كيف الوصول إلى سعاد ودونها قلل الجبال ودونهن حتوف
(قال الله تعالى: ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب الآية) ، ولكن إذا وفق الله السالك بخدمة مرشد محق كامل وصادفته العناية نقله من مقام لمقام بأدنى إلمام فعليك باستصحاب إخوان الصدق والصفا لترقى مراتب الكمال وتحظى برتبة الاصطفاء (نعم من عميت بصيرته) أي عدم نور قلبه (عن) إدراك (تفاوت هذه الطبقات) وتميزها وإعطاء كل مقام حقه (لم يفهم من مراتب الطهارة إلا الدرجة الأخيرة) وهي الأولى (التي هي كالقشر الأخير الظاهر) للعيان (بالإضافة) أي النسبة (إلى اللب) الذي هو داخل الداخل، وهو (المطلوب) الأعظم (فصار يمعن فيه ويستقصي في مجاريه) أمعن في الطلب إذا بالغ في الاستقصاء، والاستقصاء طلب النهاية (ويستوعب جميع أوقاته) أي يستغرقها (في الاستنجاء) بالماء والتشديد فيه حتى إن أحدهم لا يكتفي بالماء، بل يعد لنفسه خرقا يتبعها مواضع الغائط مسحا ويبالغ فيه ومنهم من يدخل أصابعه في حلقه الدبر يزعم أنه كمال النظافة ومنهم من يمعن في الاستبراء حتى إن بعضهم يدخل قطعا صغارا من المدر في رأس الذكر يريد بذلك تنشيف الرطوبة، ولهم في الاستنجاء تنطعات كثيرة وعامتها من وسواس الشيطان (و) يمعن في (غسل الثياب) ويشدد فيه بأنواع من الصابون وغيره ويعد غسالتها نجسة، وإن كانت الثياب طاهرة، بل ربما لا يوجد فيها إلا بعض العرق ويسمي الماء الأخير الذي تغسل به ماء الشهادة، وهذا أيضا من الوسواس (و) يمعن أيضا في (تنظيف الظاهر) من الجسد دلكا ومعكا (و) يمعن أيضا في (طلب المياه الجارية الكثيرة) الغزيرة للاغتسال وغسل الثياب (ظنا منه بحكم الوسوسة) الشيطانية (وتخبل العقل) وفي بعض النسخ وخبل العقل أي فساده (أن الطهارة المطلوبة) من العبد (الشريفة) عند الله (هي هذه) التي ذكرت من تنقية الظاهر والثياب (فقط) ليس إلا (وجهلا) منه (بسيرة الأولين) من السلف الصالحين أي طريقتهم (واستغراقهم) أي السلف (جميع الهم) أي العزم والقصد (والوكد) بفتحتين أي التأكيد (في تطهير القلوب) والبواطن عن أقذار المعاصي وأوساخ المخالفات (وتساهلهم) كثيرا (في أمر الظاهر) ، كما يعرفه من مارس أخبارهم وطالع تراجمهم في كتاب الحلية والقوت (حتى إن عمر) بن الخطاب (رضي الله عنه مع علو منصبه) ورفعة مقامه وكونه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمير المؤمنين (توضأ بماء) حميم (في جرة نصرانية) هكذا جاء في رواية كريمة المروزية في صحيح البخاري بلفظ: وتوضأ عمر بالحميم من بيت نصرانية، والحميم الماء المسخن، والصحيح أنهما أثران مستقلان الأول توضأ عمر بالحميم، أخرجه سعيد بن منصور وعبد الرزاق وغيرهما بإسناد صحيح، وأما الثاني فأخرجه الشافعي في مسنده وعبد الرزاق وغيرهما عن سفيان بن عيينة عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر رضي الله عنه توضأ من ماء نصرانية في جرة نصرانية، لكن ابن عيينة لم يسمع من زيد بن أسلم فقد رواه البيهقي في السنن من [ ص: 307 ] طريق سعدان بن نصر عنه قال: حدثونا عن زيد بن أسلم ولم أسمعه عن أبيه قال: لما كنا بالشام أتيت عمر بماء فتوضأ منه فقال من أين جئت بهذا؟ فما رأيت ماء عد ولا ماء سماء أطيب منه، قال: قلت: من بيت هذه العجوز النصرانية، فلما توضأ أتاها فقال: أيتها العجوز أسلمي تسلمي فذكره مطولا، وقد دل وضوء عمر رضي الله عنه من جرة النصرانية على تساهله في الأمور الظواهر وعدم التعمق فيها، وعلى جواز استعمال مياه الكفار، ولا خلاف في استعمال سؤر النصرانية; لأنه طاهر خلافا لأحمد وإسحاق وأهل الظاهر، واختلف قول مالك ففي المدونة: لا يتوضأ بسؤر النصراني ولا بما أدخل يده فيه، وفي العتبية أجازه مرة وكرهه أخرى (وحتى إنهم) أي السلف (ما كانوا يغسلون اليد عن الدسومات) والدسم محركة الودك من لحم وشحم (و) عن (الأطعمة) أي عقيبها (بل كانوا يمسحون أصابعهم) بعد الأطعمة (بأخمص أقدامهم) أي بواطنها، وقد خمصت القدم خمصا من باب تعب، ارتفعت عن الأرض فلم تمسها فالرجل أخمص القدم والجمع خمص كأحمر وحمر لأنه صفة، فإن جمعت القدم نفسها قلت: الأخامص (وعدوا) غسل اليد بعد الطعام (بالأشنان من البدع المحدثة) التي أحدثت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأشنان بالضم والكسر الحرض معرب وتقديره فعلان (ولقد كانوا يصلون على الأرض) من غير حاجز (في المساجد) ، وكان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مفروشا بالحصباء والرمل، وأول من فرش المساجد بالحصر الحجاج فأنكروا عليه، وصلى قتادة مرة على حصير في المساجد، وكان كفيفا فدخلت شوكة الحصير في عينه عند السجود فلعن الحجاج، (ويمشون) غالبا (حفاة) أي من غير نعل (في الطرقات) جمع جمع الطريق (ومن كان لا يجعل بينه وبين التراب حاجزا) أي مانعا (في مضجعه) ومقعده (كان) يعد (من أكابرهم) ورؤسائهم; لأنه علامة دالة على التواضع وترك التكلف في المعيشة وعدم الاعتناء بها (وكانوا يقتصرون على الحجارة في الاستنجاء) ولا يتبعونها ماء، وقد ثبت الاقتصار على الحجارة من فعله صلى الله عليه وسلم من ذلك ما أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة، فلما قضى صلى الله عليه وسلم أتبعه بهن أي ألحق المحل بالأحجار وكنى به عن الاستنجاء، وأخرج ابن أبي شيبة بأسانيد صحيحة عن حذيفة بن اليمان أنه سئل عن الاستنجاء بالماء فقال: إذا لا يزال في يدي نتن، وعن نافع عن ابن عمر: كان لا يستنجي بالماء، وعن الزهري: ما كنا نفعله، وعن سعيد بن المسيب أنه سئل عن الاستنجاء بالماء فقال: إنه وضوء النساء، فهذه الآثار كلها دالة على أنهم كانوا يقتصرون في غالب الأوقات على الأحجار، ولا سبيل لمن تمسك بها على كراهة الاستنجاء بالماء فقد ثبت من فعله صلى الله عليه وسلم ذلك أيضا، وذلك فيما رواه البخاري في صحيحه من حديث أنس كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج لحاجته أجيء أنا وغلام معنا إداوة من ماء يعني ليستنجي به. وأخرج مسلم من طريق خالد الحذاء عن عطاء عن أنس: فخرج علينا وقد استنجى بالماء.