إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الثاني الرطوبات الخارجة من باطنه فكل ما ليس مستحيلا ولا له مقر فهو طاهر كالدمع والعرق واللعاب والمخاط وما له مقر وهو مستحيل فنجس .


(الثاني الرطوبات الخارجة من باطنه) أي الحيوان وهي أيضا قسمان أشار إلى القسم الأول بقوله (فكل ما ليس مستحيلا ولا له مقر) أي ليس له اجتماع واستحالة في الباطن، وإنما يرشح رشحا (فهو طاهر) إن كان من حيوان طاهر، فإن حكمه حكم الحيوان المترشح منه إن كان نجسا فنجس، وإن كان طاهرا فطاهر (كالدمع والعرق واللعاب والمخاط) أما الدمع فما يسيل من العين عند الغم أو السرور أو البرد، والعرق ما يتحلب من الجسد عند الحر أو العمل الشديد، واللعاب ما يسيل من فم الإنسان يقظة ونوما من غلبة الرطوبات البلغمية أو من حركة دود القرع، والمخاط ما يسيل من الأنف، وهو جامد فإن كان رقيقا فهو ذنين، واستدلوا على طهارة العرق بأنه صلى الله عليه وسلم ركب فرسا عريا لأبي طلحة فركضه ولم يتحرز عن العرق، قال الرافعي: والتعرض للترشح إنما وقع; لأن الغالب فيه الخروج على هيئة الترشح لا أنه من خواصه أو أن الطهارة منوطة به، ألا ترى أن الدم والصديد قد يترشحان من القروح والنفاطات وهما نجسان؟ وقوله في الوجيز: ليس له مقر يستحيل فيه لا يلزم من ظاهره أن لا يكون مستحيلا أصلا لجواز أن يكون مستحيلا لا في مقر، فإن كان الدمع وسائر ما يقع في هذا القسم لا يستحيل أصلا فالتعرض لنفي المقر ضرب من التأكيد والبيان، وإن كان يستحيل لا في مقر فالحكم منوط بنفي الاستحالة في المقر لا بمطلق نفي الاستحالة، ثم أشار المصنف إلى القسم الثاني بقوله: (وما له مقر وهو مستحيل) أي ما يستحيل ويجتمع في الباطن، ثم يخرج، قال الرافعي: والمعنى وما استحال في مقر في الباطن (فنجس) كالدم والبول والعذرة كذا في الوجيز، وهذه الأشياء نجسة من الآدمي ومن سائر الحيوانات المأكول منها وغير المأكول، أما في غير المأكول فبالإجماع، وأما في المأكول فبالقياس عليه; لأنها متغيرة مستحيلة، وذهب مالك وأحمد إلى طهارة بول ما يؤكل لحمه، وروثه، وبه قال أبو سعيد الإصطخري من أصحابنا، واختاره القاضي الروياني، وتمسكوا بأحاديث مشهورة في الباب مع تأويلها ومعارضتها، وهل يحكم بنجاسة هذه الفضلات من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيه وجهان، قال أبو جعفر الترمذي: لا لما روي أن أم أيمن شربت بوله فقال: إذا لا يلج النار بطنك، ولم ينكر عليها، ويروى شرب دمه عن علي وابن الزبير وأبي طيبة الحجام، وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي طيبة: لا تعد الدم كله حرام، قلت: وقال الولي العراقي في شرح بهجة الحاوي: إن شيخه السراج البلقيني نقل عن ابن القاص والبغوي الجزم بالطهارة، وعن القاضي حسين تصحيحها ونقله العمراني عن الخراسانيين، وقال شيخنا به الفتوى .

وقال معظم الأصحاب نعم قياسا على غيره وحملوا الأخبار على التداوي، ثم قال الرافعي، وفي خرء السمك والجراد وبولهما وجهان أظهرهما النجاسة قياسا على غيرهما لوجود الاستحالة والتغير، وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: وكذا ذرق الطيور إلا الدجاجة، والثاني الطهارة لجواز ابتلاع السمكة حية وميتة وإطباق الناس على أكل المملحة منها على ما في بطونها، وكذلك في خرء ما ليس له نفس سائلة وجهان أظهرهما النجاسة، والثاني لا; لأن الرطوبة المنفصلة منه كالرطوبة المنفصلة من النبات لمشابهة صورته بعد الموت صورته في الحياة; ولهذا لا يحكم بنجاسته بعد الموت على رأي هذا كله كلام الرافعي، وعبارة الوجيز كالدم والبول والعذرة إلا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بينه الرافعي كما سبق، ولكن في المطلب [ ص: 318 ] أنكر بعضهم على الغزالي حكاية الخلاف في عذرة النبي صلى الله عليه سلم، وإنما المعروف في بوله ودمه .

(تنبيه)

في شرح النقاية: بول الفرس وبول ما أكل منجس خفيف عند أبي حنيفة وأبي يوسف وعند محمد طاهر، وقال مالك وأحمد والإصطخري من الشافعية: بول ما أكل وروثه طاهر، فيجوز عندهم بول ما يؤكل للتداوي وغيره، وعند أبي يوسف للتداوي فقط، ولا يجوز عند أبي حنيفة مطلقا قال: ومن المنجس الخفيف خرء طير لا يؤكل عندهما خلافا لمحمد، وعلى هذا رواية أبي جعفر الهندواني، وهو الصحيح، وأما على رواية الكرخي وعند محمد مغلظا وعندهما طاهر، وفي الهداية تبعا لفخر الإسلام في الجامع الصغير أن أبا يوسف مع أبي حنيفة في الروايتين، وفي المنظومة والمختلف أن أبا يوسف مع أبي حنيفة على رواية الكرخي ومع محمد على رواية الهندواني، وأما خرء الطير الذي يؤكل فطاهر; لأن في التوقي عنه حرجا إلا الدجاج والبط الأصلي فإنه غليظ; لأن التوقي عنه لا حرج فيه كباقي ما خرج من المخرجين، وهو خرء الفرس وخرء ما يؤكل وبول ما لا يؤكل وخرؤه وبول الآدمي وخرؤه، وفي المحيط وبول الخفاش وخرؤه ليس بشيء لتعذر الاحتراز منه، وفي روضة الناطفي: دم قلب الشاة والكبد والطحال طاهر، وفي القنية: دم قلب الشاة نجس، وفي الفتاوى الكبرى للخاصي: الدم الذي يخرج من الكبد إن لم يكن من غيره بل كان تمكن فيه فهو طاهر. قال الشمني: وهو قيد حسن ينبغي أن يقيد بمثله دم القلب على القول بطهارته، وفي القنية: مرارة الشاة كالدم يعني مغلظة وقيل: كبولها يعني مخففة عندهما طاهرة عند محمد وفيها، وعن أبي يوسف يعفى عن الدم الباقي في العروق واللحم في الأكل دون الثياب، ووجه ذلك أنه تعم به البلوى في الأكل دون الثياب .

وعبارة شرح المختار: وكل ما يخرج من بدن الإنسان وهو موجب للتطهير فنجاسته غليظة كالغائط والبول والدم والصديد والقيء ولا خلاف فيه، وكذلك الروث والأخثاء يعني غليظة عند أبي حنيفة وعندهما خفيفة، والروث يستعمل في الفرس والحمار والبغل، والخثي يستعمل في البقر والإبل والغنم، قلت: قال في الكافي: الروث يكون لكل ذي حافر، لكن الفقهاء استعملوه في سائر البهائم استعارة: ودم السمك ليس بدم حقيقة; لأنه يبيض من الشمس، ولو كان دما لاسود كسائر الدماء، وعن أبي يوسف أنه نجس وحملوه على الخفيف، وهذه فوائد التقطتها من فتاوى قاضيخان. قال: العذرة ونجو الكلب ورجيع السباع نجس نجاسة غليظة، وخرء ما يؤكل لحمه من الطيور طاهر إلا ما له رائحة كريهة كخرء الدجاج والبط والإوز فهو نجس نجاسة غليظة، وذرق سباع الطير كالبازي والحدأة لا يفسد الثوب، واختلفوا في بول الهرة والفأرة قال بعضهم: يفسد الثوب إذا زاد على قدر الدرهم، وهو الظاهر وقيل: لا أصلا، وقيل: إذا فحش، ويظهر أثر الضرورة في التخفيف لا في سلب النجاسة، وخرء السمك وما يعيش في الماء لا يفسد الثوب في قول أبي حنيفة ومحمد، وعند أبي يوسف يفسد إذا فحش، ودم الحلمة والوزغ يفسد الثوب والماء، والطحال والكبد طاهران قبل الغسل وما يبقى من الدم في عروق المذكاة بعد الذبح لا يفسد الثوب وإن فحش عند أبي حنيفة ومحمد وعند أبي يوسف يفسد الثوب إذا فحش ولا يفسد القدر، والكلب إذا أخذ عضو إنسان أو ثوبه بفيه إن أخذه في الغضب لا يفسده، وإن في المزاح واللعب يفسده; لأن في الوجه الأول يأخذ بسنه وسنه ليس بنجس، وفي الوجه الثاني بفيه ولعابه نجس، ولعاب الفيل نجس كلعاب الفهد والأسد إذا أصاب بخرطومه الثوب نجسه .

وفي الخلاصة بول الصبي والصبية نجس لا يطهر إلا بالغسل، وعند الشافعي رحمه الله تعالى يجزئ الرش في بول الصبي الذي لم يطعم، وبول الجارية لا يطهر إلا بالغسل اتفاقا كذا في التاترخانية، قلت: ووافق الشافعي أحمد، واستدل بورود النضح في بول الصبي دون الصبية، وأجاب الطحاوي بأن النضح الوارد في بول الصبي المراد به الصب، كما روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بصبي بال عليه فقال: صبوا عليه الماء صبا. قال: فعلم منه أن حكم بول الغلام الغسل إلا أنه يجزئ فيه الصب، وحكم بول الجارية أيضا الغسل إلا أنه [ ص: 319 ] لا يكفي فيه الصب; لأن بول الغلام يكون في موضع واحد لضيق مخرجه، وبول الجارية يتفرق في مواضع لسعة مخرجه .

التالي السابق


الخدمات العلمية