إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وقال أبو هريرة وغيره من أهل الصفة كنا نأكل الشواء فتقام الصلاة فندخل أصابعنا في الحصى ثم نفركها بالتراب ونكبر وقال عمر رضي الله عنه : ما كنا نعرف الأشنان في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما كانت مناديلنا بطون أرجلنا كنا إذا أكلنا الغمر مسحنا بها ويقال أول ما ظهر من البدع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع المناخل والأشنان والموائد والشبع .


(وقال أبو هريرة وغيره من أهل الصفة رضي الله عنهم) والمراد بالصفة صفة المسجد النبوي، وكان يأوي إليها جماعة من فقراء الصحابة وقد جمعهم أبو نعيم في كتاب الحلية، وذكر من أوصافهم (كنا نأكل الشواء) أي اللحم المشوي (فتقام الصلاة فندخل أصابعنا في الحصباء) أي الحصيات الصغار التي في المسجد (ثم نفركها بالتراب) أي لإزالة دسمه (ونكبر) أي ندخل في الصلاة مع الإمام بتكبيرة الإحرام.

قال العراقي: أخرجه ابن ماجه من حديث عبد الله بن الحارث بن جزء، ولم أره من حديث أبي هريرة. . قلت: وهو في كتاب أسماء من دخل مصر من الصحابة تأليف أبي عبد الله محمد بن الربيع بن سليمان بن داود الجيزي رحمه الله تعالى في ترجمة عبد الله بن الحارث بن جزء المذكور، وكان شهد فتح مصر واختط بها، قال: حدثنا سعد بن [ ص: 308 ] عبد الله بن عبد الحكم، حدثني أبي أخبرنا ابن لهيعة عن سليمان بن زياد عن عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي أنه قال: أكلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما قد مسته النار في المسجد ثم أقيمت الصلاة فمسحنا أيدينا بالحصباء ثم قمنا نصلي ولم نتوضأ. وقال أيضا: حدثنا أحمد بن عبد الرحمن حدثنا عمي عبد الله بن وهب حدثني ابن لهيعة عن سليمان بن زياد الحضرمي عن عبد الله بن الحارث بن جزء قال: أكلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم شواء في المسجد فأقيمت الصلاة فأدخلنا أيدينا في الحصباء ثم قمنا فصلينا ولم نتوضأ. وقال أيضا وحدثني أبو بكر أحمد بن محمد بن أبي نافع حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح حدثنا أبو يزيد عبد الملك بن أبي كريمة أخبرنا عتبة بن لعامة المرادي قال: قدم علينا عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي فسمعته يحدث في مسجد مصر قيل له ما تقول فيما مست النار قال وما مست النار قال اللحم المنضوج يأكله الناس فقال لقد رأيتني وأنا سابع سبعة أو سادس ستة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار رجل فمر بلال فناداه بالصلاة فخرجنا فمررنا برجل وبرمته على النار فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أطابت برمتك قال نعم بأبي أنت وأمي فتناول منها بضعة فلم يزل يعلكها حتى أحرم بالصلاة وأنا أنظر إليه. . وكان المراد من قول المصنف: وغيره من أهل الصفة، هو عبد الله بن الحارث بن جزء المذكور، وأورد البخاري في باب من لم يتوضأ من لحم الشاة والسويق فقال وأكل أبو بكر وعمر وعثمان فلم يتوضئوا كذا هو في رواية أبي ذر بحذف المفعول، وعند ابن أبي شيبة عن محمد بن المنكدر قال: أكلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر وعمر وعثمان خبزا ولحما فصلوا ولم يتوضئوا، وكذا رواه الترمذي، فإن حمل الوضوء على غسل الأيادي يكون نصا في الباب .

(وقال عمر) بن الخطاب (رضي الله عنه: ما كنا نعرف الأشنان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما كانت مناديلنا بواطن أرجلنا كنا إذا أكلنا الغمر مسحنا بها) .

قال العراقي: لم أجده من حديث عمر، ولابن ماجه نحوه مختصرا من حديث جابر. ، وقد تقدم التعريف بالأشنان، والمناديل جمع منديل بالكسر مشتق من ندلت الشيء إذا جذبته أو أخرجته ونقلته، وهو مذكر قاله ابن الأنباري وجماعة، وتمندل به وتندل تمسح وأنكر الكسائي الميم، والغمر بالفتح الدسم (ويقال أول ما ظهر من البدع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة المناخل والأشنان والموائد والشبع) ونص القوت: ويقال إن أول ما أحدث من البدع أربع الموائد والمناخل والشبع والأشنان، وكانوا يكرهون أن تكون أواني البيت غير الخزف ولا يتوضأ أهل الورع في آنية الصفر. قال الجنيد قال سري اجهد لا تستعمل من آنية بيتك إلا جنسك يعني من الطين، ويقال: لا حساب عليه. . والمناخل جمع منخل بضم الميم ما ينخل به، وهو من النوادر التي وردت بالضم والقياس الكسر لأنه آلة، والأشنان تقدم التعريف به، والموائد جمع مائدة مشتقة من ماد الناس ميدا أعطاهم فاعلة بمعنى مفعولة؛ لأن المالك مادها للناس أي أعطاهم إياها وقيل: من ماد ميدا إذا تحرك فهي اسم فاعل على الباب وقيل: هو الخوان بالكسر والضم والإخوان بكسر الهمزة لغة فيه وقيل: الخوان المائدة ما لم يكن عليها طعام، والخوان معرب ثم إن الأكل على الخوان من عادة المتكبرين والمترفهين إحرازا عن خفض رؤوسهم فالأكل عليه بدعة لكنها جائزة .

وقد روى الترمذي عن أنس: ما أكل النبي صلى الله عليه وسلم على خوان أيضا، وروى أيضا أنه صلى الله عليه وسلم أكل على المائدة، والجمع بينهما أن أنسا قال بحسب علمه فيكون أكثر أحواله أنه لم يأكل على خوان وفي بعض الأحيان أكل عليه لبيان الجواز، ويحتمل أن يراد بالمائدة مطلق السفرة وفي القاموس المائدة الطعام، فإطلاقها على ما يجعل عليه مجاز، من إطلاق الحال على المحل وحينئذ، فلا إشكال أصلا نقله ابن حجر المكي في شرح الشمائل، قلت: وعلى هذا قول المصنف تبعا لصاحب القوت أن الموائد من جملة البدع بمعنى الاستكثار من استعمالها بحيث اعتادوا الأكل عليها فهذا هو المبتدع لأن الموائد لم تكن موجودة يستعملها الناس في بعض الأحيان، وأما المناخل فإنها جعلت لنخل الدقيق [ ص: 309 ] وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته وأصحابه كانوا يأكلون خبز الشعير مع ما في دقيقه من النخالة وغيرها، وفي هذا ترك للتكلف والاعتناء بشأن الطعام فإنه لا يعتني به إلا أهل الحماقة والغفلة والبطالة .

وعند الترمذي من حديث أنس ما رأى النبي صلى الله عليه وسلم منخلا من حين ابتعثه الله حتى قبضه قال ابن حجر المكي: قال بعض المحققين أظنه احترز عما قبل البعثة لكونه صلى الله عليه وسلم كان يسافر في تلك المدة إلى الشام تاجرا، وكانت الشام إذ ذاك مع الروم والخبز النقي عندهم كثير، وكذا المناخل وغيرها من آلات الترفه ولا ريب أنه رأى ذلك عندهم، وأما بعد البعثة فلم يكن إلا بمكة والطائف والمدينة ووصل تبوك من أطراف الشام لكن لم يفتحها ولا طالت إقامته بها. .

والشبع بكسر ففتح الامتلاء الحاصل من الطعام يقال: شبع شبعا، والشبع بكسر فسكون اسم لما يشبع به من خبز ولحم، وعده من جملة البدع لكونه من أوصاف المترفهين، والسلف الصالح لم يكونوا يأكلون إلا عند الاضطرار، وإذا أكلوا لم يشبعوا، وفي القوت: وكان أبو محمد سهل يقول اجتمع الخير كله في هذه الأربع الخصال وبها صار الأبدال أبدالا: إخماص البطون والصمت واعتزال الخلق وسهر الليل، ثم قال: وفي الشبع قسوة القلب وظلمته وفي ذلك قوة صفات النفس وانتشار حظوظها وفي قوتها ونشطها ضعف الإيمان وخمود أنواره، وفي ضعف النفس وخمود طبعها قوة الإيمان واتساع أنوار اليقين، وفي ذلك قرب العبد من القريب ومجالسة الحبيب، وفي الشبع مفتاح الرغبة في الدنيا، وقال بعض الصحابة رضي الله عنهم: أول بدعة حدثت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الشبع إن القوم لما شبعت بطونهم جمعت بهم شهواتهم، وروي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجوعون من غير عوز أي مختارون لذلك، وقال ابن عمر: ما شبعت منذ قتل عثمان رضي الله تعالى عنه، وقال هذا في زمن الحجاج. .

التالي السابق


الخدمات العلمية