إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
والطهارة في كل رتبة نصف العمل الذي فيها فإن الغاية القصوى في عمل السر أن ينكشف له جلال الله تعالى وعظمته ولن تحل معرفة الله تعالى بالحقيقة في السر ما لم يرتحل ما سوى الله تعالى عنه .

ولذلك قال الله عز وجل: قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون لأنهما لا يجتمعان في قلب وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وأما عمل القلب فالغاية القصوى عمارته بالأخلاق المحمودة والعقائد المشروعة ولن يتصف بها ما لم ينظف عن نقائضها من العقائد الفاسدة والرذائل الممقوتة فتطهيره أحد الشطرين وهو الشطر الأول الذي هو شرط في الثاني فكان الطهور شطر الإيمان بهذا المعنى وكذلك تطهير الجوارح عن المناهي أحد الشطرين وهو الشطر الأول الذي هو شرط في الثاني فتطهيره أحد الشطرين وهو الشطر الأول وعمارتها بالطاعات الشطر الثاني فهذه مقامات الإيمان ولكل مقام طبقة ولن ينال العبد الطبقة العالية إلا أن يجاوز الطبقة السافلة فلا يصل إلى طهارة السر عن الصفات المذمومة وعمارته بالمحمودة ما لم يفرغ من طهارة القلب عن الخلق المذموم وعمارته بالخلق المحمود ولن يصل إلى ذلك من لم يفرغ عن طهارة الجوارح عن المناهي وعمارتها بالطاعات وكلما عز المطلوب وشرف صعب مسلكه وطال طريقه وكثرت عقباته فلا تظن أن هذا الأمر يدرك وينال بالهوينى : نعم من عميت بصيرته عن تفاوت هذه الطبقات لم يفهم من مراتب الطهارة إلا الدرجة الأخيرة التي هي كالقشرة الأخيرة الظاهرة بالإضافة إلى اللب المطلوب فصار يمعن فيها ويستقصي في مجاريها ويستوعب جميع أوقاته في الاستنجاء وغسل الثياب وتنظيف الظاهر وطلب المياه الجارية الكثيرة ظنا منه بحكم الوسوسة وتخيل العقل أن الطهارة المطلوبة الشريفة هي هذه فقط وجهالة بسيرة الأولين واستغراقهم جميع الهم والفكر في تطهير القلب وتساهلهم في أمر الظاهر حتى إن عمر رضي الله عنه مع علو منصبه توضأ من ماء في جرة نصرانية وحتى إنهم ما كانوا يغسلون اليد من الدسومات والأطعمة بل كانوا يمسحون أصابعهم بأخمص أقدامهم وعدوا الأشنان من البدع المحدثة ولقد كانوا يصلون على الأرض في المساجد ويمشون حفاة في الطرقات ومن كان لا يجعل بينه وبين الأرض حاجزا في مضجعه كان من أكابرهم وكانوا يقتصرون على الحجارة في الاستنجاء .


ثم قال المصنف: (والطهارة في كل رتبة) من الرتب المذكورة (نصف العمل الذي فيها فإن الغاية القصوى) تأنيث الأقصى وهي التي ما بعدها غاية (في عمل السر) الذي هو باطن القلب (أن ينكشف له جلال الله وعظمته) وكبرياؤه بحيث يغمر لبه فلا يرى إلا هو ولا يسمع إلا هو، والجلال هنا التناهي في عظم القدر، وخص به تعالى فتبارك ذو الجلال، ولم يستعمل في غيره، والعظمة تقرب من الجلال (ولن تحل معرفة الله سبحانه بالحقيقة في السر) حلولا حقيقيا (ما لم يرتحل ما سوى الله عز وجل عنه) ومتى انكشفت سبحات الجلال ارتفعت خطرات السوى واحترقت (ولذلك قال الله تعالى) مخاطبا لحبيبه صلى الله عليه وسلم (قل) يا (الله ثم ذرهم) أي اتركهم، هذا الاسم لكمال دلالته على الذات الأحدية كان حضرة الأسماء كلها، فمن عرف الله عرف كل شيء، ولا يعرف الله من فاته معرفة شيء من الأشياء؛ لأن حكم الواحد من الأسماء حكم الكل في الدلالة على العلم بالله، وفي قوله: ثم ذرهم إشارة إلى التخلي عن السوى بعد انكشاف صفة الجمال والعظمة، وسمى احتجابهم عن هذا المقام خوضا فقال في خوضهم يلعبون (لأنهما) أي معرفة الحق والركون إلى السوى ضدان (لا يجتمعان في قلب) مؤمن قط فضلا من سره (و) يدل عليه قوله تعالى: ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه فالقلب ليس له إلا وجهة واحدة، وقد تقدم تفسير هذه الآية في كتاب العلم (وأما عمل القلب) الذي هو تطهيره عن الأخلاق الذميمة (فالغاية القصوى عمارته بالأخلاق المحمودة) التي أثنى الله عليها في كتابه من الحمد والرضا والتسليم والشكر والصبر والحياء والخوف والخشية واليقين وغير ذلك مما سيأتي بيانها للمصنف (والعقائد المشروعة) أي الثابتة بالشرع المتلقاة بالسمع المصونة عن الزيغ والزلل، فعقد القلب على مثلها مما يعمر القلب بالأنوار الإلهية والتجليات الكشفية (ولن يتصف بها) أي بتلك الأخلاق والعقائد (ما لم يتنظف) ويتطهر (من نقائضها) وأضدادها (من العقائد الفاسدة) الزائغة عن طريق الحق وأهله (والرذائل المذمومة فتطهيره) الذي هو التحلي بعد التخلي (أحد الشطرين وهو الشطر الأول الذي هو شرط في الثاني) فالشطر جزء الماهية منه قوامها والشرط خارج عنها يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته (فكان الطهور شطر الإيمان) الذي أخرجه مسلم وغيره (بهذا المعنى) فكان ماهية الإيمان عبارة عن شطرين أحدهما التصديق الباطن والثاني تطهير الباطن، ولن يحل التصديق بالحقيقة في الباطن ما لم يكن بطهارته قابلا لحلوله فيه، وهو ملحظ غريب (وكذلك) الكلام في (تطهير الجوارح عن المناهي) والكف عنها (أحد الشطرين) ، وهو الشطر الأول الذي هو شرط في الثاني (وعمارتها بالطاعات) المقربة لرب الأرباب هو (الشطر الثاني) فالأول الذي جعل شطرا أولا بمنزلة الشرط في الثاني في توقفه عليه فتأمل، ولم يذكر للرتبة الأولى غاية لظهوره، فإن تطهير الظاهر شطر، وعمارته بالعبادات المفروضة شطر، ولا يتم أداؤها إلا بالأول فصار الشطر الأول شرطا في الثاني (وهذه مقامات الإيمان) تتفاوت بتفاوت المتصفين به، وخلاصته أن التخلية نصف الإيمان، والتحلية نصف الإيمان، وبهما كمال العرفان (ولكل مقام) منها (طبقة) عليا وطبقة سفلى وطبقة وسطى (ولن ينال العبد) [ ص: 306 ] السالك في طريقه (الطبقة العالية) منها (إلا أن يجاوز) بهمته الجاذبة وقوته الماسكة الطبقة الوسطى، ثم يستقر فيها ريثما يتمكن من الانصياع بها وتجري عليه أحكامها ولن ينالها إلا أن يجاوز (الطبقة السافلة) بعد التمكن فيها وجريان أحكامها عليه (فلا يصل إلى) مقام (طهارة السر عن الصفات المذمومة) والتخلية عنها ثم (عمارته بالمحمودة) منها (من لم يفرغ من طهارة القلب عن الخلق المذموم وعمارته بالمحمود) على قدر المجهود (ولن يصل إلى ذلك من لم يفرغ عن طهارة الجوارح) الظاهرة (عن المناهي) الفاجرة (وعمارتها بالطاعات) الواجبة المختلفة من القيام والقراءة والركوع والسجود والقعود (وكلما عز المطلب) وفي نسخة المطلوب (وشرف) مقامه (صعب مسلكه) على السالكين (وطال طريقه) على الناهجين (وكثرت عقباته) على الراحلين (والعقبة) محركة هي الثنية بين الجبلين يصعب ارتقاؤها (فلا تظنن) أيها السالك في طريق الحق بالرقي (أن هذا الأمر) الذي ذكرته لك (يدرك بالمنى) أي بتمني النفس وتشوقها (وينال) وصوله (بالهوينى) أي بالسهولة، كلا والله .


كيف الوصول إلى سعاد ودونها قلل الجبال ودونهن حتوف

(قال الله تعالى: ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب الآية) ، ولكن إذا وفق الله السالك بخدمة مرشد محق كامل وصادفته العناية نقله من مقام لمقام بأدنى إلمام فعليك باستصحاب إخوان الصدق والصفا لترقى مراتب الكمال وتحظى برتبة الاصطفاء (نعم من عميت بصيرته) أي عدم نور قلبه (عن) إدراك (تفاوت هذه الطبقات) وتميزها وإعطاء كل مقام حقه (لم يفهم من مراتب الطهارة إلا الدرجة الأخيرة) وهي الأولى (التي هي كالقشر الأخير الظاهر) للعيان (بالإضافة) أي النسبة (إلى اللب) الذي هو داخل الداخل، وهو (المطلوب) الأعظم (فصار يمعن فيه ويستقصي في مجاريه) أمعن في الطلب إذا بالغ في الاستقصاء، والاستقصاء طلب النهاية (ويستوعب جميع أوقاته) أي يستغرقها (في الاستنجاء) بالماء والتشديد فيه حتى إن أحدهم لا يكتفي بالماء، بل يعد لنفسه خرقا يتبعها مواضع الغائط مسحا ويبالغ فيه ومنهم من يدخل أصابعه في حلقه الدبر يزعم أنه كمال النظافة ومنهم من يمعن في الاستبراء حتى إن بعضهم يدخل قطعا صغارا من المدر في رأس الذكر يريد بذلك تنشيف الرطوبة، ولهم في الاستنجاء تنطعات كثيرة وعامتها من وسواس الشيطان (و) يمعن في (غسل الثياب) ويشدد فيه بأنواع من الصابون وغيره ويعد غسالتها نجسة، وإن كانت الثياب طاهرة، بل ربما لا يوجد فيها إلا بعض العرق ويسمي الماء الأخير الذي تغسل به ماء الشهادة، وهذا أيضا من الوسواس (و) يمعن أيضا في (تنظيف الظاهر) من الجسد دلكا ومعكا (و) يمعن أيضا في (طلب المياه الجارية الكثيرة) الغزيرة للاغتسال وغسل الثياب (ظنا منه بحكم الوسوسة) الشيطانية (وتخبل العقل) وفي بعض النسخ وخبل العقل أي فساده (أن الطهارة المطلوبة) من العبد (الشريفة) عند الله (هي هذه) التي ذكرت من تنقية الظاهر والثياب (فقط) ليس إلا (وجهلا) منه (بسيرة الأولين) من السلف الصالحين أي طريقتهم (واستغراقهم) أي السلف (جميع الهم) أي العزم والقصد (والوكد) بفتحتين أي التأكيد (في تطهير القلوب) والبواطن عن أقذار المعاصي وأوساخ المخالفات (وتساهلهم) كثيرا (في أمر الظاهر) ، كما يعرفه من مارس أخبارهم وطالع تراجمهم في كتاب الحلية والقوت (حتى إن عمر) بن الخطاب (رضي الله عنه مع علو منصبه) ورفعة مقامه وكونه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمير المؤمنين (توضأ بماء) حميم (في جرة نصرانية) هكذا جاء في رواية كريمة المروزية في صحيح البخاري بلفظ: وتوضأ عمر بالحميم من بيت نصرانية، والحميم الماء المسخن، والصحيح أنهما أثران مستقلان الأول توضأ عمر بالحميم، أخرجه سعيد بن منصور وعبد الرزاق وغيرهما بإسناد صحيح، وأما الثاني فأخرجه الشافعي في مسنده وعبد الرزاق وغيرهما عن سفيان بن عيينة عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر رضي الله عنه توضأ من ماء نصرانية في جرة نصرانية، لكن ابن عيينة لم يسمع من زيد بن أسلم فقد رواه البيهقي في السنن من [ ص: 307 ] طريق سعدان بن نصر عنه قال: حدثونا عن زيد بن أسلم ولم أسمعه عن أبيه قال: لما كنا بالشام أتيت عمر بماء فتوضأ منه فقال من أين جئت بهذا؟ فما رأيت ماء عد ولا ماء سماء أطيب منه، قال: قلت: من بيت هذه العجوز النصرانية، فلما توضأ أتاها فقال: أيتها العجوز أسلمي تسلمي فذكره مطولا، وقد دل وضوء عمر رضي الله عنه من جرة النصرانية على تساهله في الأمور الظواهر وعدم التعمق فيها، وعلى جواز استعمال مياه الكفار، ولا خلاف في استعمال سؤر النصرانية; لأنه طاهر خلافا لأحمد وإسحاق وأهل الظاهر، واختلف قول مالك ففي المدونة: لا يتوضأ بسؤر النصراني ولا بما أدخل يده فيه، وفي العتبية أجازه مرة وكرهه أخرى (وحتى إنهم) أي السلف (ما كانوا يغسلون اليد عن الدسومات) والدسم محركة الودك من لحم وشحم (و) عن (الأطعمة) أي عقيبها (بل كانوا يمسحون أصابعهم) بعد الأطعمة (بأخمص أقدامهم) أي بواطنها، وقد خمصت القدم خمصا من باب تعب، ارتفعت عن الأرض فلم تمسها فالرجل أخمص القدم والجمع خمص كأحمر وحمر لأنه صفة، فإن جمعت القدم نفسها قلت: الأخامص (وعدوا) غسل اليد بعد الطعام (بالأشنان من البدع المحدثة) التي أحدثت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأشنان بالضم والكسر الحرض معرب وتقديره فعلان (ولقد كانوا يصلون على الأرض) من غير حاجز (في المساجد) ، وكان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مفروشا بالحصباء والرمل، وأول من فرش المساجد بالحصر الحجاج فأنكروا عليه، وصلى قتادة مرة على حصير في المساجد، وكان كفيفا فدخلت شوكة الحصير في عينه عند السجود فلعن الحجاج، (ويمشون) غالبا (حفاة) أي من غير نعل (في الطرقات) جمع جمع الطريق (ومن كان لا يجعل بينه وبين التراب حاجزا) أي مانعا (في مضجعه) ومقعده (كان) يعد (من أكابرهم) ورؤسائهم; لأنه علامة دالة على التواضع وترك التكلف في المعيشة وعدم الاعتناء بها (وكانوا يقتصرون على الحجارة في الاستنجاء) ولا يتبعونها ماء، وقد ثبت الاقتصار على الحجارة من فعله صلى الله عليه وسلم من ذلك ما أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة، فلما قضى صلى الله عليه وسلم أتبعه بهن أي ألحق المحل بالأحجار وكنى به عن الاستنجاء، وأخرج ابن أبي شيبة بأسانيد صحيحة عن حذيفة بن اليمان أنه سئل عن الاستنجاء بالماء فقال: إذا لا يزال في يدي نتن، وعن نافع عن ابن عمر: كان لا يستنجي بالماء، وعن الزهري: ما كنا نفعله، وعن سعيد بن المسيب أنه سئل عن الاستنجاء بالماء فقال: إنه وضوء النساء، فهذه الآثار كلها دالة على أنهم كانوا يقتصرون في غالب الأوقات على الأحجار، ولا سبيل لمن تمسك بها على كراهة الاستنجاء بالماء فقد ثبت من فعله صلى الله عليه وسلم ذلك أيضا، وذلك فيما رواه البخاري في صحيحه من حديث أنس كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج لحاجته أجيء أنا وغلام معنا إداوة من ماء يعني ليستنجي به. وأخرج مسلم من طريق خالد الحذاء عن عطاء عن أنس: فخرج علينا وقد استنجى بالماء.

وأخرج ابن خزيمة في صحيحه من حديث جرير، فأتاه جرير بإداوة من ماء فاستنجى بها، وفي صحيح ابن حبان من حديث عائشة: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من غائط قط إلا من ماء. فما ذكره المصنف من أحوال السلف يحمل على أغلب أحوالهم، والمراد أنهم ما كانوا يتعمقون في أمر الاستنجاء .

التالي السابق


الخدمات العلمية