخير أن الإيمان الذي يتعقبه الكفر فيموت صاحبه كافر ليس بإيمان كالصلاة التي أفسدها قبل الكمال، والصيام الذي يفطر صاحبه قبل الغروب، وهذا مأخذ كثير من أهل الكلام من أهل السنة وغيرهم، وعند هؤلاء أن الله يحب في الأزل من كان كافرا إذا علم منه أنه يموت مؤمنا، فالصحابة ما زالوا محبوبين قبل إسلامهم، وإبليس ومن ارتد عن دينه ما زال الله يبغضه، وإن كان لم يكفر بعد، وقد دفعه الحنفية بأن الإيمان إذا تحقق بشروطه كيف يكون كالصلاة التي أفسدها قبل كمالها، والصيام الذي يفطر صاحبه قبل الغروب .

قال القونوي في شرح عقيدة الطحاوي: لا كلام في الاستثناء للخاتمة، وهو واجب عندنا، وإنما الكلام في الإيمان، وإن كفر بعد ذلك، أي بعد الإيمان لا يتبين أنه لم يكن [ ص: 277 ] مؤمنا قبل الكفر كإبليس، فالسعيد قد يشقى، والشقي قد يسعد، وعند الأشعري العبرة للختم، ولا عبرة لإيمان من وجد منه التكذيب للحال، فإن كان في علم الله تعالى أن هذا الشخص يختم له بالإيمان، فهو للحال مؤمن، وإن كان يكفر بالله ورسوله، فإن كان في علم الله تعالى أنه يختم له بكفر يكون للحال كافرا، وإن كان مصدقا بالله ورسوله .

وقالوا: إن إبليس حين كان معلما للملائكة كان كافرا، واستدلوا بقوله تعالى: وكان من الكافرين ، أي كان في علم الله، وأجيب عن الآية بأن معناه: وصار من الكافرين، قال شارح العقائد: والحق أنه لا خلاف في المعنى يعنى، بل الخلاف في المبنى، فإذا أريد بالإيمان والسعادة مجرد حصول المعنى، أي الإذعان وقبول العبادة فهو حاصل في الحال، وإن أريد ما يترتب عليه النجاة، والثمرات في المآل فهو في مشيئة الله تعالى، لا قطع بحصوله في الحال، فمن قطع بالحصول أراد الأول، ومن فوض إلى المشيئة أراد الثاني اهـ .

وفهم منه أن الخلاف بين الفريقين لفظي، وأشار إليه السبكي في عقيدته التي تقدم ذكرها في أول الكتاب، وهو قوله: ولقد يؤول خلافهما إما إلى لفظ كالاستثناء في الإيمان، وذكر فيها أن أبا منصور الماتريدي مع الأشاعرة في هذه المسألة والله أعلم .

(وهي) أي: تلك الوجوه (آخر ما نختم بها كتاب قواعد العقائد إن شاء الله تعالى) ، وفيه ربط الحال بالشرط، (والله أعلم) أتى بها للتأدب بتفويض العلم إلى الله تعالى وللتبرك ويوجد هنا في بعض النسخ زيادة: "وصلى الله على سيدنا محمد وعلى كل عبد مصطفى من أهل الأرض والسماء"، وهي زيادة حسنة تشبه أن تكون من كلام المصنف، إلا أني ما وجدتها إلا في نسخة، ولنختم هذا الكتاب بفصول، منها ما له تعلق بمسألة الاستثناء، ومنها ما له تعلق بمبحث الإيمان، ومنها ما هو متمم للكتاب، فصارت الفصول على ثلاثة أنواع .

النوع الأول من الفصول الثلاثة ما يتعلق بمسألة الاستثناء خاصة. قال الكمالان ابن الهمام، وابن أبي شريف: لا خلاف بين القائلين بدخول الاستثناء والمانعين في أنه لا يقال: أنا مؤمن إن شاء الله، للشك في ثبوت الإيمان حال التكلم بالاستثناء المذكور، وإلا كان الإيمان منفيا; لأن الشك في ثبوته في الحال كفر، بل ثبوته في الحال مجزوم به دون شك غير أن بقاءه إلى الوفاة عليه، وهو المسمى بإيمان الموافاة الذي يوافى العبد عليه متصفا به آخر حياته، غير معلوم له، ولما كان ذلك هو المعتبر في النجاة كان هو الملحوظ عند المتكلم في ربطه بالمشيئة، وهو أمر مستقبل، فالاستثناء فيه اتباعا لقوله تعالى: ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله فلا وجه لوجوب تركه إلا أنه لما كان ظاهر التركيب أمرين الإخبار بقيام الإيمان به في الحال، وإن الاستثناء يناقض الإخبار بقيام الإيمان به في الحال كان تركه أبعد عن التهمة بعدم الجزم بالإيمان في الحال الذي هو كفر، فكان تركه واجبا لذلك .

وأما من علم قصده بأنه إنما استثنى تبركا خوفا من سوء الخاتمة، فربما تعتاد النفس التردد في الإيمان في الحال لكثرة إشعارها بترددها في ثبوت الإيمان واستمراره، وهذه مفسدة إذ قد تجر إلى وجود التردد آخر الحياة للاعتياد به خصوصا والشيطان مجرد نفسه في هلاك ابن آدم لا شغل له سواه فيجب حينئذ تركه اهـ .

وفيه شيئان الأول: قوله فالاستثناء فيه اتباع لقوله تعالى إلخ، لا يخفى ما نحن فيه ليس داخلا في عموم مفهوم الآية، لأنها في الأمر المستقبل وجود الإبقاء، والكلام في الاستثناء الموجود حالا على احتمال أنه ربما يعرض له حال يوجب له زوالا، ولهذا مثل مشايخنا هذا الاستثناء بنحو قوله: أنا شاب إن شاء الله تعالى حيث يحتمل أنه يصير شيخا وهو ليس تحته طائل وإدخاله تحت قوله تعالى: ولا تقولن لشيء الآية، لا يقول به قائل، وهذا البحث أبداه ملا علي القاري من أصحابنا .

والثاني أن إشعار اللفظ في نفسه إنما هو باعتبار التعليق، وهو خلاف المفروض، إذ الفرض قصد التبرك لأجل إيمان الموافاة خوفا من سوء الخاتمة، وهذا البحث أبداه الكمال بن أبي شريف، وحاصل القول مع قطع النظر عما يرد عليه أن المستثني إذا أراد الشك في أصل إيمانه منع من الاستثناء، وهذا لا خلاف فيه، وأما إذا أراد أنه مؤمن كامل، أو ممن يموت على الإيمان فالاستثناء حينئذ جائز إلا أن الأولى تركه باللسان، وملاحظته بالجنان، وبالله التوفيق .

(تنبيه)

قول من قال: إن من شهد [ ص: 278 ] لنفسه بهذه الشهادة فليشهد لنفسه بالجنة، فيه أنه لا محذور في هذا المقال فإنه ليس من قبيل قول القائل: أنا طويل إن شاء الله تعالى بل ينظر قولك: أنا زاهد أنا متق، أنا تائب إن شاء الله، إما قاصدا هضم النفس، والتواضع وهذا إنما يتصور في حق الأكابر، أو قاصدا جهله بحقيقة وجود شروطه، وهذه الأشياء في الحال، أو نظرا إلى مشيئة الله تعالى من احتمال تغير الحال في الاستقبال، ولذا لما سئل أبو يزيد البسطامي هل لحيتك أفضل أم ذنب الكلب، فقال إن مت على الإسلام فلحيتي خير، وإلا فذنبه أحسن، وبهذا يتبين أن من يقول: أنا مؤمن حقا لو قيل له: أنت من أهل الجنة حقا لم يقدر أن يقول نعم، فإنه من الأمر المبهم، والله أعلم .

*استطراد*

اختلف قول أصحابنا في مثل قولك: أنا مؤمن، أنا راشد، أنا متق، إن شاء الله تعالى أي في كل واحد من الإيمان والرشاد، والتقوى مما يكتسب بالاختيار، ويرجى البقاء عليه في العاقبة والمآل، ويحصل به تزكية النفس، والإعجاب، قال الكستلي: وهاهنا فرق دقيق يحصل به الاستثناء في الرشاد والتقوى دون الإيمان وهو أن الرشاد أعني الاهتداء لعمل الصالحات والتقوي أي الانتهاء عن المنهيات ليس واحد منهما شيئا محصلا يحصل تمامه لأحد في وقت معين، فليس الراشد من عمل صالحا في الحال، أو في حين من الأحيان، وكذلك التقي ليس من اجتنب المحارم في حين من أحيان كونه مكلفا، بل الحاصل منهما هيئة نفسانية تدعو إلى امتثال الأوامر وتمنع عن ارتكاب المناهي، وتلك الهيئة تقوى وتضعف وتزول وتثبت، والمعتبر ما هو في القوة والثبات، بحيث يكسر الشهوات، ويقهر النفس الأمارة، ويبقى مدة العمر، وأنى للإنسان ذلك، وكيف لا يشك في حصوله، وأما الإيمان فهو الحصول يحصل لمن هداه الله تعالى بتمامه، وأما ثباته فأمر خارج عن مدلول قوله: أنا مؤمن، فلا وجه للشك والاستثناء فتأمل .

(فصل)

قد ألف قاضي القضاة تقي الدين السبكي رسالة صغيرة في هذه المسألة، وذلك بسؤال ولده له، إما هو الشيخ تاج الدين عبد الوهاب، أو غيره، وقد يحيلون المشايخ كثيرا على هذه الرسالة، وقد سبقت إلي بحمد الله تعالى بخط المصنف مع جملة تآليف له، وهي المسودة الأصلية، فأحببت إيراد خلاصتها هنا تكميلا للفوائد; فإنها غريبة في بابها، وربما لا توجد عند كل أحد، وها أنا أسوق لك مع إسقاط بعض ما لا يحتاج إليه وهو يسير. قال رحمه الله تعالى مخاطبا ولده بعد الحمد لله والصلاة ما نصه:

وبعد، فقد علمت ما ذكرته وفقك الله من أن جماعة من الحنفية في هذا الزمان تكلموا في مسألة "أنا مؤمن إن شاء الله تعالى"، وقالوا: إن الشافعية يكفرون بذلك، وساءني ذلك فإن هاتين الطائفتين وغيرهما من الفقهاء لا ينبغي أن يكون بينهما من الخلاف ما يفضي إلى تكفير ولا تبديع، وإنما هو خلاف في الفروع; فإنهم جميعهم من أهل السنة، إنما يجري في مسألة فرعية أو مسألة أصولية يرجع الخلاف فيها إلى أمر لفظي، أو معنوي لا يترتب عليه كفر ولا بدعة نعوذ بالله من ذلك، فلما بلغني ما قلت تألمت لذلك واستهجنت قول قائله، وعذرته بعض العذر; لأني أعلم أن في كتبهم بأنه لا يصلى خلف شاك في إيمانه، وأرادوا بذلك هذا الكلام، والله يغفر لقائله، إنما صدر من متأخرين منهم إذا حقق البحث معه رجع إلى أمر لفظي .

وما أرادوه به من هذه المسألة يرجع إلى ما اعتقدوه بمن يقول هذه المقالة، وهو بريء بما أرادوه به، وأئمتهم المتقدمون لم يبلغنا عنهم ذلك، وأبو حنيفة- رضي الله عنه- وإن كان قد نقل عنه إنكار قول المؤمن: أنا مؤمن إن شاء الله، لم ينقل عنه مثل ما قاله هؤلاء المتأخرون من أصحابه، وكيف يقول ذلك وعبد الله بن مسعود الذي هو أصل مذهبه، وشيخ شيخ شيخ شيخه قد اشتهر عنه ذلك، بل هو قول أكثر السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. ثم سرد أسماءهم التي سردناها في أول هذا المبحث، ثم قال: وهذا القول صحيح، والناس فيه على ثلاثة مذاهب، منهم من يوجبه ويمنع القطع، بقوله: أنا مؤمن، ومنهم من يمنعه، ويوجب القطع بقوله: أنا مؤمن، ومنهم من يجوز الأمرين وهو الصحيح. والكلام في [ ص: 279 ] هذه المسألة طويل يحتاج إلى مواد كثيرة وقواعد منتشرة، وقلب سليم وفكر مستقيم، ومخاطبة من يفهم عنك ما تقول، ويعاني مثل ما نعانيه في المنقول والمعقول، وارتياض في العلوم، واعتدال في المنطوق والمفهوم، وطبيعة وقادة، وقريحة منقادة، وتجرد في علم الطريق والسلوك، وتقوى وتذكر إذا عرض له مس الشيطان، فتبصر ما تنزاح به عنه الشكوك، وقد يأتي في مباحث هذه المسألة ما أخفى عن كل أحد لعزة من يفهمه، أو يسلم في المعتقد لكني أرجو من الله أن يوفقك لفهمه، ويعصمك، وأنت على كل حال ولد صالح .

وهذه المسألة تستمد من مسائل: إحداها تحقيق معنى الإيمان، وقد صنفت فيه مجلدات ويكفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر". وذكر اللغويون قولين في معنى أن تؤمن ومعنى الإيمان، أحدهما وهو المشهور، أن تصدق والباء للتعدية، فالإيمان التصديق بهذه الأمور الخمسة. والثاني: أن تؤمن نفسك من العذاب، والباء للاستعانة، أو السببية، فالإيمان جعل النفس آمنة بسبب اعتقاد هذه الأمور الخمسة، وعلى هذا القول يظهر جواز الاستثناء; لأن الأمن من عذاب الله مشروط بمشيئة الله بلا إشكال، وتخريج الاستثناء على هذا القول، لم أجده منقولا، وإنما ذكرته، وهذا القول لم يذكره الأكثرون، ولكن الواحدي ذكره في أول تفسيره، وناهيك به ففرعت أنا عليه هذا الجواب .

المسألة الثانية: هل الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، أو خارجة عنه، ظاهر الحديث المذكور أنها خارجة عنه، وقد اشتهر على ألسنة السلف أن الإيمان قول وعمل، وجاء في القرآن والسنة مواضع كثيرة أطلق فيها الإيمان على الأعمال، وهاهنا احتمالات أربعة أحدها، أن تجعل الأعمال من مسمى الإيمان داخلة في مفهومه لكن يلزم من عدمها عدمه، وهذا مذهب المعتزلة .

والثاني أن تجعل أجزاءه داخلة في مفهومه، لكن لا يلزم من عدمها عدمه فإن الأجزاء على قسمين: منها ما لا يلزم من عدمه عدم الذات كالشعر، واليد، والرجل للإنسان، وكالأغصان للشجرة فاسم الشجرة صادق على الأصل وحده وعليه مع الأغصان، ولا يزول بزوال الأغصان، وهذا هو الذي يدل له كلام السلف، وقولهم الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، فلن يجتمع هذان الكلامان إلا على هذا المعنى ومن هنا قال الناس "شعب الإيمان" .

الثالث: أن تجعل الآثار آثارا خارجة عن الإيمان، لكنها منه وبسببه، وإذا أطلق عليها فبالمجاز من باب إطلاق اسم السبب على المسبب .

الرابع: أن يقال: إنها خارجة بالكلية لا يطلق عليها حقيقة ولا مجازا، وهذا باطل والمختار القول الثاني، وتحقيقه أن اسم الإيمان موضوع شرعا للمعنى الكلي المشترك بين الاعتقاد والقول والعمل، والاعتقاد والقول دون العمل والاعتقاد وحده بشرط القول، فإذا عدم العمل لم يعدم الإيمان، وإذا عدم القول لم يعدم الإيمان، ولكن عدم شرطه، وإذا عدم الاعتقاد عدم الجميع; لأنه الأصل إذا عرفت ذلك، فإذا قلنا: الأعمال داخلة في مسمى الإيمان كان دخول الاستثناء جائزا لأن المؤمن غير جازم بكمال الأعمال عنده، وبهذا يشعر كلام كثير من السلف وأنهم إنما استثنوا لذلك لكن هذا يقتضي أحد أمرين، إما أن الإيمان لا يحصل إلا بالأعمال، وقد قلنا: إنه مذهب المعتزلة وعليه يلزم أن من فقد الأعمال يجزم بعدم الإيمان لا أنه يقتصر على الاستثناء، وأما أن نقول: إن الإيمان حقيقة واحدة صادقة على القليل، وهو مجرد الاعتقاد الكثير، والصحيح، والكثير وهو المضاف إليه الأعمال، ولها مراتب أدناها إماطة الأذى عن الطريق، ومؤمن اسم فاعل مشتق من مطلق الإيمان، فلا يشترط فيه وجود أعلى مراتبه إلا أن يراد بالإيمان الإيمان الكامل فيصح. وأما أصل الإيمان فلا يصح الاستثناء فيه على هذا الجواب عند هذه الطائفة على هذه الطريقة، وقال بعض الناس: السلف إنما استثنوا لاعتقادهم دخول الأعمال في الإيمان، وفيه نظر لما ذكرناه، فالوجه أن يضاف إلى ذلك أن إطلاق قولهم: أنا مؤمن، يقتضي أنه جامع بين القول والعمل، فلذلك استثنوا وليس ببعيد .

المسألة الثالثة: أن الإيمان إنما ينفع في الآخرة إذا مات عليه، فمن مات كافرا [ ص: 280 ] لم ينفعه إيمانه المتقدم، وهل نقول: إنه لم يكن إيمانا; لأن من شرط الإيمان أن لا يعقبه كفر، أو كان إيمانا، ولكن بطل فيما بعد لطريان ما يحبطه أو كان الحكم بكونه إيمانا صحيحا موقوفا على الخاتمة، كما يتوقف الحكم بصحة الصلاة والصوم على تمامهما; لأنها عبادة واحدة مرتبط أولها بآخرها، فيفسد أولها بفساد آخرها، تخرج من كلام العلماء ثلاثة أقوال من ذلك: والأول قول الأشعري، والثاني ظاهر القرائن تدل له حيث حكم بأن المرتد يحبط عمله إذا مات كافرا، والثالث: اقتضاء كلام بعضهم، وعلى كل الأقوال الثلاثة يصح الاستثناء للجهل بالعاقبة التي هي شرط إما في الأصل، وإما في التدين وإما في النفع، ويكون الاستثناء راجعا إلى أصل الإيمان، ولا يحتاج أن نقول: إن الأعمال داخلة فيه، ويلزم على هذا حصول الشك فيه، لكن هذا شك لا حيلة للعبد فيه، فإنه راجع إلى الخاتمة التي لا يعلمها إلا الله، وليس شكا في اعتقاده الحاصل الآن، نعم هو شك في كونه نافعا وصحيحا ومسمى عند الله إيمانا وإن كان صاحبه جازما بأنه إيمان قد أتى بما في قدرته من ذلك من غير تفريط ولا تقصير، ولا ارتياب عنده فيه .

*المسألة الرابعة: ولم أجد من تعرض للتخريج عليها غيري، وهي التي أشرت إلى عزة من يفهمها واحتياج سامعها إلى تثبت في الفهم بتوفيق من الله بالسلامة، أنا وإن سلمنا أن الإيمان التصديق وحده من غير إضافة الأعمال إليه، ولا الأمن من العذاب بسببه، ولا اشتراط الخاتمة في مسماه، فنقول: التصديق يتعلق بالمصدق به، وهو الخمسة المذكورة في الحديث، ويشترط معرفة المصدق به، فلا بد للتصديق من المعرفة، ويشهد لذلك ما رواه البغوي أبو القاسم من حديث يوسف بن عطية، عن ثابت، عن أنس قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي استقبله شاب من الأنصار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم، "كيف أصبحت يا حارثة، قال: أصبحت مؤمنا بالله حقا، قال: أتظن ما تقول فإن لكل قول حقيقة، قال: يا رسول الله، عزفت نفسي عن الدنيا، فأسهرت ليلي، وأظمأت نهاري، وكأني بعرش ربي بارزا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتعاوون فيها، قال: أبصرت فالزم، عبد نور الله الإيمان في قلبه، فقال: يا رسول الله، ادع الله لي بالشهادة، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم" .

وهذا الحديث يذكره الصوفية كثيرا وهو مشهور عندهم، وإن كان في سنده ضعف من جهة يوسف بن عطية وهو شاهد لأمرين، أحدهما جواز إطلاق "أنا مؤمن" من غير استثناء، والثاني الإشارة إلى ما قلناه، من أن هذا الإطلاق تشترط فيه المعرفة، والمعرفة يتفاوت الناس فيها تفاوتا كثيرا، فمعرفة الله تعالى معرفة وجوده ووحدانيته، وصفاته أما ذاته فغير معلومة للبشر، ووجوده معلوم لكل أحد، ووحدانيته معلومة لجميع المؤمنين، وصفاته يتفاوت المؤمنون في معرفتها، وأعلى المعارف لا نهاية لها، فلا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى، وأعلى الخلق معرفة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم الأنبياء والملائكة على مراتبهم، وأدنى المراتب الواجب الذي لا بد منه في النجاة من النار، وفي عصمة الدم وبين ذلك وسائط كثيرة منها واجب، ومنها ما ليس بواجب وكل ذلك داخل في اسم الإيمان; لأنه تصديق بها، وبالإخلال به والعياذ بالله قد يترك ذلك الواجب فقد يخرج من الإيمان به، وقد لا يخرج، والحد في ذلك مزلة قدم للمتكلمين، والسالكين كل منهم يتكلم فيه على قدر علمه، ويقف فيه على قدر خوفه .

وأحوال القلوب في ذلك متفاوتة جدا، والمعارف الإلهية المفاضة عليها من الملكوت الأعلى واسعة جدا، فالخائف ما من مقام ينتهي إليه إلا ويخاف أن يكون فيه على خطر وينخلع قلبه من الهيبة فيفزع إلى المشيئة، ويقول: حسبي إن كنت أديت الواجب، وسواه رجلان أحدهما أقامه الله تعالى مقام البسط، وانشراح الصدر باليقين، فيطلق، والآخر غافل عن الحالين، اكتفى بظاهر العلم، يكتفي عنه بالإطلاق أيضا، وعلى هذه الأحوال الثلاثة يحمل اختلاف السلف في ذلك، وكل قصد الخير وتكلم على حسب حاله وليس فيهم من يكفر بعضا بل كل متكلم على قدر حاله، وكل إناء بالذي فيه يرشح، ومن قال من العلماء بوجوب الاستثناء غلب عليه حال استحضار تلك الأمور [ ص: 281 ] المانعة من الجزم، ومن منعه غلب عليه وجوب الجزم بالتصديق، وانغمرت تلك الأمور المقابلة له في قلبه، ومن جوز الأمرين نظر إلى الطرفين وليس أحد منهم شاكا فيما هو حاصل الآن ولا مقصرا فيما وجب عليه ولله الحمد والمنة .

المسألة الخامسة: قال بعض الناس: إن الاستثناء للشك في القبول، وهذا يلتفت على أن الإيمان هل يوصف بالقبول وعدمه أو بالصحة وعدمها، أما القبول فالظاهر أنه متى حصل الإيمان والوفاة عليه قبل قطعا، وكذا الصحة إذا اتفق التصديق المطابق ومات عليه فهو صحيح قطعا، وإنما يكون فساده إذا صدق تصديقا غير مطابق، والعياذ بالله، فمن يعتقد في الله أو في صفاته ما يكفر به لا يقال إنه مؤمن إيمانا فاسدا، بل ليس بمؤمن؛ فالإيمان من الأمور التي ليس لها إلا وجه واحد كأداء الدين وما أشبهه .

المسألة السادسة: جميع ما ذكرناه حملت إن فيه على ما وضعت له في اللغة من دخولها على المحتمل الذي يقال إنه الشك، وقد عرفناك تخريج الشك فيها على وجه لا يقتضي كفرا ولا شكا في الإيمان، أما إذا قصد بها جاهل شكا في أصل التصديق الواجب عليه لا بوجه من الوجوه التي ذكرناها، فذلك باطل وكفر وضلال .

المسألة السابعة: أن تدخل على شرط وجزاء ولا بد أن يكونا مستقبلين، كقولك: إن جئتني أكرمتك، ولك أن تقدم الجزاء، وحينئذ يكون هو عين الجزاء على مذهب الكوفيين، ودليله على مذهب البصريين كقولك أنا مؤمن إن شاء الله، ووضع اللسان يقتضي الاستقبال كما قلناه، فيكون معناه أنا مؤمن في المستقبل كما أنا مؤمن في الحال، لكن الناس لا يفهمون منها ذلك ولم يضعوا هذا الكلام إلا للاحتراز عن القطع بالإيمان في الحال، فالمراد بقوله: أنا مؤمن في الحال، ولكنه لما تطرق إليه التردد بالاعتبارات التي ذكرناها صار له ارتباط بالمستقبل فجاز تعليقه بالمستقبل، والحاضر لا يجوز تعليقه إلا على هذا الوجه، أما الحاضر المقطوع به من جميع وجوهه فلا يتصور تعليقه، فلا يقال: أنا إنسان إن شاء الله، ولا اعتبار بقول المرازقة فإنهم مبتدعة جهال ضلال في ذلك .

ولتعليق الحال بالمشيئة وجه آخر يمكن الحمل عليه بالنسبة إلى اللغة، وهو أن يكون المعنى: إن كان الله شاء فأنا مؤمن، فهو جائز بالاعتبارات التي قلناها، ولكن ذكرنا لفظ كان تصحيحا للتعليق بحسب اللغة ليصير بمعنى الثبوت في المستقبل حتى يكون الشرط مستقبلا ويكون الجزاء محذوفا يدل عليه هذا المذكور، كما تقول: إن أكرمتني غدا فأنا الآن محسن إليك أي: لا بدع في إكرامك لي لأني محسن إليك الآن .

المسألة الثامنة: خرجوا إن شاء الله هاهنا على معنى آخر غير الشك وهو التبرك أو التأدب، وساق الآيتين، قوله تعالى: ولا تقولن لشيء الآية، وقوله تعالى: لتدخلن المسجد الحرام الآية، ولقوله صلى الله عليه وسلم: إني لأرجو أن أكون أتقاكم ، وقد علم أنه أتقاهم، وهذا صحيح لكنه كله مستقبل، وربط المستقبل بالشرط لا يستنكر، وأما الذي يتعلق بخصوصية ما نحن فيه ربط الحال بالشرط فلذلك احتجنا إلى زيادة الكلام فيه، والله أعلم. كلام التقي برمته، ولم أحذف منه إلا ما لا يحتاج إليه وهو قليل جدا، فرحمه الله تعالى لقد كتبه في بعض نهار تأليفا ما لم يكتب غيره مثله في خمسة أيام .

استطراد:

خلف كلام السبكي قد تقدم لنا عنه النقل عند قول المصنف، فإن قلت ما وجه قول السلف: أنا مؤمن إن شاء الله. ذكر أسامي جماعة من السلف ثم رأيت ذلك بعينه في كتاب السنة للالكائي إلا أن السبكي زاد عند ذكر ابن مسعود، واختلف في رجوعه عنه فقد قرأت في تلخيص الأدلة لأبي إسحاق الصفار، قال وذكر الأستاذ أبو محمد الحارثي الحافظ في كتاب الكشف عن مناقب الإمام عن موسى بن كثير عن ابن عمر أنه أخرج شاة لتذبح فمر به رجل فقال له: أمؤمن أنت؟ قال: نعم إن شاء الله، قال: لا يذبح نسيكتي من يشك في إيمانه، ثم مر به رجل فقال له: أمؤمن أنت؟ قال: نعم فذبح شاته، فلم يجعل من يستثني في إيمانه مؤمنا وجعله شكا في الإيمان، وأسند عن عطاء أنه كان ينكر على من يستثني في إيمانه، وأسند عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يستثني في إيمانه، وكذلك أصحابه، فلقيهم صاحب معاذ بن جبل وناظرهم حتى أنزل ابن مسعود وجماعته عن ذلك، واستغفر ابن مسعود عن ذلك، وعد ذلك خطأ [ ص: 282 ] من نفسه، وأسند عن همام بن مسلم عن أبي حنيفة أنه كان لا يرى الصلاة خلف من يستثني في إيمانه، وأسند عن سفيان الثوري أنه رجع عن الاستثناء في الإيمان، وروى غيره عن ابن المبارك: من شك في إيمانه فليس بمؤمن، ويعني بالشك أنه لا يدري هل هو مؤمن أو ليس بمؤمن، وأما إذا لم يشك هذا الشك ولكنه يستثني على معنى أنه هل يبقى على الإيمان في مستقبل الوقت، أو على أن قوله: أنا مؤمن حقا، يقتضي استكمال الإيمان بتوابعه، كما يقال: فلان عالم حقا، أنه يقتضي استكمال العلم بما يوجبه العلم، فهذا لا يكون شكا في الإيمان، ولكنه يكون خطأ في القول; لأن توابع الإيمان ليست من أصل الإيمان، فنفس الإيمان يكون حاصلا بدون توابعه، فلا يصح الاستثناء في الإيمان، ألا ترى أن ابن مسعود رجع عن هذا، واستغفر ولم يكن ابن مسعود شاكا في الإيمان، وكذلك رجوع سفيان عن هذا الاستثناء يدل على كونه على خطأ في هذا الاستثناء، وإن لم يكن شاكا في إيمانه، وقد حكي أن أبا حنيفة لقي قتادة، فقال له أبو حنيفة: أمؤمن أنت؟ فقال قتادة: نعم إن شاء الله، فقال له أبو حنيفة: أرغبت عن ملة إبراهيم فإنه قال: بلى لما قال له ربه: أولم تؤمن ؟ وفي بعض الروايات قال له قتادة: أرجو, فقال له أبو حنيفة: ولم ذلك؟ قال لقوله تعالى: والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين . قال: فهلا قلت كما قال إبراهيم: بلى، لما قال له ربه: أولم تؤمن ؟ وفي بعض الروايات لما قال له أبو حنيفة: ولم ذاك؟ قال لقوله: ولكن ليطمئن قلبي ، فقال له أبو حنيفة: هلا قلت كما قال إبراهيم: بلى، حين قال له ربه أولم تؤمن فالتزم قتادة لما ألزمه أبو حنيفة بما ذكر .

قلت: فقد ظهر بما تقدم أن المنع عن الاستثناء في الإيمان قال به جماعة من السلف، ولم ينفرد به أبو حنيفة وأصحابه، كما يقوله المخالفون لهم، بل الاختلاف حاصل في الطبقة الأولى على أنه وافقهم في ذلك جماعة من أهل الضلال قولهم كقول أصحاب أبي حنيفة، وإن كان موافقتهم لا يعتد بها منهم الشمرية والثوبانية والشبيبية والغيلانية والمرليية والنجارية - لا كثرهم الله تعالى - كما أن الأشاعرة وافقهم من طوائف الضلال في جواز القول به جماعة، وهم الخوارج والأزارقة والصفرية وغلاة الروافض وفريق من المعتزلة، والله أعلم.-

(النوع الثاني من الفصول الثلاثة في ذكر ما له تعلق بالإيمان، وهذا النوع نذكر فيه ثلاثة مباحث) :

(المبحث الأول) في بيان ما يتعلق بالإيمان. قال الكمالان ما يجب به الإيمان هو ما جاء به محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل فيجب التصديق بجميع ما جاء به عن الله تعالى من اعتقادي وعملي، وتفاصيلهما كثيرة، فاكتفي بالإجمال وهو أن يقر بأن لا إله إلا الله محمد رسول الله، إقرارا صادرا عن مطابقة جنانه واستسلامه للسانه، وأما التفاصيل فما وقع منهما في الملاحظة بأن جذبه جاذب إلى تعقل ذلك الأمر التفصيلي وجب إعطاؤه حكمه من وجوب الإيمان، فإن كان مما ينفي جحده الاستسلام، أو يوجب التكذيب للنبي صلى الله عليه وسلم، فجاحده حكم بكفره وإلا فسق وضلل، فما ينفي الاستسلام هو كل ما يدل على الاستخفاف من الألفاظ والأفعال الدالة عليه، وما يوجب التكذيب هو جحد كل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ادعاؤه ضرورة كالبعث والجزاء والصلوات الخمس، وأما التبري من كل دين يخالف دين الإسلام، فإنما شرطه بعضهم لإجراء أحكام الإسلام عليه في حق بعض أهل الكتاب الذين يقولون: إن محمدا صلى الله عليه وسلم إنما أرسل للعرب خاصة لا إلى أهل الكتاب لا لثبوت الإيمان له فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنه لو اعتقد عموم الرسالة وتشهد فقط كان مؤمنا عند الله، إذ يلزم اعتقاده ذلك التبري، ولم يشترطه بعضهم لأنه عليه السلام كان يكتفي بالتشهد منهم، وقد نقل إسلام عبد الله بن سلام، وليس فيه زيادة على التشهد، ويجاب عن هذا بأن كل من كان بحضرته صلى الله عليه وسلم من كتابي أو مشرك، فقد سمع منه ادعاء عموم الرسالة لكل أحد، فإذا شهد أنه رسول الله لزم تصديقه إجمالا في كل ما يدعيه بخلاف الغائب فإنه لم يسمع منه فتمكنت الشبهة في إسلامه بمجرد التشهد لجواز أن ينسب إلى الناس الافتراء في ادعاء العموم جهلا بثبوت التواتر عنه به، والله أعلم .

(المبحث الثاني في بيان أن الإيمان مخلوق أو غير مخلوق) اختلف أهل [ ص: 283 ] السنة والجماعة فقيل: هو مخلوق. وإليه ذهب الحارث المحاسبي وجعفر بن حرب وعبد الله بن كلاب وعبد العزيز المكي وغيرهم، هكذا نقله الأشعري عنهم، وإليه ذهب أهل سمرقند من الماتريدية، ونقل الأشعري عن أحمد بن حنبل وجماعة من أهل الحديث أنه غير مخلوق، وهو قول أهل بخارى وفرغانة من الماتريدية وهو الذي رواه نوح بن أبي مريم عن أبي حنيفة، وقال صاحب المسايرة: وإليه مال الأشعري، ووجهه بما حاصله أن إطلاق الإيمان في قول من قال: إن الإيمان غير مخلوق ينطبق على الإيمان الذي هو من صفات الله، لأن من أسمائه الحسنى المؤمن، وإيمانه هو تصديقه في الأزل بكلامه القديم وإخباره الأزلي بوحدانيته، كما دل عليه قوله تعالى: إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني ولا يقال: إن تصديقه محدث ولا مخلوق تعالى أن يقوم به حادث. .

ولا يخفى أن الكلام ليس في هذا المرام إذ أجمعوا على أن ذاته وصفاته تعالى أزلية قديمة، وإن اعتبر هذا المعنى لا يصح أن الصبر والشكر ونحوهما غير مخلوق حيث ورد معانيهما في أسمائه الحسنى، بل السمع والبصر والحياة والقدرة وأمثالها، ولا أظن بأن أحدا قال بهذا العموم، وأوجب الكفر لهذا المفهوم الموهوم; لأن صفاته تعالى مستثناة عقلا ونقلا، وعلل أهل بخارى بأن الإيمان أمر حاصل من الله للعبد; لأنه تعالى قال بكلامه الذي ليس بمخلوق، فاعلم أنه لا إله إلا الله، وقال تعالى: محمد رسول الله فيكون المتكلم بمجموع ما ذكر قد قام به ما ليس بمخلوق، وكما أن من قرأ القرآن كلام الله الذي ليس بمخلوق، وهذا غاية متمسكهم، ونسبهم مشايخ سمرقند إلى الجهل; إذ الإيمان بالوفاق هو التصديق بالجنان والإقرار باللسان وكل منهما فعل من أفعال العبد، وأفعال العباد مخلوقة لله تعالى باتفاق أهل السنة والجماعة، قال ابن الهمام في المسايرة، ونص أبي حنيفة في الوصية في خلق الإيمان حيث قال: نقر بأن العبد مع أعماله وإقراره ومعرفته مخلوق هذا، وقد نقل بعض أهل السنة أنهم منعوا من إطلاق القول بحلول كلامه سبحانه في لسان أو قلب أو مصحف وإن أريد به اللفظي رعاية للأدب مع الرب لئلا يتوهم متوهم إرادة نفس القديم، والله أعلم .

(المبحث الثالث) في بيان أن الإيمان باق مع النوم والغفلة والإغماء والموت وأن كلا منهما لا يضاد التصديق والمعرفة حقيقة; لأن الشرع حكم ببقاء حكمهما إلى أن يقصد صاحبها إلى إبطالها باكتساب أمر حكم الشرع بمنافاته لهما فيرتفع ذلك الحكم خلافا للمعتزلة في قولهم: إن النوم والموت يضادان المعرفة فلا يوصف النائم والميت بأنه موقن، كذا ذكره ابن الهمام لكنه مخالف لما في المواقف عنهم أنهم قالوا: لو كان الإيمان هو التصديق لما كان المرء مؤمنا حين لا يكون مصدقا كالنائم حال نومه والغافل حين غفلته وأنه خلاف الإجماع . فارتفع النزاع فتأمل .

(خاتمة المباحث)

في بيان ما يقابل الإيمان وهو الكفر أعاذنا الله منه، اختلفوا في المقابلة بين الكفر والإيمان هل هي مقابلة الضدين أو مقابلة العدم والملكة، فمن قال بالأول قال: الكفر عبارة عن إنكار ما علم بالضرورة مجيء الرسل به، ومن قال بالثاني فسره بقوله عدم الإيمان عما من شأنه أن يكون مؤمنا، وعلى كلا القولين يخرج ارتكاب الذنوب; إذ لا يكون مرتكبها بارتكابه إياها منكر الشيء من الدين معلوما ضرورة أنه منه، وهذا ظاهر، ولم يخالف فيه أحد من أهل السنة والجماعة، لا يقال قد خالف جماعة من الفقهاء حيث يكفر من ترك فرضا من الفروض الخمسة أعني الصلاة وأخواتها; لأنا نقول: إنما كفروه بذلك لأن الشارع جعل ذلك علامة على كفره لقوله عليه السلام: ليس بين المؤمن والكافر إلا ترك الصلاة. كما جعل السجود للصنم وإلقاء المصحف في القاذورات وأمثال ذلك كفرا، وليس من التكفير بمجرد الذنب، يبقى النظر في الأدلة الشرعية التي جعلت هذا علامة الكفر في كون هذا علامة لاحتمال أن يكون الترك كسلا لا استهزاء ولا استحلالا بتركها، وهذا نظر آخر فاعرفه، والمسألة اجتهادية، والحق عدم التكفير، وسيأتي لذلك بسط، والله أعلم .

(النوع الرابع من الفصول الثلاثة) في بيان مسائل اعتقادية يتمم بها كتاب قواعد العقائد، وهي في فصول: [ ص: 284 ]

(فصل)

العبد ما دام عاقلا بالغا لا يصل إلى مقام يسقط عنه الأمر والنهي لقوله تعالى: واعبد ربك حتى يأتيك اليقين . قد أجمع المفسرون على أن المراد به الموت، وذهب بعض أهل الإباحة إلى أن العبد إذا بلغ غاية المحبة وصفا قلبه من الفضلة، واختار الإيمان على الكفر والكفران سقط عنه الأمر والنهي، ولا يدخله الله النار بارتكاب الكبائر، وبعضهم إلى أنه تسقط عنه العبادات الظاهرة، ويكون عبادته التفكر وتحسين الأخلاق الباطنة، وهذا كفر وزندقة وجهالة وضلالة، وأما قوله عليه السلام: إذا أحب الله عبدا لم يضره الذنب. فمعناه أنه إذا عصمه من الذنوب فلم يلحقه ضرر العيوب، أو وفقه للتوبة بعد الحوبة، ومفهوم هذا الحديث أن من أبغضه الله فلا تنفعه طاعة; حيث لا تصدر عنه عبادة صالحة بنية صادقة; ولذا قيل:

من لم يكن للوصال أهلا فكل طاعة له ذنوب



وأما ما نقل عن بعض الصوفية من أن العبد السالك إذا بلغ مقام المعرفة سقط عنه تكليف العبادة فوجهه بعض المحققين منهم بأن التكليف مأخوذ من الكلفة بمعنى المشقة، والعارف يعبد ربه بلا كلفة ولا مشقة، بل يتلذذ بالعبادة، وينشرح قلبه بالطاعة، ويزداد شوقه ونشاطه بالزيادة علما بأنها سبب السعادة; ولهذا قال بعض المشايخ: الدنيا أفضل من الآخرة لأنها دار الخدمة، والآخرة دار النعمة، ومقام الخدمة أولى من مرتبة النعمة، وقد حكي عن علي رضي الله عنه أنه قال: لو خيرت بين المسجد والجنة لاخترت المسجد; لأنه حق الله سبحانه، والجنة حظ النفس، ومن ثمة اختار بعض الأولياء طول البقاء في الدنيا على الموت مع وجود اللقاء في العقبى، والحاصل أن الترقي فوق التوقف كالتدلي، والله أعلم .

(فصل)

الحرام رزق؛ لأن الرزق اسم لما يسوقه الله تعالى إلى الحيوان فيتناوله وينتفع به، وذلك قد يكون حلالا، وقد يكون حراما، وذهب المعتزلة إلى أن الحرام ليس برزق; لأنهم فسروه تارة بمملوك يأكله المالك، وأخرى بما لم يمنعه الشارع من الانتفاع به، وذلك لا يكون إلا حلالا، ويرد عليهم أنه يلزم على الأول أن لا يكون ما تأكله الدواب بل العبيد والإماء رزقا على الوجهين الأخيرين، وأن من أكل الحرام طول عمره لم يرزقه الله تعالى، ويرد الوجوه الثلاثة قوله تعالى: وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها فيستوفي كل رزق نفسه حلالا كان أو حراما، ولا يتصور أن لا يأكل الإنسان رزقه أو يأكل غيره; لأن ما قدره الله تعالى غذاء لشخص يجب أن يأكله، ويمنع أن يأكل غيره، وأما الرزق بمعنى الملك فلا يمتنع أن يأكله غيره، ومنه قوله تعالى: ومما رزقناهم ينفقون ، والله أعلم .

(فصل)

الدعاء مخ العبادة، كما في حديث، وقال الله تعالى: ادعوني أستجب لكم ، وأنكرت المعتزلة أن يكون للدعاء تأثير في تغيير القضاء، ورد بأن الدعاء يرد البلاء إذا كان على وفق القضاء، والمراد بالقضاء هو المعلق لا المبرم، واختلف في أن الدعاء أفضل عند نزول البلاء أم السكوت والرضا، فقيل: الأول لأنه عبادة في نفسه وهو مطلوب ومأمور بفعله، وقيل: السكوت والخمود تحت جريان الحكم أتم رضا، ولا يبعد أن يقال: الأتم هو أن يجمع بينهما بأن يدعو باللسان ويكون في الجنان تحت الجريان بحكم الجنان: وقيل: الأولى أن يقال: إن الأوقات مختلفة، ففي بعضها الدعاء أفضل، والفاصل بينهما الإشارة، فمن وجد في قلبه إشارة إلى الدعاء فهو وقته، كما ورد: من فتح له أبواب الدعاء فتحت له أبواب الإجابة أو الرحمة أو الجنة، ومن وجد في قلبه إشارة إلى السكوت فهو وقته، كما جاء عن إبراهيم عليه السلام لما قال له جبريل عليه السلام: ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، قال: فاسأل ربك، قال: حسبي من سؤالي علمه بحالي، ويجوز أن يقال: ما كان للعباد فيه نصيب ولله تعالى فيه حق فالدعاء أولى، وما كان فيه حظ النفس للداعي فالسكوت عنه أولى، وهذا أعلى وأغلى، والله أعلم .

(فصل)

اتفق أهل السنة على أن الأموات ينتفعون من سعي الأحياء بأمرين أحدهما ما تسبب إليه الميت في حياته، والثاني دعاء المسلمين واستغفارهم له والصدقة والحج على نزاع فيما يصل من ثواب [ ص: 285 ] الحج، فعن محمد بن الحسن أنه إنما يصل للميت ثواب النفقة والحج للحاج، وعند عامة أصحابنا ثواب الحج للمحجوج عنه وهو الصحيح، واختلف في العبادات البدنية كالصوم والصلاة وقراءة القرآن والذكر، فذهب أبو حنيفة وأحمد وجمهور السلف إلى وصولها، والمشهور من مذهب الشافعي ومالك عدم وصولها، وذهب بعض أهل البدع من أهل الكلام إلى عدم وصول شيء البتة لا الدعاء ولا غيره، وقوله مردود بالكتاب والسنة واستدلاله بقوله تعالى: وأن ليس للإنسان إلا ما سعى مدفوع بأنه لم ينف انتفاع الرجل بسعي غيره، وإنما نفى ملك غير سعيه، وأما سعي غيره فهو ملك لساعيه، فإن شاء أن يبذله لغيره، وإن شاء أن يبقيه لنفسه، وهو سبحانه وتعالى لم يقل إنه لا ينتفع إلا بما سعى، ثم قراءة القرآن وإهداؤه له تطوعا بغير أجرة يصل إليه، أما لو أوصى بأن يعطى شيء من ماله لمن يقرأ القرآن على قبره فالوصية باطلة; لأنه في معنى الأجرة، كذا في الاختيار، والعمل الآن على خلافه، فالأولى أن يوصي بنية التعلم والتعليم ليكون معونة لأهل القرآن، فيكون من جنس الصدقة عنه فيجوز، ثم القراءة عند القبور مكروهة عند أبي حنيفة ومالك وأحمد في رواية; لأنه لم ترد به السنة، وقال محمد بن الحسن وأحمد في رواية: لا تكره لما روي عن ابن عمر أنه أوصى أن يقرأ على قبره وقت الدفن بفواتح سورة البقرة وخواتمها، والله أعلم .

(فصل)

كره أبو حنيفة وصاحباه أن يقول الرجل: أسألك بحق فلان أو بحق أنبيائك ورسلك أو بحق البيت الحرام والمشعر الحرام ونحو ذلك; إذ ليس لأحد على الله حق، وكذلك كره أبو حنيفة ومحمد أن يقول الداعي: اللهم إني أسألك بمعاقد العز من عرشك أو بمقاعد، وأجازه أبو يوسف لما بلغه الأثر فيه، وأما ما ورد من قول الداعي: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي إليك، فالمراد بالحق الحرمة أو الحق الذي وعده بمقتضى الرحمة، والله أعلم .

(فصل)

في المنار لحافظ الدين النسفي أن القرآن اسم للنظم والمعنى، وما ينسب للإمام أبي حنيفة أن من قرأ بالصلاة بالفارسية أجزأه، فقد رجع عنه، وقال: لا يجوز بغير العربية إلا مع عدم القدرة، وقالوا: لو قرأ بغير العربية فإما أن يكون مجنونا فيداوى، أو زنديقا فيقتل; لأن الله تعالى تكلم بهذه اللغة، والإعجاز حصل بنظمه ومعناه، قلت: ونقل الغنيمي في حاشية أم البراهين ما نصه: قالوا ومن الجلي الواضح أن وضع اللغات ليس إلا لتفهيم السامع، فالمحوج إليه التكليم والخطاب لا التكلم أو الكلام، قال: ومن هذا يظهر نفي الأئمة رضي الله عنهم، فالشافعي مثلا لا يجوز الترجمة بالفارسية ونحوه; لأن الثابت للضرورة يتقدر بقدرها، والرخص لا يتعدى بها مورد النص، وأبو حنيفة لم يجوز التلاوة بالترجمة، وإنما حكم بصحة صلاة المترجم للقراءة من حيث إن الأصول محفوظة جائز تبلغها باللغة المترجم بها لو كانت لسان النبي المبلغ له . فانظره مع كلام صاحب المنار هل يساعده أو يضاده، والله أعلم .

(فصل)

تصديق الكاهن بما يخبر به من الغيب كفر لقوله تعالى: لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله ولقوله عليه السلام: من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، ثم الكاهن هو الذي يخبر عن الكوائن في مستقبل الزمان، ويدعي معرفة الأسرار في المكان، وقيل: هو الساحر والمنجم إذا ادعى العلم بالحوادث الآتية فهو مثل الكاهن، وفي معناه الرمال، قال القونوي: والحديث يشمل الكاهن والعراف والمنجم، فلا يجوز اتباع المنجم والرمال وغيرهما كالضارب بالحصى، وما يعطى هؤلاء حرام بالإجماع، كما نقله البغوي والقاضي عياض وغيرهما، ولا اتباع من ادعى الإلهام فيما يخبر به عن إلهاماته بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا اتباع قول من ادعى علم الحروف المهجاة; لأنه في معنى الكاهن. .

قال ملا علي: ومن جملة علم الحروف فأل المصحف حيث يفتحونه وينظرون في أول الصحيفة أي حرف وافقه،، وكذا في الورقة السابعة، فإن جاء حرف من الحروف المركبة من تسخلاكم حكموا بأنه غير مستحسن، وفي سائر الحروف بخلاف ذلك، وقد صرح ابن العجمي في منسكه فقال: اختلفوا في الفأل فكرهه [ ص: 286 ] بعضهم وأجازه آخرون، ونص المالكية على تحريمه. . ولعل من أجاز الفأل أو كرهه اعتمد على المعنى، ومن حرمه اعتبر حروف المبنى فإنه في معنى الاستقسام بالأزلام، قلت: بل هو تلاعب بالقرآن. وقال الكرماني: ولا ينبغي أن يكتب على ثلاث ورقات من البياض افعل لا تفعل: أو يكتب الخير والشر ونحو ذلك فإنه بدعة. .

وذكر في المدارك ما يدل على أنه حرام بالنص فراجعه، وقال الزجاجي: لا فرق بين هذا وبين قول المنجمين: لا تخرج من أجل نجم كذا، أو اخرج لطلوع الشمس كذا، قلت: ولإبطال هذه الأشياء جعل النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الاستخارة وبعدها الدعاء المأثور كما هو المشهور، وقد ورد ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار، وقال شارح الطحاوية: الواجب على ولي الأمر وكل قادر أن يسعى في إزالة هؤلاء المنجمين والكهان والعرافين وأصحاب الضرب بالرمل والحصى والقرع والفألات، ومنعهم من الجلوس في الحوانيت أو الطرقات، أو أن يدخلوا على الناس في منازلهم لذلك، ولا يكفي من يعلم تحريم ذلك ولا يسعى في إزالته مع قدرته لذلك لقوله تعالى: كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون . وهؤلاء الملاعين يقولون الإثم، ويأكلون السحت بإجماع المسلمين، وهؤلاء الذين يفعلون هذه الأفعال الخارجة عن الكتاب والسنة أنواع، نوع منهم أهل تلبيس وكذب وخداع، الذين يظهر أحدهم طاعة الجن له، أو يدعي الحال من أهل الحال كالمشايخ النصابين والفقراء الكذابين والطرقية والمكارين، فهؤلاء يستحقون العقوبة البليغة التي تردعهم وأمثالهم عن الكذب والتلبيس، وقد يكون في هؤلاء من يستحق القتل كمن يدعي النبوة بمثل هذه الخزعبلات، أو يطلب تغير شيء من الشريعة ونحو ذلك، ونوع منهم يتكلم في هذه الأمور على سبيل الجد والحقيقة بأنواع السحر، وجمهور العلماء يوجبون قتل الساحر كما هو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في المنصوص عنه، وهذا هو المأثور عن الصحابة رضي الله عنهم، واتفقوا على أن ما كان من جنس دعوة الكواكب السبعة أو غيرها أو خطابها أو السجود لها والتقرب إليها بما يناسبها من اللباس والخواتم والبخور ونحو ذلك فإنه كفر، وهو أعظم أبواب الشر .

واتفقوا على أن كل رقية وتعزيم أو قسم فيه شرك بالله فإنه لا يجوز التكلم به، وكذا الكلام الذي لا يعرف معناه، ولا يتكلم به لا مكان أن يكون فيه شرك لا يعرف; ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا. ولا يجوز الاستعانة بالجن في قضاء حوائجه وامتثال أوامره وإخباره بشيء من المغيبات ونحو ذلك، واستمتاع الجني بالإنسي هو تعظيمه إياه واستقامته واستعانته وخضوعه له، ونوع منهم بالأحوال الشيطانية والكشوف بالرياضات النفسانية ومخاطبة رجال الغيب وأن لهم خوارق يقتضي أنهم أولياء الله تعالى، وكان من هؤلاء من يعين المشركين على المسلمين ويقولون: إن الرسول أمرهم بقتال المسلمين مع المشركين لكون المسلمين قد عصوا، وهؤلاء في الحقيقة إخوان المشركين وأتباع الشياطين، وإن ثبت وجودهم فإنهم من الجن; لأن الإنس إنما لا يكون محتجبا عن أبصار الإنس، وإنما يحتجب أحيانا، فمن ظن أنهم من الإنس فمن غلطه وجهله، وسبب الضلالة فيهم والاختلاف عدم الفرق بين أولياء الرحمن وبين أولياء الشيطان، وبالجملة فالعلم بالغيب أمر تفرد به سبحانه، ولا سبيل إليه للعباد إلا بإعلام منه وإلهام بطريق المعجزة أو الكرامة أو إرشاد إلى الاستدلال بالأمارات فيما يمكن فيه ذلك، ومن اللطائف ما حكاه بعضهم أن منجما صلب، فقيل له: هل رأيت هذا في نجمك؟ فقال: رأيت رفعة، ولكن ما عرفت أنها فوق خشبة، والله أعلم .

(خاتمة)

الفصول ذكرت فيها عقيدة مختصرة لي أحببت إدراجها هنا اقتداء بالأئمة الأعلام، وإشارة برزت لي بإلهام في المنام، أسأل الله تعالى أن يتقبلها مني بمنه، ويحلني بها في أعلى الفردوس مع أمنه، وهي هذه بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، الحمد لله رب العالمين، مدبر الخلائق أجمعين، والصلاة والسلام على رسوله محمد النبي الصادق الوعد الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه الأكرمين وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد فهذه جملة عقائد الدين وأركان عموده المتين، ومدارها على ثلاثة: الإيمان والإسلام والإحسان [ ص: 287 ] لحديث جبريل عليه السلام المخرج في الصحيحين، فأول ما يجب على المكلف الإيمان وهو التصديق الباطني بكل ما جاء به النبي مما علم بالضرورة إجمالا في الإجمالي، وتفصيلا في التفصيلي، والإجمالي لا بد منه لصحة الإيمان ابتداء كأن يقول: آمنت بالله كما هو بأسمائه وصفاته، والتفصيلي يشترط فيه الدوام والأعمال مكملات، والمؤمن به خمسة في الحديث المذكور، الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وزيد في بعض الروايات: والقدر خيره وشره، فالإيمان الواجب أولا على كل عبد لله هو التصديق بالله تعالى بأنه واحد أحد لا شريك له موجود ليس كمثله شيء، ولا يشبهه شيء منفرد بالقدم بصفاته الذاتية والفعلية، فصفة فعله التكوير وصفات ذاته حياته وعلمه وقدرته وإرادته وسمعه وبصره وكلامه حي عليم قدير، والكلام له باق سميع بصير ما أراد جرى، أحدث العالم باختياره منزه عن الحد والضد والصورة، لا يكون إلا ما يشاء، لا يحتاج إلى شيء وهو حليم عفو غفور، والإيمان بالملائكة بأنهم أمناؤه على وحيه وبالكتب المنزلة بحقيقة ما فيها، وبالرسل بأنهم أفضل عباد الله، وباليوم الآخر بشرائطه وتوابعه وأوله حين قيام الموتى، وما بين ذلك إلى وقت الموت فهو البرزخ، والإيمان بالقدر بأن كل ما كان ويكون فبقدرة من يقول للشيء: كن فيكون، وأما الإسلام فهو التسليم الظاهر لما جاء من عند الله على لسان حبيبه صلى الله عليه وسلم وهو الشهادتان للقادر عليهما، وإقام الصلاة بشروطها وأركانها، وابتداء الزكاة بشروطها وأركانها، وصوم رمضان بشروطه وأركانه، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا بشروطه وأركانه، وأما الإحسان فأن تعبد الله كأنك تراه بغاية المراقبة ونهاية الإخلاص، والتمسك بالتقوى فإنه السبب الأقوى، فالإيمان مبدأ، والإسلام وسط، والإحسان كمال، والدين الخالص عبارة عن هذه الثلاثة هنيئا لمن صح إسلامه، ونال من الدين أدنى نصيب، أقام الصلاة، وآتى الزكاة، وصام وحج، وزار الحبيب، فهذا جملة ما يجب اعتقاده في أصول الدين، وما عدا ذلك خوض فيما لا يليق، والبحر عميق، والسفر طويل، والزاد قليل، فعليكم إخواني بدين الأعراب والعجائز، هدانا الله وإياكم إلى الطريق الأقوم والإثابة بأسنى الجوائز، هذا وقد جف عرق جياد الأفهام وقطعت صحاري الطروس مطايا الأقلام، واستراح العقل عن نكر الاستنهاض، واعشوشب روض الآمال، وارتاض بعد صلاة الظهر من يوم الأربعاء لخمس بقين من شهر رجب سنة 1197 بمنزلي بسويقة لالا.

بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم، الله ناصر كل صابر، الحمد لله الذي حلى سرائرنا بالعقائد الصحية المنجية في دار القرار، وهذب ظواهرنا بأسرار الطهارة وبواطننا بطهارة الأسرار، وجعل خواطرنا خزائن لدقائق معارفه المحفوظة بالأنوار، وأودع قلوبنا من جواهر الحكم الزواهر ما أشرقت كواكبها في رابعة النهار، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد عبده ورسوله ونبيه وصفيه المختار الذي بعثه وطرق الإيمان، قد عفت منه الآثار، فأحياه إحياء الأرض بوابل الأمطار، ونشره في جميع الأقطار حتى ضرب الناس بعطن، وبلغوا به غايات الأوطار، صلى الله عليه وعلى آله السادة الأطهار وأصحابه الخيرة الأبرار، والتابعين لهم بإحسان أولئك لهم عقبى الدار وسلم تسليما وزاده شرفا وتعظيما

(أما بعد)

فهذا شرح (كتاب أسرار الطهارة ومهماتها) وهو ثالث كتاب من كتب إحياء علوم الدين للإمام العدل الثقة حجة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي سقاه الله من صوب الرحمة أغدقه، وأهدى إلى روحه من نسيم المغفرة أعبقه، وقد وفقني الله جلت نعماؤه، وتقدست أسماؤه إلى توضيحه وتقريره، وأرشدني إلى تهذيبه وتحريره، والسلوك في شعابه، والترويض لصعابه والخوض في لججه، والإمداد بإثبات حججه وحل ألفاظه ومعانيه حتى وضح سبيله لمعانيه، وراق زلال فوائده، وامتدت ظلال عوائده، وعلا مكان منقوله، وثبتت أركان معقوله بعد اختياري الآن، ومراجعتي لمصنفات المذهبين، فمنها في مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه الذي هو مذهب المصنف شرح الوجيز للإمام أبي القاسم الرافعي، والمتن للمصنف الذي قيل فيه: لو ادعى النبوة [ ص: 288 ] لكان معجزة له كافية، وهي النسخة التي كتب عليها الإمام النووي بخطه حواشي وطررا وفوائد غررا، فحيث أقول: قال الرافعي، أو في شرح الوجيز فإنما أعني هذا الكتاب، وكتاب الروضة للإمام النووي الذي بسط فيه الشرح المذكور خاليا عن ذكر خلاف غير المذهب، وزاده فوائد تكتب بماء الذهب، ثم شرح البهجة الوردية للولي العراقي، وشرح المنهاج للخطيب الشربيني، واكتفيت بهؤلاء الأربعة; لأنها تضمنت خلاصة ما في المذهب، وأعرضت عما عداها لما بها من كثرة الأقوال والاعتراض والإشكال، وربما نقلت من كتاب تحرير الزوائد وتقريب الفوائد للشيخ صفي الدين أحمد بن عمر المزجد المرادي الزبيدي صاحب العباب ومن غيره، ومنها في مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه الذي هو مذهب الشارح كتاب الهداية للإمام أبي الحسن المرغيناني، وحواشيها للشيخ أكمل الدين، وللجلال الجمازي، وشرح النقاية للتقي الشمني، والمحيط لشمس الأئمة السرخسي، وشرح الجامع الصغير لقاضيخان، والبدائع للكاساني، وشرح الكنز للزيلعي، وشرح المختار لابن أبجا، وهذه غرر كتب المذهب، فاقتصرت عليها، وأعرضت عن كتب المتأخرين إلا ما احتاج النقل منها في بعض المواضع وهو نادر، ومن كتب سوى ذلك مما راجعت فيه لتخريج الأحاديث قد تقدم ذكرها في ديباجة كتاب العلم والعمدة في الغالب على تخريج أحاديث شرح الوجيز لابن الملقن ولتلميذه الحافظ ابن حجر، والمقاصد للحافظ السخاوي، والمصنف لأبي بكر بن أبي شيبة، وشرح مشكل الآثار لأبي جعفر الطحاوي، والسنن الكبرى للبيهقي، وغيرها مما تراه في مواضعه، ومن كتب اللغة ودواوين الفتاوى وغيرها كمحاسن الشريعة للقفال، وشرح التقريب للحافظ العراقي، والمدخل لابن الحاج مما يدخل بالمناسبة على هذا الكتاب فكثير، وأسميته غالبا في مواضعه حيث يبنى عليه الحكم، ولا يخفى أن الإحاطة بالمذاهب أمر عسر جدا، وكذا لمعرفة سائر وجوه المذهب فإنها مع نزارة فائدتها لا تعطي إلا معرفة خلاف في المسألة، فأما كيفيته واطلاعه وتفصيله فلا; فلذا لم أتعرض للخلاف إلا ما كان بين الإمامين أبي حنيفة والشافعي رضي الله عنهما، وهو أيضا الأهم فالأهم منه، واختلاف العلماء فن عظيم لا يمكن ضبطه إلا في كتاب مستقل، وأحسن ما ألف فيه اختلاف العلماء لابن جرير الطبري ولأبي جعفر الطحاوي ولأبي بكر الرازي وللإمام أبي الحسن المكي الهراسي وللوزير ابن هبيرة، والأشراف لابن المنذر، وقد تيسر لي بحمد الله تعالى من كل ذلك أجزاء عدة مع نقص في بعضها، وقد نقلت منها في مواضع من هذا الشرح كما ستراه، وقد التزمت بحمد الله تعالى الوفاء لبيان ما لوح إليه المصنف على قدر طاقتي وجهدي الذي هو أضعف ضعيف، مع قصوري وجمود قريحتي من أنكاد الزمن المخيف قائلا:


وبالله حولي واعتصامي وقوتي وما لي إلا سترة متجللا

ولا تعجب أيها المطالع لهذا الشرح فإن العلوم والمعارف منح إلهية ومواهب قد يعطاها الصغير بعناية الملك القدير، والمرجو من إخوان الصفا أهل المروءة والإنصاف والوفا النظر بعين الرضا والصفح عن عثرات محمد المرتضى; فالإنسان من حيث هو هو محل للقصور ومجبول على النسيان، والجواد قد يكبو في الميدان، والله أسأل أن يمن علي بإتمامه وإكماله بحسن نظامه، وأن لا يجعل كدي فيه هدرا ونصبا، بل يثيبني بفضله خير مكان مثوى ومنقلبا، إنه ولي كل إحسان يفيض على من يشاء من عباده، وهو المنان لا إله غيره، ولا خير إلا خيره، ثم إني قد افتتحت الكلام في ذلك بمقدمة جعلت مدارها على عشرة فصول فتنزل منزلة الأصول، وخاتمة في سند المذهب، وعلى الله المعتمد في بلوغ التكميل وهو حسبنا ونعم الوكيل .

(الفصل الأول) في بيان معنى الفقه، ومتى يطلق على الإنسان اسم الفقيه والإمام، ومتى يجوز له أن يفتي، فأما الفقه فهو مصدر فقه الرجل بمعنى فقئ، فإن الهاء مبدلة من الهمزة، ومعنى فقه الرجل غاص على استخراج معنى القول من قولهم: فقأت عينه إذا بخصتها بخصا استخرجت به شحمتها فجعلت باطنها [ ص: 289 ] ظاهرا بمعنى الفقه على هذا التأويل أنه استخراج الغوامض، والاطلاع على أسرار الكلم، وأما حد الفقيه ففي الأجوبة المكية للحافظ ولي الدين العراقي، قال: قد ذكره الرافعي والنووي في الروضة في الوقف، فقالا: إنما يصح الوقف على الفقهاء، ويدخل فيه من حصل منه شيئا وإن قل، وهذا مقتضاه صدق اسم الفقيه على من حصل من الفقه شيئا وإن قل، وفيه نظر; فإن الفقهاء جمع فقيه وهو اسم فاعل من فقه بضم القاف إذا صار الفقه له سجية، وذلك يقتضي أنه لا بد من تبحره في الفقه وكثرة استحضاره ومعرفته للمآخذ حتى يهتدي إلى تخريج ما لا يستحضر النقل فيه، فإنه لا يصير سجية له إلا بذلك، وهذا هو الموافق لكلام غيرهما من الأصحاب، وذكر القاضي الحسن في تعليقه فيما إذا وقف على الفقهاء أنه يعطى لمن حصل من الفقه شيئا يهتدى به إلى الباقي، قال: ويعرف بالعادة، وقال في تعليقته الأخرى: يصرف إلى من يعرف في كل علم شيئا، فأما من تفقه شهرا أو شهرين فلا، وكان مراده بالعلم النوع في الفقه; ولذا عبر البغوي في التهذيب في الوصية بقوله: صرف لمن حصل من كل نوع، وقال في التتمة في باب الوصية: إنه يرجع فيه إلى العادة، وعبر في الموقف بقوله: إلى من حصل طرفا، وإن لم يكن متجرا، فقد روي: من حفظ أربعين حديثا عد فقيها، ولكن كلام الأصوليين يقتضي اختصاص اسم الفقهاء بالمجتهدين فإنهم عرفوا الفقه بأنه العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية، وذكروا أنهم احترزوا بقولهم: التفصيلية عن العلم الحاصل للمقلد في المسائل الفقهية; فإنه لا يسمى فقها بل تقليدا; لأنه أخذه من دليل إجمالي مطرد في كل مسألة، وهو أنه أفتاه به المفتي فهو حكم الله في حقه، فذلك المفتى به حكم الله في حقه، وأما الإمام فهو الذي يقتدى به، فمن صلح للاقتداء به في علم فهو إمام في ذلك العلم، قال الله تعالى: واجعلنا للمتقين إماما ، وقال تعالى: وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا .

وأما الصفات المعتبرة في المفتي فيعتبر فيه الإسلام والبلوغ والعدالة والتيقظ وقوة الضبط، ثم إنه لا يخلو إما أن يكون مجتهدا أو مقلدا، فأما المجتهد فيعتبر فيه أمور:

أحدها: العلم بكتاب الله تعالى، ولا يشترط العلم بجميعه، بل بما يتعلق بالأحكام، ولا يشترط حفظه عن ظهر القلب .

الثاني: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا جميعها، بل ما يتعلق منها بالأحكام، ويشترط أن يعلم منها العام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، والناسخ والمنسوخ، ومن السنة المتواتر والآحاد والمرسل والمتصل، وحال الرواة جرحا وتعديلا .

الثالث: أقاويل علماء الصحابة ومن بعدهم إجماعا واختلافا .

الرابع: القياس فيعرف جليه وخفيه، ويميز الصحيح من الفاسد .

الخامس: لسان العرب لغة وإعرابا; لأن الشرع ورد بالعربية، وبهذه الجهة يعرف عموم اللفظ وخصوصه وإطلاقه تقليده وإجماله وبيانه، ولا يشترط التبحر في هذه العلوم بل تكفي معرفة جمل منها، وأما المقلد فهل يجوز له الفتوى أم لا، ينبني على أن موت المجتهد هل يخرجه من أن يقلد ويؤخذ بقوله أم لا، والمسألة فيها وجهان أصحهما أنه لا يخرجه، بل يجوز تقليده بعد موته، فعلى هذا يجوز لمقلد الفتوى بمذهبه بعد موته، لكن يشترط أن يكون عارفا بمذهبه متبحرا فيه بحيث يستحضر أكثر، ويعرف المظان ويطلع على المآخذ حتى يتمكن من تخريج ما لا يجده منصوصا لإمامه على قواعده، وبحث الرافعي في أنه يستوي المتبحر وغيره وأن العامي إذا عرف حكم تلك المسألة عن ذلك المجتهد فأخبر به وأخذ غيره به تقليدا للميت وجب أن يجوز على الصحيح، واعترضه النووي في ذلك فقال: هذا ضعيف أو باطل لأنه إذا لم يكن متبحرا ربما ظن ما ليس مذهبا له مذهبه لقصور فهمه وقلة اطلاعه على مظان المسألة واختلاف نصوص ذلك المجتهد والمتأخر بها والراجح وغير ذلك، لا سيما مذهب الشافعي رضي الله عنه، لا يكاد يعرف ما به من الأفراد لكثرة انتشاره واختلاف ناقليه في النقل والترجيح، فإن فرض هذا في مسائل صارت كالمعلومة علما قطعيا عن ذلك المذهب فهذا حس محتمل، والله أعلم .

(الفصل الثاني) الفقه في الدين

هو الفقه للخمس المذكورة في حديث ابن عمر في الصحيحين: بني [ ص: 290 ] الإسلام على خمس، وذلك أنها عبادة لله محضة، وهي تكملة إسلام المؤمن، وما يتفرع منها حاوية شاملة لما تقررت فيه المذاهب أصولا وفروعا، فمن ذلك علم الخلاف بين الفقهاء، فإن معرفة مذاهبهم بأدلتها فضل، والأخذ بها سعة من الله عز وجل، وما انتهت المذاهب إليه فإن كلا منها إذا أخذها أحد ساغ له ذلك، فإن خرج من الخلاف بأن يأخذ بالأحوط معتمدا ذلك في كل ما يمكنه الخروج من الخلاف، فإن ورد عليه ما لا يمكنه الخروج من الخلاف فيه ففي مثله إذا وقف المتبع تبع الأكثر كان هو الأولى، فأما المجتهد فإنه إذا ثبت عنده حق بمقتضى ما أدى اجتهاده إليه في مسألة فإن فرضه هو ما أدى إليها اجتهاده على أن المجتهد اليوم لا يتصور لاجتهاده في هذه المسائل التي قد تحررت في المذاهب ثمرة; لأن الفقهاء المتقدمين قد فرغوا من ذلك فأتوا بمبالغ الأقسام كلها، ولا يؤدي اجتهاد المجتهد إلا إلى مثل مذهب واحد منهم، فأما هذا الجدل الذي يقع من أهل المذاهب فإنه أرفق ما يحمل الأمر فيه بهم أن يخرج مخرج الإعادة والدرس ليكون الفقيه به معيدا محفوظه ودارسا ما يعلمه، فأما اجتماع الجمع منهم متجادلين في مسألة مع أن كل واحد منهم لا يطمع في أن يرجع خصمه إليه إن ظهرت حجته، ولا هو يرجع إلى خصمه إن ظهرت حجة خصمه عليه، ولا فيه عندهم فائدة ترجع إلى مؤانسة ولا إلى استجلاب المودة ولا إلى توطئة القلوب لمرعى حق، بل هو على الضد من ذلك، ولا مماري في أنه محدث متجدد .

(الفصل الثالث في بيان الأسباب الموجبة للخلاف)

قال الحافظ ابن رجب الحنبلي في شرح الأربعين: اختلاف العلماء في المسائل التحليلية والتحريمية لأسباب منها أنه قد يكون النص عليه خفيا لم ينقله إلا قليل من الناس، فلم يبلغ جميع حملة العلم، ومنها أنه قد ينقل فيه نصان أحدهما بالتحليل والآخر بالتحريم، فيبلغ طائفة أحد النصين دون الآخرين فيتمسكون بما بلغهم، أو يبلغ النصان معا من لا يبلغه التاريخ فيقف لعدم معرفته بالناسخ، ومنها ما ليس فيه نص صريح كأنما يؤخذ من عموم أو مفهوم أو قياس، فتختلف أفهام العلماء في هذا كثيرا، ومنها ما يكون فيه أمر أو نهي، فتختلف العلماء في حمل الأمر على الوجوب أو الندب، وفي حمل النهي على التحريم أو التنزيه وأسباب الاختلاف أكثر مما ذكرنا، قال: وقد يقع الاشتباه في الحلال والحرام بالنسبة إلى العلماء وغيرهم من وجه آخر، وهو أن من الأشياء ما يعلم سبب حله وهو الملك المتيقن، ومنه ما يعلم سبب تحريمه وهو ثبوت ملك الغير عليه، فالأول لا تزول إباحته إلا بيقين زوال الملك عنه، اللهم إلا في الأبضاع عند من يوقع الطلاق بالشك فيه كمالك، وإذا غلب على الظن وقوعه كإسحاق بن راهويه، والثاني لا يزول تحريمه إلا بيقين العلم بانتقال الملك فيه، وأما ما لا يعلم له أصل ملك كما يجده الإنسان في بيته ولا يدري هو له أو لغيره فهذا مشتبه، ولا يحرم عليه تناوله لأن الظاهر أن ما في بيته ملكه لثبوت يده عليه، والورع اجتنابه، ومن هذا أيضا ما أصله الإباحة كطهارة الماء والثوب والأرض إذا لم يتيقن زوال أصله فجوز استعماله، وما أصله الحظر كالأبضاع ولحوم الحيوان، ولا يحل إلا بتيقن حله من التذكية والعقد، فإن تردد في شيء من ذلك لظهور سبب آخر رجع إلى الأصل فبنى عليه، فما أصله الحرمة على التحريم، ويرجع فيما أصله الحل فلا ينجس الماء والثوب والأرض بمجرد ظن النجاسة، وكذلك البدن إذا تحقق طهارته، وشك هل انتقضت بالحدث عند جمهور العلماء خلافا لمالك رحمه الله، إذا لم يكن قد دخل في الصلاة، فإن وجد سبب قوي يغلب معه على الظن نجاسة ما أصله الطهارة فهذا محل اشتباه، فمن العلماء من رخص فيه أخذا بالأصل، ومنهم من كرهه تنزيها، ومنهم من حرمه إذا قوي ظن النجاسة، وترجع هذه المسائل وشبهها إلى قاعدة تعارض الأصل والظاهر، فإن الأصل الطهارة والظاهر النجاسة، وقد تعارضت الأدلة في ذلك، وكل من القائلين بالطهارة والنجاسة استدلوا بدلائل من السنة قد بسطت في مواضعها. قال: وقد يقع الاشتباه في الحكم لكون الفرع مترددا بين أصول تجتذبه كتحريم الرجل زوجته، فإن هذا متردد بين تحريم الظهار الذي ترفعه الكفارة الكبرى، وبين الواحدة بانقضاء عدتها [ ص: 291 ] الذي تباح معه الزوجة دون زوج وإصابة، وبين تحريم الرجل عليه ما أحله الله له من الطعام والشراب الذي لا يحرمه، وإنما يوجب الكفارة الصغرى أو لا يوجب شيئا على الاختلاف في ذلك، فمن هنا كثر الاختلاف في هذه المسألة زمن الصحابة فمن بعدهم والله أعلم .

وألف الإمام أبو محمد عبد الله بن السيد البطليوسي كتابا في معرفة الأسباب الموجبة للخلاف الواقع بين الأئمة في آرائهم، قال فيه: إنه عرض ذلك لأهل ملتنا من ثمانية أوجه كل ضرب من الخلاف متولد منها ومتفرع عنها .

الأول: اشتراك الألفاظ والمعاني .

الثاني: الحقيقة والمجاز .

الثالث: الإفراد والتركيب .

الرابع: الخصوص والعموم .

الخامس: الرواية والنقل .

السادس: الاجتهاد فيما لا نص فيه .

السابع: الناسخ والمنسوخ .

الثامن: الإباحة والتوسيع .

ثم ذكر لكل نوع من هذه الأنواع أمثلة تبين المقصود، وها أنا أختصر لك خلاصة ما في ذلك الخطاب، قال رحمه الله:

(الباب الأول في الخلاف العارض من جهة اشتراك الألفاظ واحتمالها للتأويلات الكثيرة)

هذا الباب ينقسم ثلاثة أقسام أحدها اشتراك في موضوع اللفظة المفردة .

والثاني اشتراك في أحوالها التي تعرض إليها من إعراب وغيره .

والثالث اشتراك يوجبه تركيب الألفاظ وبناء بعضها على بعض، فالاشتراك العارض في موضوع اللفظة المفردة نوعان: اشتراك بجمع معان مختلفة متضادة، واشتراك بجمع معان غير مختلفة غير متضادة، فالأول كالقرء، ذهب الحجازيون من الفقهاء إلى أنه الطهر، وذهب العراقيون إلى أنه الحيض، ولكل منهما شاهد من الحديث واللغة، وأما اللفظ المشترك الواقع على معان مختلفة غير متضادة فنحو قوله تعالى: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا الآية .

ذهب قوم إلى أن أو هنا للتخيير، فقالوا: السلطان مخير في هذه العقوبات بأن يفعل بقاطع السبيل أيها شاء، وهو قول الحسن وعطاء، وبه قال مالك، وذهب آخرون إلى أن أو هنا للتفصيل والتبعيض، فمن حارب وقتل وأخذ المال صلب، ومن قتل ولم يأخذ المال قتل، ومن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله، وهو قول ابن مجلز وحجاج بن أرطأة عن ابن عباس، وبه أخذ الشافعي وأبو حنيفة، وأما الاشتراك العارض من قبل اختلاف الكلمة دون موضوع فمثل قوله تعالى: ولا يضار كاتب ولا شهيد . قال قوم: مضارة الكاتب أن يكتب ما لم يمل عليه، ومضارة الشهيد أن يشهد بخلاف الشهادة، وقال آخرون: مضارتهما أن يمنعا من استقلالهما، ويكلفا الكتابة والشهادة في وقت يشق ذلك عليهما، وإنما أوجب هذا الاختلاف أن قوله تعالى: ولا يضار يحتمل أن يكون تقديره: ولا يضار بفتح الراء فيلزم على هذا أن يكون الكاتب والشهيد مفعولا بما لم يسم فاعلهما، وهكذا كان يقرأ ابن مسعود بإظهار التضعيف وفتح الراء، ويحتمل أن يكون تقديره لا يضارر بكسر الراء فيلزم على هذا أن يكون الكاتب والشهيد فاعلين، وهكذا كان يقرأ ابن عمر بإظهار التضعيف وكسر الراء، وأما الاشتراك العارض من قبل تركيب الكلام وتناقض بعض الألفاظ على بعض فإن منه ما يدل على معان مختلفة متضادة، ومنه ما يدل على معان مختلفة غير متضادة، فمن النوع الأول قوله تعالى: وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن. قال قوم: معناه وترغبون في نكاحهن لما لهن، وقال آخرون: إنما أراد وترغبون عن نكاحهن لدمامتهن وقلة ما لهن، ولكل من القولين شاهد في كلام العرب، وله أمثلة كثيرة في القرآن وكلام العرب، وأما التركيب الدال على معان مختلفة غير متضادة فكقوله تعالى: وما قتلوه يقينا فإن قوما يرون الضمير في قتلوه عائدا إلى المسيح عليه السلام، وقوما يرونه عائدا إلى العلم المذكور في قوله تعالى: ما لهم به من علم إلا اتباع الظن. فيجعلونه من قول العرب: قتلت الشيء علما .

(الباب الثاني في الخلاف العارض من جهة الحقيقة والمجاز)

اعلم أن المجاز ثلاثة أنواع: نوع يعرض في موضوع اللفظة المفردة، ونوع يعرض في أحوالها المختلفة عليها من إعراب وغيره، ونوع يعرض في التركيب وبناء بعض الألفاظ على بعض، ولكل منها أمثلة كثيرة، وأما [ ص: 292 ] العارضان فيها من قبل أحوالها، فكقوله تعالى: بل مكر الليل والنهار . وإنما المراد بل مكرهم بالليل والنهار، وتقول العرب: نهارك صائم وليلك نائم، وأما العارضان من طريق التركيب وبناء بعض الألفاظ على بعض فنحو الأمر يرد بصيغة الخبر وبالعكس، والإيجاب يرد بصيغة النفي وبالعكس، والمدح يرد بصورة الذم وبالعكس، والتقليل يرد بصورة التكثير وبالعكس، ونحو ذلك من أساليب الكلام التي لا يقف عليها إلا من تحقق بعلم اللسان، ولكل منها أمثلة، ومن طريق المجاز العارض من طريق التركيب إيقاعهم ذوات المعاني على السبب ومرادهم السبب تارة وتارة يوقعونها على المسبب، وإنما يفعلون هذا لتعليق أحدهما بالآخر ولهما أمثلة:

(الباب الثالث في الخلاف العارض من جهة الإفراد والتركيب)

من ذلك أن الآية ربما وردت غير مستوفية الغرض المراد من التعبد، وورد تمام الغرض في آية أخرى، وكذلك الحديث فربما أخذ بعض الفقهاء بمفرد الآية أو بمفرد الحديث، وبنى آخر قياسه على جهة التركيب بين الآيات المتفرقة والأحاديث المتغايرة، وبناء بعضها على بعض بأن يأخذ بمجموع آيتين أو بمجموع حديثين أو بمجموع آيات أو بمجموع أحاديث، فيفضي الحال إلى الاختلاف أو إلى التناقض، فربما أحل أحدهما ما يحرمه الآخر، وربما أفضى إلى اختلاف العقائد فقط أو إلى الاختلاف في الأسباب فقط، فركبوا القياسات، وخالفهم آخرون فرأوا الأخذ بظاهر الألفاظ فنشأ من ذلك نوع آخر في الخلاف، وقد ترد الآية والحديث بلفظ مشترك يحتمل تأويلات كثيرة، ثم ترد آية أخرى أو حديث آخر بتخصيص ذلك اللفظ المشترك وقصره على بعض تلك المعاني دون بعض .

(الباب الرابع في الخلاف العارض من جهة العموم والخصوص)

هذا الباب نوعان; أحدهما يعرض في موضوع اللفظة المفردة، والثاني في التركيب .

فالأول نحو قوله تعالى: إن الإنسان لفي خسر . وفي الحديث: الكافر يأكل في سبعة أمعاء، وقد يأتي من هذا الباب في القرآن والحديث أشياء متفق الجمع على عمومها أو على خصوصها وأشياء يقع فيها الخلاف، فمن العموم الذي لم يختلف فيه قوله تعالى: يا أيها الناس اتقوا ربكم. وقوله صلى الله عليه وسلم: الزعيم غارم، والبينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه. وفي الخصوص الذي لم يختلف فيه قوله تعالى: الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم. وقد يأتي في هذا الباب ما موضوعه في اللغة على العموم ثم تخصصه الشريعة كالمتعة .

(الباب الخامس في الخلاف العارض من جهة الرواية)

اعلم أنه تعرض للحديث علل فتحيل معناه، فربما أوهمت فيه معارضة بعضه ببعض، وربما ولدت فيه أشكالا يحوج العلماء إلى طلب التأويل البعيد، وهي ثمانية; أولها فساد الإسناد، والثانية من جهة نقل الحديث بالمعنى، والثالثة من جهة الجهل بالإعراب، والرابعة من جهة التصحيف، والخامسة من جهة إسقاط شيء من الحديث لا يتم المعنى إلا به، السادسة أن ينقل المحدث الحديث ويغفل نقل السبب الموجب له، والسابعة أن يسمع المحدث ويفوته سماع بعضه، والثامنة نقل الحديث من الصحف دون لقاء الشيوخ، ولكل منها أمثلة .

(الباب السادس في الخلاف العارض من قبل الاجتهاد والقياس)

وهو نوعان: أحدهما الخلاف الواقع من المنكرين للقياس والمثبتين له، والثاني خلاف يعرض بين أصحاب القياس في قياسهم كاختلاف الشافعية والحنفية والمالكية ونحوهم، وهذا الباب شهير الذكر .

(الباب السابع في الخلاف العارض من قبل النسخ)

وهو نوعان: أحدهما خلاف يعرض بين من أنكر النسخ ومن أثبته، وإثبات النسخ هو الصحيح، والثاني بين القائلين به وهو ثلاثة أقسام: أحدها الخلاف في الأخبار هل يجوز فيها النسخ كما يجوز في الأمر [ ص: 293 ] والنهي أم لا، والثاني اختلافهم هل يجوز أن تنسخ السنة القرآن أم لا، والثالث اختلافهم في أشياء من القرآن والحديث، فذهب بعضهم إلى أنها نسخت، وبعضهم إلى أنها لم تنسخ .

(الباب الثامن) الخلاف العارض من جهة الإباحة والتوسيع

كاختلاف الناس في الأذان والتكبير على الجنائز وتكبير التشريق ووجوب القراءات السبع ونحو ذلك، فهذه أسباب الخلاف الواقع بين الأمة، وقد اختصرت الكتب على وجه جميل ينتفع به أهل التحصيل، ولم أطل في ذكر الأمثلة التي أوردها لئلا تطول مقدمة هذا الكتاب، والله أعلم بالصواب .

(الفصل الرابع) الخلاف الواقع بين الناس في الأديان والمذاهب

قال أبو القاسم الراغب في كتاب الذريعة: جميع الاختلافات بين أهل الأديان والمذاهب على أربعة مراتب; الأولى: الخلاف بين أهل الأديان النبوية وبين الخارجين عنها من الثنوية والدهرية، وذلك في حدوث العالم وفي الصانع تعالى، وفي التوحيد، والثانية: الخلاف بين أهل الأديان النبوية بعضهم مع بعض، وذلك في الأنبياء كاختلاف المسلمين والنصارى واليهود، والثالثة: الاختلاف المختص في أهل الدين الواحد بعضهم مع بعض في الأصول التي يقع فيها التبديع والتفجير كالاختلاف في شيء من صفات الله تعالى وفي القدر، وكاختلاف المجسمة، الرابعة: الاختلاف المختص بأهل المقالات في فروع المسائل كاختلاف الشافعية والحنفية، فالاختلاف الأول يجري مجرى متنافيين في مسلكيهما كآخذ طريق المشرق وآخذ طريق المغرب، أو آخذ طريق ناحية الشمال وآخذ طريق ناحية الجنوب، والثاني يجري مجرى آخذ نحو المشرق وآخذ يمنة أو يسرة، فهو وإن كان أقرب من الأول فليس يخرج أحدهما أن يكون ضالا ضلالا بعيدا، والثالث جار مجرى آخذ جهة واحدة، ولكن أحدهما سالك المنهج، والآخر تارك المنهج، وهذا التارك للمنهج ربما يبلغ وإن كان يطول عليه الطريق، والرابع: جار مجرى جماعة سلكوا منهجا واحدا لكن أخذ كل واحد شعبة غير شعبة الآخر، وهذا هو الاختلاف المحمود لقوله صلى الله عليه وسلم: الاختلاف في هذه الأمة رحمة للناس. ونحوه نظير من قال: كل مجتهد في الفروع مصيب، ولأجل الفرق الثلاث أمرنا أن نستعيذ بالله، ونتضرع إليه بقوله: اهدنا الصراط المستقيم ، وقال: وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم .

(الفصل الخامس) في ذكر أشياء من أصل الفقه على طريقة المتقدمين

اعلم أن الفقه يشتمل على واجب، ومندوب إليه، ومباح، ومحظور، ومكروه، فالواجب ما تناول تاركه الوعيد، والمندوب إليه ما فعله فضل ولا إثم في تركه، والمباح ما أطلق للعبد، والمحظور المحرم، والمكروه ما تركه فضل، وفي الكلام حقيقة، وفيه المجاز، والأمر صيغة تقتضي الوجوب، والفرض هو الواجب عند الشافعي رضى الله عنه، وعند أبي حنيفة وأحمد رضي الله عنهما الواجب لازم، والفرض ألزم، والتعميم في أقل الجمع فصاعدا، فإذا عرف بالألف واللام فهو تعميم نحو المسلمين، وكذلك إن كان بصيغة الواحد إن كان للجنس نحو قوله تعالى: إن الإنسان لفي خسر ولا يعم شيء من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم إلا بدليل، والتخصيص تعيين البعض دون الكل، والنطق إذا ورد على سبب تعلق به كيف وقع، والنسخ الرفع، ولا يجوز إلا على ما يتناول تكليف الخلق، ويجوز نسخ القرآن بالقرآن والسنة بالسنة، ولا ينسخان بالإجماع ولا بالقياس، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم شرع وكذلك إقراره، والصحابة كلهم عدول والذين اتبعوهم بإحسان، ولا يجوز رواية الحديث بالمعنى إلا عند البعض للعالم دون غيره، ويرجح الخبر على الخبر بفضل رواته، وإجماع المسلمين من المجتهدين حجة في الشرع، وقول الصحابة مقدم على القياس، والقياس حمل الفرع على أصل في بعض أحكامه بمعنى يجمع بينهما ويحتج به في جميع الأحكام الشرعية، وقد سماه الفقهاء قياس علة وقياس دلالة وقياس شبه، ويشتمل القياس على أربعة أشياء; على الأصل والفرع والعلة والحكم والاستحسان [ ص: 294 ] عند أبي حنيفة أصل، والتقليد قبول القول من غير دليل، وذلك سائغ للعامي، ولا يجوز في أصل الدين، ولا فيما نقل نقلا عاما كعدد الصلوات، والعالم لا يسوغ له التقليد، وحكي عن أحمد جوازه، والمجتهد من عرف طرق الأحكام من الكتاب والسنة، وموارد الكلام ومصادره، ومجازه وحقيقته، وعامه وخاصه، وناسخه ومنسوخه، ومطلقه ومقيده، ومفسره ومجمله، ودليله، ومن أصول العربية ما يوضح له المعاني وإجماع السلف وخلافهم، وعرف القياس وما يجوز تعليله من الأصول مما لا يجوز، وما يعلل به، وما لا، وترتيب الأدلة وتقديم أولاها ووجوه الترجيح، وكان ثقة مأمونا قد عرف بالاحتياط في الدين، فإذا اجتمعت هذه الشروط في إنسان ساغ له الاجتهاد، والحق في أصول الدين في جهة واحدة، والفروع كذلك، إلا أن الحرج موضوع عن المجتهد المخطئ فيها، بل له أجر واحد في الخطأ وفي الإصابة أجران، والقولان من الفقيه في مسألة واحدة إشعار منه بدين منعه أن يحتم حتى يعلم، فيكون لمن بعده الاجتهاد فيها، فأما إذا تقدم تاريخ أحد القولين فالعمل على الأخير فهذه أصول الفقه على طريق الاقتضاب .

(الفصل السادس)

قال أبو العباس أحمد بن أحمد بن عيسى الشهير بزروق في شرح قواعد العقائد للمصنف: العلم إما أن يكون معقولا كالحساب فبرهانه في نفسه، وإما أن يكون منقولا كاللغة والحديث فهو موقوف على أمانة صاحبه، وإما أن يكون مركبا منهما كالفقه والتصوف فيغلب شائبة النقل فيه فيشترط فيه العلم والعدالة كما قيل: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم، فوجب معرفة من يؤخذ عنه بأوصافه المعتبرة في ذلك، ومن ظهرت مروءته علما ودينا لا يحتاج إلى تعريف به، لكنه كمال فيه، والإمام أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي مصنف هذا الكتاب - رحمه الله تعالى - من هذا النوع حتى يلقب بحجة الإسلام وسيف السنة، وهو في الفقه وأصوله وأصول الدين حجة إجماعا، وفي التصوف شهد له الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه بالصديقية العظمى، وقد قيد وكتب وألف في علوم ثمانية نحوا من سبعين تأليفا مر ذكرها في شرح خطبة كتاب العلم، أكبرها تأليفا وأكثرها نفعا هذا الكتاب المسمى بالإحياء، قيل: كتبه في ألف يوم، وكان يختم مع كتبه كل يوم ختمتين فنفع الله به الخاص والعام، وكان إماما مبرزا من أصحاب الوجوه والتراجيح في مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه، وكتبه الثلاثة البسيط والوسيط والوجيز تدل على غزارة علمه في فقه المذهب واتساع نظره وفهمه، وأما ما أورده في هذا الكتاب فهو خلاصة كتبه الثلاثة مع زيادة واختيارات في بعض الوجوه مع كمال الاختصار حتى قيل: لو عدمت كتب مذهب الشافعي لاستخرج المذهب من الإحياء .

(الفصل السابع) في بيان أن الشافعية الآن وقبل الآن عيال على كتبه

اعلم أنه رحمه الله تعالى ألف في المذهب كتابه البسيط أحاط فيه بمذهب الشافعي رضي الله عنه، ثم اختصره فسماه الوسيط، ثم اختصره فسماه الوجيز، وقد تلقت الأمة هذه الكتب الثلاثة بالقبول والإقبال على مدارستها وشرح ألفاظها والعمل بما فيها، وسمى هذه الأسماء اقتداء بأبي الحسن الواحدي; فإنه سمى تفاسيره الثلاثة كذلك، وقد تقدمت الإشارة إليه في مقدمة كتاب العلم، فأما البسيط فقد اختصر فيه كتب شيخه إمام الحرمين نهاية المطلب في دراسة المذهب، وزاد عليه في المسائل والفروع، وأما الوسيط فشرحه تلميذه محمد بن يحيى الخبوشاني في ثلاثين مجلدا سماه المحيط، وابن الرفعة في ستين مجلدا وسماه المطلب، والنجم القمولي وسماه البحر المحيط ثم لخصه وسماه جواهر البحر، وجعفر بن يحيى التزمنتي، ومحمد بن عبد الحاكم، وأبو الفتوح العجلي، والعز المدلجي، وابن أبي الدم وابن الأستاذ الحلبي، وأبو الفضل القزويني، ويحيى بن أبي الخير اليمني وغيرهم، وأما الوجيز فشرحه الفخر الرازي والسراج الأرموي وأبو حامد الإربلي وأبو حامد الجاجرمي وأبو القاسم الرافعي شرحين الكبير والصغير، واختصر النووي شرحه الكبير وسماه الروضة فانتقلت رغبات العلماء إليه فشرحوه واختصروه وحشوه، وصار مدار المذهب عليه وممن [ ص: 295 ] اختصره الشرف ابن المقري اليمني وسماه الروض، وعليه مدار الشافعية باليمن، وشيخ الإسلام زكريا وسماه كذلك الروض وعليه مدار الشافعية بمصر، ومن كتب الشافعية المحرر لأبي القاسم الرافعي أورد فيه خلاصة ما في كتب الغزالي الثلاثة، وقد شرحه الشهاب الخصكفي والتاج الأصفهاني والعلاء الباجي، واختصره الإمام النووي وسماه المنهاج، فانتقلت رغبات الطالبين إليه فشرحه التقي السبكي والشمس القاياتي والشهاب الأذرعي، وسماه القوت والمجد النكلوي وابن الملقن ثلاثة شروح والشهاب الأفقهسي والجمال الإسنوي والنور الأردبيلي والسراج البلقيني والشرف الغزي والجلال النصيبي والحافظ السيوطي والشمس المارديني وشيخ الإسلام زكريا والكمال الدميري والبدر بن قاضي شهبة وابن قاضي عجلون وأبو الفتح المراغي وغيرهم، وممن اختصره شيخ الإسلام زكريا وسماه المنهج، وممن شرح المنهاج أيضا الشهاب الرملي والخطيب الشربيني وابن حجر المكي، وعلى هذه الأربعة أعني المنهج وشرح الرملي والشربيني وابن حجر مدار المذهب، ففي مصر وأقطارها على كتاب الرملي، وفي الحرمين واليمن على كتاب ابن حجر، وممن جمع بين شرح الرافعي والروضة البدر الزركشي، وسماه الخادم وعلق عليه السيوطي وسماه تحصين الخادم، وممن علق على الروضة الجمال الإسنوي وسماه المهمات، وهو كتاب جليل القدر خدمه العلماء منهم الشريف عز الدين الحسيني وسماه تتمة المهمات، ومنهم الشهاب الأقفهسي وسماه التعقبات، ومنهم الحافظ العراقي وسماه مهمات المهمات، ومنهم الشهاب الأذرعي ومنهم السراج البلقيني، وسماه معرفة الملمات ومنهم السراج اليمني المعروف بالفتى وسماه تلخيص المهمات واختصره آخرون منهم أحمد بن موسى والوكيل والشرف الغزي والشهاب الغزي، والتقي الحصني وابن قاضي شهبة وآخرون، وقد ظهر بما تقدم أن اعتماد المدرسين الآن على كتب شيخ الإسلام زكريا ومدارها على كتب الإمامين الرافعي والنووي ومدارها على كتب الإمام أبي حامد الغزالي; فهو إمام المذهب والشافعي الثاني رحمه الله تعالى، وقدس سره .

(الفصل الثامن) في معرفة اصطلاح هذه الكتب

وهو أمر مهم; إذ به يقع الفهم والتفهيم، وبه يتصور التعلم والتعليم، وفيه ما يخص وما يعم، ومن أهم المهمات معرفة ألفاظ يستعملونها في الاختيار والترجيح لبعض الأقوال والوجوه اصطلاحا فلا بد من التعرض لها ليكون الناظر على بصيرة، وتلك الألفاظ هي قول الأئمة الأصح والأظهر والصحيح والظاهر والأقيس والأشبه والأقرب والأشهر والمتشابه والأحوط والأرجح والراجح، وقولهم: ظاهر المذهب أو المذهب كذا، ورجح بالبناء للمفعول، ورجح المعتبرون والجديد ونحن نفسر هذه الألفاظ تعريفا وتمثيلا على ما أورده التاج الأصفهاني في كشف تعليل المحرر، قال: الأصح أعلى مرتبة من الكل ومقابله الصحيح، فالأصح ما قوي صحته أصلا وجامعا أو واحدا منهما من القولين أو الوجهين أو الأقوال أو الوجوه كقول الرافعي في المحرر المستعمل: إذا بلغ قلتين، فأصح الوجهين أنه يعود طهورا قياسا على الماء النجس، والثاني لا يعود قياسا على الماورد، فالقياس الثاني صحيح والأول أصح للمجانسة والجلاء وعروض ما يخرج عن حقيقته، والإمام أبو حامد الغزالي عبر عنه في كتبه بأقيس الوجهين لقوة قياسه أصلا وجامعا، ولأنه أقيس بأصل المذهب ثم الأظهر أعلى من الصحيح، والظاهر وهو ما قوي ظهور أصله وعلته أو واحد منهما كذلك، ومقابله الظاهر كقول الرافعي في المحرر: إذا اشتبه ماء وبول وماء ورد لم يجتهد على أظهر الوجهين، فالقول بعدم الاجتهاد أظهر أصلا وعلة لعدم اعتضاد كل واحد بأصل ظاهر وكون الاجتهاد اتباع ظن ناشئ من دليل وأمارة عند عروض ما على أصل الشيئين أو وصفه، والقول بالاجتهاد ظاهر علة بناء على وجود الأمارة في الكل وكالمتغير بالتراب المطروح، فالأظهر أنه مطهر لأن التراب أحد الطهورين إذا لم يكن مقويا لم يكن مضعفا، والشارع قد اعتبر تقويته كما في التعفير وجعله غير مطهر قياسا على الزعفران من حيث إن كل واحد منهما [ ص: 296 ] مستغنى عنه طاهر، لكن ليس مثل الأول، ويقع كل من الأظهر والأصح موضع الآخر لقرب معناهما في كلام الأئمة، والصحيح ما صح أصلا وجامعا أو واحدا منهما كذلك من القولين أو الأقوال أو الوجهين أو الوجوه، ومقابله الفاسد كلا أو بعضا كقول الرافعي في المحرر في باب التيمم: فإن لم يكن عليه ساتر غسل الصحيح، والصحيح أنه يتيمم لمكان الجراح لبقاء الحدث، فالقول بغسل الصحيح من غير تيمم وبرعاية الترتيب بين غسل الصحيح والتيمم فاسد لا وجه له، بل اللازم أحد الأمرين غسل الصحيح والتيمم للجراحة أو الاكتفاء بالتيمم، والترتيب بين عضوين لا عضو واحد، والظاهر هو ما ظهر أصلا وعلة أو واحدا منها كذلك، ومقابله الخفي كلا أو بعضا كقول الرافعي في المحرر في آنية الذهب والفضة: الظاهر لا يجوز اتخاذه قياسا على آلات الملاهي، وهذا قياس ظاهر، وأما كونه لا يحرم اتخاذه كما في الوجه الثاني فخفي، فإن علته جمع المال المتفرق وحفظه، وكون جمع المال وحفظه سببا لحل اتخاذ حرام أمر خفي غير مناسب للحكم، واستعمال كل من الظاهر والصحيح مقام الآخر تساهل، وإن كان كل واحد منهما يقرب معنى الآخر لكن استعمالهما مقام الأظهر والأصح خطأ لا يليق بالمحصلين، والأقيس ما قوي قياسه أصلا وجامعا أو واحدا منهما كذلك، وبهذا المعنى قد يستعمل في موضع الأظهر، والأصح إذا كان الوجهان أو القولان متقايسين، كما أشرنا إليه قريبا في مسألة المستعمل إذا بلغ قلتين من تعبير المصنف، وقد يستعمل بمعنى الأقيس بكلام الشافعي أو بمسائل الباب كقول الرافعي في المحرر في باب السلم، والأقيس تجويزه في المصبوغ بعد النسج، والوجه الآخر لا يجوز لجهل مقدار الصبغ واختلاف الغرض به، فالذي أقرب قياسا إلى كلام الأصحاب في الباب هو الوجه الأول، لكون الثاني مردودا بأنه لو صح لما صح في المنسوج بعد الصبغ لوجود العلتين فيه، وبهذا المعنى يستعمل موضع الأشبه ويقابله الشبيه; لأن الأشبه ما قوي شبهه بكلام الشافعي أو بكلام أكثر أصحابه أو معظمهم، وليس المراد أنه قياس شبه أو قياس علة المشابهة كقول الرافعي في المحرر في الأواني، والأشبه أنه لا فرق بين أن يكون الضبة في محل الشرب والاستعمال أو غيره أراد الأشبه بكلام الشافعي، وفي تعجيل الزكاة قال: والأشبه اعتبار قيمة يوم القبض أراد الأشبه بكلام الأصحاب، وأصل المذهب والأرجح ما رجح جانبه أصلا وعلة على مقابله وهو الراجح، كما يقال في ثمن ما باعه القاضي من مال المفلس إذا خرج مستحقا هل يضارب المشتري مع الغرماء أو يتقدم عليهم، فيه قولان، أرجحهما التقدم على مصالح الحجر من أجر الكيال والدلال وغيرهما، والمضاربة قياسا على سائر الديون; لأنه دين تعلق بذمته لكن قياس التقدم أرجح لأنه معقول المعنى; إذ عدمه يؤدي إلى عدم الرغبة في شراء متاعه فيؤدي إلى أضرار كثيرة، ومقابله الراجح ثم الترجيح إن كان قويا يصح استعمال الأصح مقامه، واستعمال الصحيح مقام الراجح وإن لم يكن في الغاية، فيصحح إيقاع الأظهر والظاهر مقامهما، والأحوط ما يلح إلى علة أقوى، كما إذا كان القولان أو الوجهان قويين معنى واعتبارا وقياسا، لكن في أحد الجانبين تلويح إلى نص من الشارع أو تعميم نص رعاية; لذلك يقول: والأحوط كقول الرافعي في المحرر في تزويج الأمة إذا كان تحته حرة لا تصلح للاستمتاع، الأحوط المنع لعموم قوله تعالى: ومن لم يستطع منكم طولا لأن كلا من الجانبين اعتبره جماعة من معظم الأصحاب من الفريقين، ويصح استعمال الأصح والأرجح مكانه لاقتضاء مقام كل قوة، والأقرب ما قوي اعتباره وهذا أدنى درجة من الذي تقدم، فيريد بالأقرب الأقرب بالاعتبار أو بأصل المذهب أو بكلام أكثر العلماء كقول الرافعي في المحرر في الوصية بحج التطوع إن أطلق، فأقرب الوجهين أنه يحج من الميقات; لأنه الأقرب إلى الاعتبار كما في الفرض، فإن الأصل في الإطلاق الحمل على أقل الدرجات، والثاني من بلده; إذ هي الغالب في النهوض والتجهز للحج ولا شك أن هذا بعيد; إذ قد يكون البلد بعيدا كما في أقصى الشرق أو الغرب فيؤدي إلى مشقة وارتكاب محظورات كثيرة، ويجوز استعمال الراجح مقامه، وكذا استعمال الصحيح إن كان الوجه [ ص: 297 ] الآخر فاسدا أو مقدوحا، والأشهر مقابله، المشهور وهو ما قوي اعتبار كونه في المذهب واشتهر أنه منه كقوله في مسألة الميزاب: وإن سقط الكل فالواجب نصفه على الأشهر; أي من الوجهين أو القولين توزيعا على ما حصل من مباح مطلق ومباح بشرط سلامة العاقبة، والثاني يوزع على ما في الداخل والخارج فيجب قسط الخارج، ثم بعد ذلك فالاعتبار إما بالوزن عند بعض، وبالمساحة عند بعض آخر، والثاني مشهور من المذهب لكن الأول أشهر اعتبارا في المذهب، ويجوز استعمال الأظهر مقامه عند ظهور علته، كما في الصورة المذكورة، وقولهم: في المذهب أو الظاهر من المذهب أو المذهب الظاهر، فمعناه النص والظاهر من النص أو النص الظاهر، فالأول لا يلزم أن يكون في مقابله شيء، والثاني والثالث يكون في مقابلتهما إما نص خفي أو فاسد أو وجه قوي أو فاسد كقوله في سجود السهو: إذا لم يسجد الإمام فظاهر المذهب أي ظاهر النص أن المأموم يسجد; لأن سجوده لأمرين لسهو الإمام ومتابعته لا لمتابعته فقط، ومذهب البويطي والمزني أنه لا يسجد لأنه يسجد لمتابعة الإمام فقط، وهذا ضعيف جدا بل قريب من الفاسد، وإذا كان الجانبان متساويين علة أو قياسا يقول: رجح بالبناء للمفعول، وإذا كان ترجيح جانب التصحيح ضعيفا ينسب الفعل إلى الفاعل الظاهر صريحا فيقول: رجح المرجحون، قد يستعمل ينبغي ويراد به الوجوب، وقد يراد به الندب والأدب والجواز، ولا ينبغي في مقام الحرمة والكراهية، ولفظ الاحتياط للوجوب وللندب، وقال الرافعي في شرح الوجيز في باب التيمم: قولهم في المسألتين قولان بالنقل والتخريج معناه إذا ورد نصان عن صاحب المذهب مختلفان في صورتين متشابهتين ولم يظهر بينهما ما يصلح فارقا، فالأصحاب يخرجون نصه في كل صورة من الصورتين في الصورة الأخرى لاشتراكهما في المعنى فيحصل في كل واحدة من الصورتين قولان منصوص ومخرج، المنصوص في هذه هو المخرج في تلك، والمنصوص في تلك هو المخرج في هذه، فيقولون فيهما قولان بالنقل والتخريج أي نقل المنصوص من هذه الصورة إلى تلك الصورة، وخرج فيها، وكذلك بالعكس، ويجوز أن يراد بالنقل الرواية، ويكون المعنى في كل واحد من الصورتين قولا منقولا أي مرويا عنه، وآخر مخرج، ثم الغالب في مثل ذلك عدم إطباق الأصحاب على هذا التصرف، بل ينقسمون إلى فريقين منهم من يقول به، ومنهم من يأبى ويستخرج فارقا بين الصورتين بسند إليه افتراق النصين . قال النووي في مقدمة شرح المذهب وفي الروضة في القضاء: والأصح أن القول المخرج لا ينسب للشافعي; لأنه ربما لو روجع فيه ذكر فارقا له، وقال النووي في المناهج: وحيث أقول الجديد فالقديم أو في قول قديم فالجديد خلافه، قال الخطيب الشربيني في شرحه الجديد ما قاله الشافعي بمصر تصنيفا أو إفتاء، ورواته البويطي والمزني والربيع المرادي وحرملة ويونس بن عبد الأعلى وعبد الله بن الزبير الحميدي وابن عبد الحكم وغيرهم، والثلاثة الأول هم الذين تصدوا لذلك وقاموا به، والباقون نقلت عنهم أشياء محصورة على تفاوت بينهم، والقديم ما قاله بالعراق تصنيفا، وهو الحجة أو أفتى به، ورواته جماعة أشهرهم الإمام أحمد والزعفراني والكرابيسي وأبو ثور، وقد رجع الشافعي عنه وقال: لا أجعل في حل من رواه عني، وقال الإمام: لا يحل عد القديم من المذهب، وقال الماوردي في أثناء كتاب الصداق: غير الشافعي جميع كتبه القديمة في الجديد إلا الصداق فإنه ضرب على مواضع منه وزاد مواضع، أما ما وجد بين مصر والعراق فالمتأخر جديد والمتقدم قديم، وإذا كان في المسألة قولان قديم وجديد، فالجديد هو المعمول به إلا في مسائل يسيرة نحو السبعة عشر أفتى فيها بالقديم. قال بعضهم: وقد تتبع ما أفتى فيه بالقديم فوجد منصوصا عليه في الجديد أيضا، وإن كان فيها قولان جديدان فالعمل بآخرهما، فإن لم يعمل فبما رجحه الشافعي، فإن قالهما في وقت واحد ثم عمل بأحدهما كان إبطالا للآخر عند المزني، وقال غيره: لا يكون إبطالا بل ترجيحا، وهذا أولى، واتفق ذلك للشافعي في نحو ست عشرة مسألة، وإن لم يعلم هل قالهما معا أو مرتبا لزم البحث عن أرجحهما بشرط الأهلية، فإن أشكل توقف [ ص: 298 ] فيه، ونبه في شرح المهذب هنا على شيئين أحدهما أن إفتاء الأصحاب بالقديم في بعض المسائل محمول على أن اجتهادهم أداهم إلى القديم لظهور دليله، ولا يلزم من ذلك نسبته إلى الشافعي. قال: وحينئذ فمن ليس أهلا للتخريج يتعين عليه العمل والفتوى بالجديد، ومن كان أهلا للتخريج والاجتهاد فالمذهب يلزمه اتباع ما اقتضاه الدليل في العمل والفتوى به مبينا أن هذا رأيه، وأن مذهب الشافعي كذا، وكذا قال: وهذا كله في قديم لم يعضده حديث صحيح لا معارض له، فإن اعتضد بدليل فهو مذهب الشافعي، فقد صح أنه قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي. الثاني أن قولهم القديم مرجوع عنه، وليس بمذهب الشافعي محله في قديم، نص في الجديد على خلافه، أما قديم لم يتعرض في الجديد لما يوافقه ولا لما يخالفه فإنه مذهبه، والله أعلم .

(الفصل التاسع) في ذكر أصحاب التخريج والوجوه من المفتين وتفاوت درجاتهم باختلاف الأعصار

وقد تقدم شيء من ذلك في الفصل الأول من هذه الفصول العشرة، وبقي منه ما تشتد الحاجة إليه، فمن ذلك ما نقل الشهاب أحمد بن محمد الهائم الشافعي في كتابه نزهة النفوس نقلا عن ابن الصلاح ما حاصله المفتون قسمان مستقل وغيره، والثاني هو المنتسب إلى أئمة المذاهب المتبوعة وله أربعة أحوال:

إحداها: أن لا يكون مقلد الإمامة لا في المذهب ولا في دليله لاتصافه بصفة المستقل، وإنما ينسب إليه لسلوك طريقته في الاجتهاد ودعوى انتفاء التقليد عنهم مطلقا لا يستقيم ولا يلائم المعلوم من حالهم أو حال أكثرهم، ثم فتوى المفتي في هذه الحالة كفتوى المستقل في العمل بها والاعتداد بها في الإجماع والخلاف. قال الأذرعي: وهذا شيء قد انطوى من زمان .

الحالة الثانية: أن يكون مقيدا في مذهب إمامه مستقلا بتقرير أصوله بالدليل غير أنه لا يتجاوز في أدلته أصول إمامه وقواعده ولا يعرى عن شوب تقليد له لإخلاله ببعض أدوات المستقل، وهذه صفات أصحاب الوجوه وعليها كان أكثر الأئمة والأصحاب .

الحالة الثالثة: أن لا يبلغ رتبة أصحاب الوجوه لكنه فقيه النفس حافظ مذهب إمامه عارف بأدلته قائم بتقرير ما يصور ويحرر ويقرر ويهمل ويزين ويرجح، لكن قصر عن أولئك لقصوره عنهم في حفظ المذهب أو الارتياض في الاستنباط أو معرفة الأصول ونحوها، وهذه صفة كثير من المتأخرين إلى أواخر المائة الرابعة الذين رتبوا المذهب وحرروه وصنفوا من تصانيف فيها معظم اشتغال الناس اليوم، ولم يلحقوا الذين قبلهم في التخريج .

الحالة الرابعة: أن يقوم بحفظ المذهب ونقله وفهمه في الواضحات والمشكلات، ولكن عنده ضعف في تقرير أدلته وتحرير أقيسته، فهذا يعتمد نقله وفتواه فيما يحكيه من مسطورات مذهبه من نصوص إمامه وتفريع المجتهدين فيه وما لا يجده منقولا إن وجد في المنقول معناه، بحيث يدرك بكبير فكر أنه لا فرق بينهما جاز إلحاقه به والفتوى به، وهكذا ما يعلم اندراجه تحت ضابط عهد في المذهب، وما ليس كذلك يجب إمساكه عن الفتوى فيه .

قال: وينبغي أن يكتفى في حفظ المذهب في هذه الحالة والتي قبلها بكون المعظم على ذهنه، ويتمكن لدرايته من الوقوف على الباقي على قريب. فهذه أصناف المفتين .

قال ابن الهائم: وليت ابن الصلاح أثبت حالة خامسة على طريق الرخصة بحسب همم أهل هذا العصر وقصور قواهم عن بلوغ هذه الرابعة، وإلا فلا تكاد تجد مفتيا بالشرط الذي اعتبره في المرتبة الرابعة. .

قلت: وهذا التقسيم الذي لابن الصلاح بنى على ذلك ابن الكمال من أئمتنا المتأخرين فذكر الحالات الأربعة للمفتي المنتسب وليس من مبتكراته، كما يزعمه بعض أصحابنا .

(تنبيه)

قال التقي السبكي في أجوبة المسائل الحلبية: وأما من سئل عن مذهب الشافعي ويجيب مصرحا بإضافته إلى مذهب الشافعي ولم يعلم ذلك منصوصا للشافعي ولا مخرجا من منصوصاته فلا يجوز ذلك لأحد بل اختلفا فيما هو مخرج هل تجوز نسبته إلى الشافعي أو لا؟ واختيار الشيخ أبي إسحاق أنه لا ينسب إليه، وهذا في القول المخرج، وأما الوجه فلا يجوز نسبته بلا خلاف. نعم إنه مقتضى مذهب الشافعي أو من مذهبه بمعنى أنه من قول أهل مذهبه، والمفتي يفتي به إذا ترجح عنده لأنه من قواعد الشافعي، ولا ينبغي أن يقال قال الشافعي إلا لما وجد منصوصا له، وأن يكون قال به أصحابه أو أكثرهم، أما [ ص: 299 ] ما كان منصوصا وقد خرج عنه أصحابه إما بتأويل أو غيره فلا ينبغي أن يقال إنه مذهب الشافعي; لأن تجنب الأصحاب له يدل على ريبة في نسبته إليه، وما اتفقوا عليه، ولم يعلم هل هو منصوص له أم لا يسوغ اتباعهم فيه، ويسهل نسبته إليه لأن الظاهر من اتفاقهم أنه قال به .

(الفصل العاشر) في ذكر بعض اصطلاحات لفقهائنا الحنفية ينبغي التفطن لها

وبيان ذلك أن المسائل المذكورة في كتب أصحابنا على ثلاثة أصناف، الصنف الأول ما روي عن متقدمي علماء المذهب كأبي حنيفة وصاحبيه وزفر بن الهذيل والحسن بن زياد في الروايات الظاهرة عنهم، وهي ما في كتب الأصول، والمراد منها المبسوط وشروحه الثلاثة لشمس الأئمة الحلواني ولشيخ الإسلام خواهر زاده ولفخر الإسلام البزدوي، ويعبر عنها بظاهر الرواية، والصنف الثاني ما روي عنهم بروايات غير ظاهرة، فكالنوادر والأمالي وتعرف بالجرجانيات والهارونيات والكسائيات والرقيات، وهي مسائل جمعها محمد بن الحسن، فما كان في دولة هارون الرشيد تعرف بالهارونيات، وما أملاها في الرقة وهي من مدن ديار بكر حين كان قاضيا بها تعرف بالرقيات، وما استملاها منه تلميذه عمرو بن شعيب الكسائي تعرف بالكسائيات، وكلها منسوبة إلى محمد بن الحسن، وما عداها تسمى غير ظاهر الرواية منها كتاب المجرد للمحسن بن زياد، ومنها رواية ابن سماعة والمعلى وغيرهم، وهي روايات مفردة رويت عنهم وتسمى أيضا بالنوادر، والصنف الثالث مسائل لم ترو عنهم لا في ظاهر الرواية ولا في غير ظاهر الرواية فاضطر المتأخرون واجتهدوا فيها مثل محمد بن سلمة ومحمد بن مقاتل ونصر بن يحيى وأبي سعيد الإسكاف وأبي القاسم الصفار وأبي جعفر الهندواني وأضرابهم، وأول من جمعها في كتاب الإمام أبو الليث السمرقندي جمعها في كتاب النوازل والعيون ثم جمعها الصدر الشهيد في واقعات الإمام الناطفي وفتاوى أهل سمرقند، فترجم عما في النوازل بباب النون وعما في العيون بباب العين وعما في الواقعات بباب الواو، وعما في فتاوى أهل سمرقند بباب السين، وعما في فتاوى أبي بكر محمد بن الفضل بباب الباء، وهي المراد بالفتاوى حيثما وقع في الخلاصة، وهذا الصنف من المسائل إنما تعرف بالفتاوى لأن جمعها وقع بالفتوى بخلاف الأولين، فإن غالبها بطريق الفرض والوضع، والمتأخرون من أئمتنا لم يميزوا في فتاويهم وجوامعهم بين هذه الأصناف بل أوردوها مختلطة إلا صاحب المحيط السرخسي فإنه ميزها فأورد مسائل الأصل أولا ثم النوادر، ومنها المنتقى ثم الفتاوى بهذه العبارات وهو وضع حسن، وأغلب المتون كمختصر القدوري والكنز والوافي وغيرها مخصوصة بالصنف الأول أعني مسائل ظاهر الرواية إلا نادرا من النوادر، والفتاوى بخلاف والجوامع مثل فتاوى قاضيخان، والخلاصة فإنها تشمل جميع الأصناف لكن الغالب فيها الصنف الآخر، والله تعالى أعلم .

(خاتمة)

في ذكر سلسلة التفقه لأصحاب الشافعي رضي الله عنه أذكرها مني إلى المصنف وغيره ثم منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا كما قال النووي من المطلوبات المهمات التي ينبغي للمتفقه والفقيه معرفتها ويقبح بهما جهالتها، فإن شيوخه في العلم آباء في الدين ووصلة بينه وبين رب العالمين، وكيف لا يقبح جهل الأنساب والوصلة بهم مع أنه مأمور بالدعاء لهم والثناء عليهم، فاعلم أن لهم في سند المذهب طريقتين إحداهما طريقة الخراسانيين، وتعرف أيضا بطريقة المراوزة، وهما عبارتان عندهم عن شيء واحد، والخراسانيون نصف المذهب وإنما عبروا بالمراوزة عن الخراسانيين جميعا لأن أكثرهم من مرو وما والاها، والثانية طريقة العراقيين وإنما قدمت طريقة الخراسانيين لكونها من طريقة المصنف، فأقول: اعلم أن مشايخنا الذين انتهت إليهم رياسة المذهب في عصرنا بالجامع الأزهر عمره الله تعالى إلى يوم القيامة، الذين تبركنا بلقائهم واستفدنا من فوائدهم وجلسنا بين أيديهم طبقتان:

الأولى فيها ثلاثة أولهم شيخ الشيوخ على الإطلاق وقدوتهم في تحرير المذهب والمقدم عليهم بالسن والفضل والاستحقاق الشهاب أحمد بن عبد الفتاح بن يوسف المجيري الملوي، والثاني: رفيقه في الشيوخ صاحب التمكين والرسوخ الشهاب أحمد بن الحسن بن [ ص: 300 ] عبد الكريم بن محمد بن يوسف الخالدي، والثالث شيخ الجامع الإمام الجامع المانع شرف الدين عبد الله بن محمد بن عامر بن شرف الدين الشبراوي قدس الله أسرارهم، والطبقة الثانية أيضا فيها ثلاثة: الأول شيخ الشيوخ القطب نجم الدين أبو المكارم محمد بن سالم بن أحمد الحفني، والثاني الشيخ أبو المعالي الحسن بن علي بن محمد المنطاوي، والثالث المحقق عيسى بن أحمد الزبيري قدس الله أرواحهم، وهؤلاء الثلاثة تفقهوا على الثلاثة الأولين وعاصروهم وشاركوهم في بعض شيوخهم فهؤلاء ستة على هذا الترتيب، فتفقه الأول والثاني على جماعة من شيوخ المذهب منصور المنوفي ورضوان الطوخي إمام الأزهر والشهاب أحمد بن محمد بن عطية الخليفي وعبد ربه بن أحمد الديوي والشمس محمد بن منصور الأطفيحي والشهاب أحمد بن الفقيه والشيخ عبد الرؤوف بن محمد البشيشي، وقد تفقه المنوفي والطوخي والخليفي والديوي على الإمام نور الدين أبي الضياء علي بن علي الشبراملسي وتفقه الأطفيحي على الإمام الحافظ شمس الدين محمد بن العلاء البابلي، وتفقه ابن الفقيه على الشمس محمد بن محمد الشرنبابلي، وتفقه عبد الرؤوف على قريبه الشهاب أحمد بن عبد اللطيف البشيشي حينئذ، وتفقه شيخنا الثالث والرابع أيضا على الشهاب الخليفي وهو أيضا على الشمس محمد بن داود بن سليمان العناني هو والشبراملسي تفقها على النور علي بن إبراهيم بن علي بن عمر الحلبي صاحب السيرة، وتفقه شيخنا الخامس والثالث أيضا على منصور المنوفي وهو أيضا على الشهاب البشيشي وأحمد بن أحمد بن أحمد السندوبي والشمس الشرنبابلي، وتفقه الخليفي أيضا على الجمال منصور بن عبد الرزاق الطوخي والشهاب البشيشي، وهما والشرنبابلي أيضا على أبي العزائم سلطان بن أحمد بن سلامة المزاحي ح وتفقه البابلي والشبراملسي أيضا والمزاحي على النور علي بن يحيى الزيادي ح وتفقه البابلي والشبراملسي أيضا على كل من الشهاب أحمد بن خليل السبكي والشيخ عبد الرؤوف المناوي شارح الجامع الصغير وسليمان بن عبد الدائم البابلي وسالم بن حسن الشبشيري وعبد الله بن عبد الرحمن الدنوشري هم والنور الحلبي تفقهوا على الإمام نجم الدين محمد بن أحمد الغيطي وبعض هؤلاء تفقه على الشمس محمد بن أحمد بن أحمد بن حمزة الرملي وبعضهم تفقه على الخطيب الشربيني وبعضهم على يوسف بن زكريا ح وتفقه الزيادي على الشهاب عميرة البرلسي والشهاب أحمد بن محمد بن حجر المكي والشهاب أحمد بن صالح البلقيني والشهاب أحمد بن أحمد بن حمزة الرملي وهم جميعا تفقهوا على شيخ الإسلام زكريا بن محمد الأنصاري وعلى الجلال محمد بن أحمد المحلي وعلى الجلال عبد الرحمن بن عمر بن رسلان البلقيني ح، وتفقه يوسف بن زكريا أيضا على الحافظين الشمس أبي الخير محمد بن عبد الرحمن السخاوي والجلال بن أبي الفضل عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، وهم تفقهوا وشيخ الإسلام أيضا على الإمام علم الدين صالح بن عمر البلقيني، وتفقه شيخ الإسلام والسخاوي أيضا على الحافظ شهاب الدين أبي الفضل أحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني، وتفقه شيخ الإسلام وحده على الشمس محمد بن علي القاياتي هو والحافظ ابن حجر وصالح البلقيني والجلال البلقيني تفقهوا على شيخ الإسلام سراج الدين عمر بن رسلان البلقيني، وهو تفقه على السراج أبي حفص عمر بن محمد بن الكتنائي نزيل دمشق، وهو تفقه على الشيخ تاج الدين عبد الرحمن بن إبراهيم الفزاري الشهير بابن الفركا ح وتفقه السراج البلقيني أيضا على الشيخ صلاح الدين أبي سعيد خليل بن كيكادي العلائي وهو على ابن الفركا ح وهو تفقه على الإمام أبي محمد العز عبد العزيز بن عبد السلام السلمي وهو تفقه على الإمام فخر الدين أبي منصور عبد الرحمن بن محمد بن الحسن بن عساكر الدمشقي وهو تفقه على القطب أبي المعالي مسعود بن محمد بن مسعود النيسابوري ح، وتفقه الحافظ ابن حجر أيضا على الحافظ زين الدين أبي الفضل عبد الرحيم بن الحسين العراقي، وهو تفقه على كل من الجمال عبد الرحيم بن الحسين الإسنوي صاحب المهمات والحافظ تقي الدين أبي الحسن علي بن عبد الكافي السبكي شارح المنهاج وأبي الحسن علي بن إبراهيم بن داود بن سلمان العطار الدمشقي، فالإسنوي والسبكي [ ص: 301 ] تفقها على الإمام نجم الدين أحمد بن محمد بن الرفعة صاحب المطلب ح، وتفقه السراج البلقيني أيضا على الإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن عدلان هو وابن الرفعة تفقها على ظهير الدين جعفر بن يحيى التزمنتي، وتفقه ابن عدلان أيضا على الوجيه عبد الوهاب البهنسي هو والتزمنتي تفقها على أبي الحسن علي بن هبة الله ابن بنت الجميزي وتفقه ابن عدلان أيضا على العماد أبي القاسم عبد الرحمن بن عبد العلي بن السكري مدرس التاج والوجوه السبع هو وابن بنت الجميزي تفقها على محمد بن محمود الطوسي ح، وأما أبو الحسن العطار شيخ العراقي فتفقه على محرر المذهب الإمام محيي الدين يحيى بن شرف النواوي وهو تفقه على الجمال أبي الحسن سلار بن الحسن الإربلي وهو تفقه على محمد بن محمد صاحب الشامل الصغير، وهو تفقه على النجم عبد الغفار بن عبد الكريم القزويني صاحب الحاوي، وهو تفقه على محرر المذهب الإمام أبي القاسم عبد الكريم بن محمد الرافعي، وإذا أطلق لفظ الشيخين فإنما يعني هو والنووي، هو والطوسي تفقها على الإمام أبي بكر محمد بن الفضل، وهو تفقه على الإمام أبي عبد الله محمد بن يحيى بن أبي منصور النيسابوري وأبي حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي مؤلف هذا الكتاب ح، وتفقه النووي أيضا على أبي إبراهيم إسحاق بن أحمد بن عثمان المغربي وأبي محمد عبد الرحمن بن نوح بن محمد بن إبراهيم بن موسى المقدسي وأبي حفص عمر بن أسعد بن أبي غالب الإربلي وهم مع التاج الفزاري أيضا تفقهوا على الإمام أبي عمر عثمان بن عبد الرحمن الشهير بابن الصلاح وهو على والده صلاح الدين عبد الرحمن بن عثمان وهو على أبي القاسم بن البرزي الجزري، وتفقه سلار أيضا على الإمام أبي بكر الماهاني وهو على ابن البرزي وهو على أبي الحسن علي بن محمد بن علي الهراسي الشهير بإلكيا، تفقه هو والخوافي والإمام الغزالي على إمام الحرمين أبي المعالي عبد الملك وهو على والده ركن الإسلام أبي محمد عبد الله بن يوسف بن الجويني وهو على إمام طريقة خراسان الإمام أبي بكر عبد الله بن أحمد القفال المروزي الصغير، وهو تفقه على الإمام ابن زيد محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد المروزي ح، وأما طريقة العراقيين فبالسند المتقدم إلى ابن الصلاح وهو على والده هو وابن بنت الجميزي تفقها أيضا على أبي سعيد عبد الله بن محمد بن هبة الله بن علي بن أبي عصرون الموصلي، وهو تفقه على القاضي أبي علي الحسن الفارقي وهو على الإمام أبي إسحاق إبراهيم بن علي الفيروزآبادي الشهير بالشيرازي ح، وتفقه ابن بنت الجميزي أيضا على البرهان العراقي وهو على أبي الحسن البغدادي، وهو على فجر الإسلام الشاشي وهو والفارقي أيضا تفقها على أبي نصر عبد السيد بن محمد بن الصباغ صاحب العدة هو وأبو إسحاق الشيرازي تفقها على القاضي أبي الطيب طاهر بن عبد الله الطبري، وتفقه صاحب العدة أيضا على القاضي أبي علي الحسين بن محمد المروزي، وهو تفقه على أبي بكر القفال بالسند المتقدم في الطريقة الخراسانية.

(تنبيه)

قال النووي في التهذيب: اعلم أنه متى أطلق القاضي في كتب متأخري الخراسانيين كالنهاية والتتمة والتهذيب وكتب الغزالي ونحوها فالمراد القاضي حسين هذا صاحب التعليقة، ومتى أطلق القاضي في كتب متوسطي العراقيين فالمراد القاضي أبو حامد المروزي، ومتى أطلق في كتب الأصول لأصحابها فالمراد القاضي أبو بكر الباقلاني المالكي في الفروع، ومتى أطلق في كتب المعرفة أو في كتب أصحابنا الأصوليين حكاية عن المعتزلة فالمراد القاضي الجبائي. . وتفقه القاضي أبو الطيب على الإمام أبي الحسن محمد بن علي بن سهل الماسرجسي ح، وتفقه البرهان العراقي أيضا على القاضي مجلي بن جميع صاحب الذخائر وهو على سلطان المقدسي وهو على الشيخ أبي الفتح نصر المقدسي الزاهد وهو على الشيخ أبي الفتح سليم بن أيوب الرازي وهو والقاضي أبو الطيب أيضا على الإمام أبي حامد الإسفراييني، وهو تفقه على الإمام أبي القاسم عبد العزيز الداركي هو والماسرجسي وأبو زيد المروزي في سند الخراسانيين تفقهوا على أبي إسحاق إبراهيم بن محمد المروزي، وهو تفقه على أبي العباس أحمد بن عمر بن سريج الملقب بالباز [ ص: 302 ] الأشهب وهو على الإمام أبي القاسم عثمان بن سعيد الأنماطي ح، وتفقه والد إمام الحرمين أيضا على الإمام أبي الطيب سهل بن محمد بن سليمان بن محمد بن سليمان بن موسى بن عيسى بن إبراهيم الصعلوكي العجلي، وهو على أبيه أبي سهل محمد بن سليمان، وهو على إمام الأئمة أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة السلمي النيسابوري هو والأنماطي تفقها على الإمامين الكبيرين أبي محمد الربيع بن سليمان بن عبد الجبار بن كامل المرادي وأبي إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني، وحيث أطلق في كتب المذهب الربيع فالمراد به المرادي، وإذا أرادوا الجيزي قيدوا، وليس للجيزي ذكر في كتب المذهب إلا في موضع واحد في كتاب المهذب في دباغ جلد الميتة، وفي شهادات الروضة، وهما تفقها على إمام الأئمة وسراج هذه الأمة أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي إمام المذهب رضي الله عنه وعمن أحبه، وهو تفقه على جماعات منهم أبو عبد الله مالك بن أنس إمام المدينة ومنهم أبو محمد سفيان بن عيينة الهلالي ومنهم أبو خالد مسلم بن خالد الزنجي مفتي مكة وإمام أهلها، فأما مالك تفقه على ربيعة بن أبي عبد الرحمن الرأي، ونافع مولى ابن عمر، وتفقه ربيعة على أنس بن مالك، وتفقه نافع على مولاه عبد الله بن عمر بن الخطاب، وأما سفيان تفقه على عمرو بن دينار وهو على ابن عمر وابن عباس، وأما مسلم الزنجي تفقه على أبي الوليد عبد الملك بن عبد العزيز بن أبي جريج، وهو على أبي محمد عطاء بن أبي رباح، وهو على عبد الله بن عباس، وهو على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وآخرين، وهم وابن عمر وابن عباس أيضا وأنس بن مالك أخذوا عن سيد المرسلين وخاتم النبيين وقائد الغر المحجلين أبي القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم صفوة رب العالمين صلى الله عليه وسلم، وشرف وكرم ومجد وعظم، وعلى آله وصحبه وعترته وتابعيه كلما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون، فهذا مختصر السلسلة، ومعلوم أن كل واحد من هؤلاء المذكورين أخذ عن جماعة بل جماعات، لكن أردت الاختصار في السياق لئلا يمله ناظره، واقتصرت على ذكر بعض شيوخ كل واحد من المشاهير، وذكرت أجلهم وأشهرهم، ولو أردت الاستقصاء بذكر مجموع ما عندي في أسانيدهم وغريب سياقاتهم لطال المطال وآل الأمر إلى الملال، وهذه خاتمة الفصول العشرة، وبها تتم ديباجة الكتاب، ثم نشرع بعون الله تعالى في حل كلام المصنف، والله أسأل أن يمن علي بإتمامه وإكماله بحسن نظامه بمنه وكرمه وإنعامه، وهو ولي الإحسان لا إله غيره ولا خير إلا خيره، وحسبنا الله ونعم الوكيل .

التالي السابق


الخدمات العلمية