إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وأما المذموم فعلم السحر والطلسمات وعلم الشعبذة والتلبيسات .

وأما المباح منه فالعلم بالأشعار التي لا سخف فيها وتواريخ الأخبار وما يجري مجراه .

أما العلوم الشرعية وهي المقصودة بالبيان فهي محمودة كلها ، ولكن قد يلتبس بها ما يظن أنها شرعية وتكون ، مذمومة فتنقسم إلى المحمودة والمذمومة .

أما ، المحمودة فلها أصول وفروع ومقدمات ومتممات وهي ، أربعة أضرب :

الضرب الأول : الأصول وهي أربعة : كتاب الله عز وجل ، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإجماع الأمة ، وآثار الصحابة والإجماع أصل من حيث إنه يدل على السنة ، فهو أصل في الدرجة الثالثة .

وكذا الأثر فإنه أيضا يدل على السنة ؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم قد شاهدوا الوحي والتنزيل وأدركوا بقرائن الأحوال ما غاب عن غيرهم عيانه وربما لا تحيط العبارات بما أدرك بالقرائن .

فمن هذا الوجه رأى العلماء الاقتداء بهم ، والتمسك بآثارهم ، وذلك بشرط مخصوص على ، وجه مخصوص عند من يراه ولا يليق بيانه بهذا الفن .

الضرب الثاني : الفروع ، وهو ما فهم من هذه الأصول لا بموجب ألفاظها بل بمعان تنبه لها العقول فاتسع بسببها الفهم حتى فهم من اللفظ الملفوظ به غيره ، كما فهم من قوله عليه السلام : " لا يقضي القاضي وهو غضبان أنه يقضي إذا كان خائفا أو جائعا أو متألما " ، بمرض .


(وأما المذموم منه فعلم السحر) وهو العمل بما يقرب فيه إلى الشيطان وبمعونة منه، وأصله صرف الشيء عن حقيقته إلى غيره، فكأن الساحر لما رأى الباطل في صورة الحق، وخيل الشيء على غير حقيقته، فقد سحر الشيء عن وجهه، أي: صرفه .

وقال الفخر الرازي في الملخص: السحر والعين لا يكونان من فاضل، ولا يقعان ولا يصحان منه أبدا؛ لأن من شرط السحر الجزم بصدور التأثير، وكذلك أكثر الأعمال من الممكنات من شرطها الجزم، والفاضل المتبحر بالعلوم يرى وقوع ذلك من الممكنات التي يجوز أن توجد وأن لا توجد، فلا يصح له عمل أصلا .

وأما العين فإنه لا بد فيها من فرط التعظيم للمرئي، والنفس الفاضلة لا تصل في تعظيم ما تراه إلى هذه الغاية؛ فلذلك لا يصح السحر إلا من العجائز والتركمان والسودان، ونحو ذلك من النفوس الجاهلة. انتهى. نقله شيخ مشايخنا مصطفى بن فتح الله الحمدي في تاريخه .

(والطلسمات) جمع طلسم، بكسر الطاء وفتح اللام المخففة وسكون السين، وقد تشدد اللام، وهو علم استنزال قوى الأرواح العلوية، وأجل كتاب ألف فيه "السر المكتوم" وهو للفخر الرازي، ونهاية الحكيم للمجريطي وابن سينا، ويجمع أيضا على الطلاسم .

(وعلم الشعبذة) هو بالدال المهملة والمعجمة: خفة في اليد، ومخاريق، وأخذ كالسحر، يرى الشيء بغير ما عليه أصله في رأي العين، وقال بعضهم: هو تصوير الحق في صورة الباطل، ويقال فيه: الشعوذة أيضا، وأنكر الثعالبي في مختصر عمار القلوب قولهم: مشعبذ، وقال: إنما هو مشعوذ بالواو، وأثبته الزمخشري وغيره .

(والتلبيسات) وهي شبه ما تقدم، فكل ما ذكر من ذلك فهو مذموم شرعا، لا يباح الاشتغال به .

(وأما المباح منه فالعلم بالأشعار) جاهلية وإسلاما (التي لا سخف فيها) أي: هزل، ولا سخرية فيها، ولا المبالغة التي تدخل في حد الكذب، ولا هجر ولا غيبة ولا طعن في الإنسان، وما أشبه ذلك، فحسنها حسن وقبيحها قبيح .

(و) علم (تواريخ الأخبار) جاهلية وإسلاما (وما يجري مجراه) مما لا ضرر في معرفته (وأما العلوم الشرعية وهي المقصودة بالبيان فهي المحمودة كلها، ولكن قد يلتبس بها ما يظن في بادئ الرأي أنها شرعية، و) الحال (هي مذمومة) باعتبار ما يترتب عليها ومنها .

(فتنقسم) بهذا الاعتبار (إلى المحمودة والمذمومة، وأما المحمودة) منها (فلها أصول وفروع ومقدمات ومتممات، فهي أربعة أضرب: الضرب الأول: الأصول) جمع أصل، وهو في اللغة ما يبنى عليه غيره ابتناء حسيا، بمعنى أن يكون المبتنى عليه وغيره ابتناء حسيا، لا بمعنى أن نفس الابتناء حسي; لأن ابتناء الشيء على غيره إضافة بينهما، وهو أمر عقلي، كذا حققه السيد في شرح التنقيح .

(وهي أربعة: كتاب الله، وسنة رسوله، وإجماع الأمة، وآثار الصحابة) والكتاب لغة اسم للمكتوب، غلب في عرف الشرع على كتاب الله المثبت في المصاحف، كما غلب في عرف العربية على كتاب سيبويه، والقرآن تفسير له لا تعريف كما في التلويح، والمراد بسنة رسوله قوله وفعله، وهما أصلان أصيلان في الدرجة الأولى .

والمراد بالإجماع: [ ص: 147 ] إجماع الأمة بعد وفاة نبيها في عصر على أي شيء كان .

(والإجماع أصل من حيث إنه يدل على السنة، فهو أصل في الدرجة الثانية) وهو على ثلاثة أقسام: قطعي: فلا يجوز خرقه. وظني، وهو على قسمين: استدلالي وهو السكوتي، أن يقول بعض المجتهدين حكما ويسكت الباقون عليه بعد العلم به، ومنقول على لسان الآحاد، فيجوز خرقهما، ونعني بالإجماع الاتفاق، وهو الاشتراك إما في القول أو الفعل أو الاعتقاد، وفي باب الإجماع مسائل ينبغي معرفتها إذا اختلف العصر الأول على قولين لا يجوز بعدهم إحداث قول ثالث إن وقع مجمعا عليه، وإلا فيجوز، وإذا اجتمعت الأمة على عدم الفصل بين مسألتين لا يجوز لمن بعدهم الفصل بينهما إن ارتضوا بعدم الفرق واتحاد الجامع، وإلا فيجوز .

ويجوز حصول الاتفاق بعد الاختلاف في العصر الواحد، وفي اتفاقهم في العصر الثاني قولان، وانقراض العصر ليس شرطا خلافا لقوم، وإذا حكم بعض الأئمة وسكت الباقون فليس بإجماع ولا حجة، وهو نص الشافعي في الجديد، اللهم إلا إذا تكرر في وقائع كثيرة، فإنه يكون إجماعا وحجة، وإذا اتفق أهل العصر الثاني على أحد قولي العصر الأول انعقد إجماعا، والإجماع المروي بالآحاد حجة خلافا للأكثر، وإذا استدل أهل العصر بدليل آخر فلا يجوز إبطال الأول .

وأما الثاني: فإن لزم منه إبطال الأول بطل، وإلا فلا، وتعتبر مخالفة الواحد في إبطال الإجماع، ويجوز أن ينعقد الإجماع عن القياس والدلالة والإمارة، وجوزه قوم بغير دليل، بل بمجرد الشبه والبحث، ولا تعتبر فيه جملة الأمة إلى يوم القيامة، والاعتبار في كل فن بأهله، فيعتبر في الكلام المتكلمون، وفي الفقه الفقهاء، ولا عبرة بالفقيه الحافظ للأحكام والمذاهب إذا لم يكن مجتهدا. والله أعلم. ذكره إسماعيل بن علي بن حسن الشافعي في الليث العابس .

(وكذلك الأثر) عن الصحابة (فإنه يدل) هو (أيضا على السنة؛ لأن الصحابة) رضوان الله عليهم (قد شاهدوا الوحي والتنزيل) أي: نزولهما (وأدركوا بقرائن الأحوال) ونظائرها (ما غاب عن غيرهم عيانة) أي: معاينة (وربما لا تحيط العبارات بما أدرك بالقرائن فمن هذا الوجه رأى العلماء الاقتداء بهم، والتمسك بآثارهم، وذلك بشرط مخصوص، وعلى وجه مخصوص عند من رآه) واعتقده .

وقد استدل اللالكائي في كتاب السنة على صحة مذاهب أهل السنة بما ورد في كتاب الله تعالى، وبما روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: فإن وجدت فيهما جميعا ذكرتهما جميعا، وإن وجدت في أحدهما دون الآخر ذكرته، وإن لم أجد إلا عن الصحابة الذين أمر الله ورسوله أن يقتدى بهم ويهتدى بأقوالهم ويستضاء بأنوارهم لمشاهدتهم الوحي والتنزيل، ومعرفتهم معاني التأويل احتججت بها، فإن لم يكن فيها أثر عن صحابي ففي التابعين لهم بإحسان، الذين في قولهم الشفاء والهدى، والتدين بقولهم القربة إلى الله والزلفى، فإذا رأيناهم قد أجمعوا على شيء عولنا عليه. اهـ .

فهؤلاء الأربعة، وهي التي جعلها أصولا، ولم يذكر القياس؛ فإنه من وظيفة الأصوليين، وهو فرع للثلاثة؛ إذ العلة فيه مستنبطة من مواردها، فيكون الحكم بالقياس ثابتا بتلك الأدلة الثلاثة .

قال السيد في شرح التنقيح: وأمر القياس في إظهار الحكم وتغيير وضعه من الخصوص إلى العموم، فالقياس أصل بالنسبة إلى الحكم، فرع بالنسبة إلى الثلاثة، بخلاف الثلاثة فإنها أصول مطلقة؛ لأن كل واحد مثبت للحكم .

فإن قلت: يلزم من ذلك أن لا يكون الإجماع أصلا مطلقا لأنه مفتقر إلى السنة .

الجواب: إن الإجماع إنما يحتاج إلى السنة في تحققه، وفي دلالته على الحكم، فإن المستدل به لا يحتاج إلى ملاحظة السنة بخلاف المستدل بالقياس فإنه لا يمكن له الاستدلال به بدون ملاحظة واحد من الأصول الثلاثة منها، والعلة المستنبطة منها. اهـ .

(ولا يليق بيانه بهذا الفن) لأن اللائق به فن أصول الفقه .

(الضرب الثاني: الفروع، وهو ما فهم من هذه الأصول) المذكورة واستنبط منها (لا بموجب ألفاظها) وتراكيبها (بل بمعان تنبه لها) أي: لإدراكها (العقول) المضيئة الراجحة (متسع بسببها الفهم) بالغوص عن أسرارها (حتى فهم من اللفظ الملفوظ به غيره، كما فهم من قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقضي القاضي وهو غضبان" أنه لا يقضي وهو حاقن) أي: حابس بول [ ص: 148 ] أو غائط (أو جائع، أو متألم بمرض) والكلام عليه من ثلاثة أوجه .

الأول: قال العراقي: رواه الستة من حديث عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، وهذا لفظ النسائي وابن ماجه، وزاد "بين اثنين" وقال البخاري: "لا يقضين حكم" وقال مسلم: "لا يحكم أحد" وقال أبو داود: "لا يقضي الحكم" وقال الترمذي: "لا يحكم الحاكم" وقال: فهذا حديث حسن صحيح. اهـ .

قلت: وبمثل سياق ابن ماجه رواه الإمام أحمد أيضا، وكذا أبو داود، وبمثل سياق مسلم رواه الترمذي والنسائي أيضا، وبمثل سياق البخاري رواه أيضا الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه.

وأخرج ابن ماجه وضعفه، والدارقطني في سننه، والخطيب، وسمويه في فوائده، عن أبي سعيد رفعه: "لا يقضي القاضي بين اثنين إلا وهو شبعان ريان".

وأخرج النسائي والطبراني في الكبير عن أبي بكرة: "لا يقضين أحد في قضاء بقضاءين، ولا يقضي أحد بين خصمين وهو غضبان".

الوجه الثاني: القضاء يطلق على معان، الأنسب هنا معنى الحكم الشرعي، والغضبان من قام به الغضب، وهو في الأصل ثوران دم القلب إرادة الانتقام، ومنه الحديث: "اتقوا الغضب؛ فإنه جمرة توقد في قلب ابن آدم، ألم تروا إلى انتفاخ أوداجه، وحمرة عينيه" وقيل: الغضبان كالغضوب من صيغ المبالغة، والحاقن من حقن بوله، أي: حصره وأمسكه وجمعه، وقال ابن فارس: يقال لما جمع من لين وشد حقين؛ ولذلك سمي حابس البول حاقنا. اهـ. ومنه: لا رأي لحاقن ولا حاذق .

الوجه الثالث: ذكر صدر الشريعة من علمائنا في تنقيح الأصول في المسائل من كتاب الإجماع ما نصه: وشرط بعضهم قيام النص في الحالين، وأنه لا حكم له، نظيره أن المرء إذا قام إلى الصلاة وهو متوضئ لا يجب الوضوء، وإذا قعد وهو محدث يجب، فعلم أن الوجوب دائر مع الحدث .

وقوله عليه السلام: "لا يقضي القاضي وهو غضبان" فإنه يحل له القضاء وهو غضبان عند فراغ القلب، ولا يحل له عند شغله بغير الغضب .

قال السيد في شرحه على قوله في الحالين، أي في حال وجود الوصف، وفي حال عدمه، قال: والحال أنه لا حكم، أي: للنص، وقال عند قوله: "عند فراغ القلب": فالنص قائم في حالة عدم الغضب بدون شغل القلب مع عدم حكمه الذي هو حرمة القضاء، وقال عند قوله: "بغير الغضب": نحو جوع أو عطش، مع عدم حكمه الذي هو إباحة القضاء عند عدم الغضب، إما بطريق مفهوم المخالفة أو بالإباحة الأصلية أو النصوص المطلقة. اهـ .

وزاد السعد في التلويح بعد هذا: ويجعل من حكم النص المذكور مجازا. اهـ .

التالي السابق


الخدمات العلمية