إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ثم يغسل يديه ثلاثا قبل أن يدخلهما الإناء ويقول : اللهم إني أسألك اليمن والبركة وأعوذ بك من الشؤم والهلكة ثم ينوي رفع الحدث أو استباحة الصلاة .


قال المصنف: (ثم يغسل يديه) إلى كوعيه (قبل إدخالهما الإناء) كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك في وضوئه قال الرافعي: ولا فرق في استحبابه بين القائم من النوم وغيره ولا بين أن يتردد في طهارة يديه أو يتيقنها ولا بين من يدخل يديه في الإناء في توضئه وبين من لا يفعل ذلك، ولفظ الكتاب لا يقتضي إلا الاستحباب في حق من يدخل يديه في الإناء، ثم من يدخل يديه في الإناء ولم يتيقن طهارة يديه بأن قام من النوم واحتمل تنجس يديه في طوفهما وهو نائم يختص بشيء، وهو أنه يكره له ذلك قبل الغسل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يديه في الإناء حتى يغسلهما ثلاثا، فإنه لا يدري أين باتت يده، وكذا لو كان مستيقظا ولم يستيقن طهارة اليدين، وإن تيقن طهارة يديه فهل يكره له الغمس قبل الغسل؟ فيه وجهان أظهرهما لا، بل يتخير بين تقديم الغمس وتأخيره; لأن سبب المنع ثم الاحتياط، لكنها لاحتمال نجاسة اليد، وهذا مفقود ههنا، والثاني يكره; لأن المتيقن والمتردد يستويان في أصل استحباب الغسل، وكذلك استحباب تقديم الغسل على الغمس، وقال النووي على قول الرافعي: أظهرهما لا، قلت: ولا تزول الكراهة إلا بغسلها ثلاثا قبل الغمس نص عليه في البويطي وصرح به الأصحاب للحديث الصحيح قال أصحابنا: إذا كان الماء في إناء كبير أو صخرة مجوفة بحيث لا يمكن أن يصب منه على يده وليس معه ما يغترف به استعان بغيره أو أخذ الماء بفمه أو طرف ثوب نظيف ونحوه، والله أعلم .

وقال الرافعي: أما قوله: ثلاثا، فليس ذلك من خاصية هذه السنة، بل التثليث مستحب في جميع أفعال الوضوء، كما سيأتي (ويقول: اللهم إني أسألك اليمن والبركة وأعوذ بك من الشؤم والهلكة) هكذا هو في القوت والعوارف ولم أجد له أصلا في أثر (ثم ينوي رفع الحدث أو استباحة الصلاة) قال الرافعي: الوضوء نوعان: وضوء رفاهية ووضوء ضرورة، أما وضوء الرفاهية فعلى صاحبها أن ينوي أحد أمور ثلاثة: أولها رفع الحدث أو الطهارة من الحدث، فإن أطلق كفاه; لأن المقصود من الوضوء رفع مانع الصلاة ونحوها، فإذا نواه فقد تعرض لما هو المطلوب بالفعل، وقد حكي وجه أنه إن كان يمسح على الخف لم يجزئ نية رفع الحدث، بل ينوي استباحة الصلاة كالمتيمم ولو نوى رفع بعض الأحداث دون بعض بأن كان قد نام وبال وفسا فنوى رفع حدث منها فيه وجوه، أصحها أنه يصح وضوءه; لأنه نوى رفع البعض فوجب أن يرتفع، والحدث لا يتجزأ، فإذا ارتفع البعض ارتفع الكل، والثاني لا يصح; لأنه ما لم ينو رفعه يبقى، والأحداث لا تتجزأ، فإذا بقي البعض بقي الكل، ويكاد هذان الكلامان يتقاومان، لكن من نصر الأول قال نفس النوم والبول لا يرفع، وإنما يرفع حكمهما، وهو شيء واحد تعددت أسبابه والتعرض لها ليس بشرط، فإذا تعرض لها مضافا إلى سبب واحد كفت الإضافة إلى السبب وارتفع والثالث إن لم ينف رفع ما عداه صح وضوءه، وإن نفاه فلا; لأن نيته حينئذ تتضمن رفع الحدث وإبقاءه فصار كما لو قال: أرفع الحدث لا أرفعه، والرابع إن نوى رفع الحدث الأول صح وضوءه، وإن نوى غيره فلا; لأن الأول هو الذي أثر في المنع ونقض الطهارة، والخامس إن نوى رفع الحدث الآخر صح، وإن نوى غيره فلا; لأن الآخر أقرب، وذكر بعضهم الخلاف فيما إذا نواه ونفى غيره، فإن لم ينف صح بلا خلاف، وهذا إذا كان الحدث الذي خصه [ ص: 354 ] بالرفع واقعا له، فإن لم يكن، كما إذا نوى رفع حدث النوم ولم ينم، وإنما بال نظر إن كان غالطا صح وضوءه; لأن التعرض لها ليس بشرط فلا يضر الغلط فيها، وإن كان عامدا لم يصح في أحد الوجهين; لأنه متلاعب بطهارته، الثاني استباحة الصلاة وغيرها مما لا يباح إلا بالطهارة كالطواف وسجدة التلاوة والشكر ومس المصحف، فإذا نواها وأطلق أجزأه; لأن رفع الحدث إنما يطلب لهذه الأشياء إذا نواها فقد نوى غاية المقصد، وروي وجه أنه لا يصح الوضوء بنية الاستباحة; لأن الصلاة ونحوها قد تستباح مع بقاء الحدث بدليل التيمم، وإن نوى استباحة صلاة معينة، فإن لم يتعرض لما عداها بالنفي ولا بالإثبات صح أيضا، وإن نفى غيرها فثلاثة أوجه أصحها الصحة; لأن المنوي ينبغي أن تباح ولا تباح إلا إذا ارتفع الحدث، والحدث لا يتبعض، والثاني المنع; لأن نيته تضمنت رفع الحدث وإبقاءه، كما سبق، والثالث يباح له المنوي دون غيره، وإذا نوى ما يستحب له الوضوء كقراءة القرآن للمحدث وسماع الحديث وروايته والقعود في المسجد وغيرها فوجهان أظهرهما أنه لا يصح وضوءه; لأن هذه الأفعال مباحة مع الحدث فلا يتضمن قصدها قصد رفع الحدث، والثاني يصح; لأنه قصد أن يكون ذلك الفعل على أكمل أحواله، ولن يكون كذلك إلا إذا ارتفع الحدث، كما ذكرنا من الأمثلة وفيما إذا كان الاستحباب لا باعتبار الحدث كتجديد الوضوء، فإن الغرض منه زيادة النظافة، لكن المنع في القسم الثاني أظهر منه في الأول، ولذلك قطع بعضهم بنفي الصحة فيه ولو شك في الحدث بعد تيقن الطهارة فتوضأ احتياطا، ثم تبين أنه كان محدثا فهل يعتد بهذا الوضوء فيه هذان الوجهان; لأن الوضوء والحالة هذه محبوب للاحتياط لا للحدث، الثالث أداء فرض الوضوء، وهذا لأن النية معتبرة في الوضوء لجهة كونه قربة، فأشبه سائر القربات; ولهذا ذكروا وجهين في اشتراط الإضافة إلى الله تعالى، كما في الصوم والصلاة وسائر العبادات، والأولى أن لا يجعل اعتبار النية في الوضوء على سبيل القربات، بل يعتبر بها للتمييز ولو كان الاعتبار على توجه القربة لما جاز الاقتصار على أداء الوضوء وحذف الفرضية; لأن الصحيح أنه لا يشترط التعرض للفرضية في الصلاة، وقد نصوا على أنه لو نوى أداء الوضوء كفاه، بل يلزم أن يجب التعرض للفرضية، وإن نوى رفع الحدث أو الاستباحة، فإن قيل إذا لم يدخل وقت الصلاة فليس عليه وضوء ولا صلاة فكيف ينوي فرض الوضوء، والجواب أن الشيخ أبا علي ذكر أن الموجب للطهارة هو الحدث، وقد وجب إلا أن وقتها لا ينطبق عليه ما لم يدخل وقت الصلاة فلذلك صح الوضوء بنية الفرضية قبل دخول الوقت، وصار بعض الأصحاب إلى أن الموجب هو دخول الوقت أو أحدهما بشرط دخول الآخر، ثم إذا نوى بوضوئه أحد الأمور الثلاثة وقصد معه شيئا آخر كالتبرد مثلا ففيه وجهان أحدهما ويحكى عن ابن سريج أنه لا يصح لأن الاشتراك في النية بين القربة وغيرها مما يخل بالإخلاص، وأصحهما أنه يصح، وأما النوع الثاني وضوء الضرورة، وهو وضوء من به حدث دائم كالمستحاضة وسلس البول ونحوهما فلو اقتصرا على نية رفع الحدث ففيه وجهان أصحهما أنه لا يجوز; لأن حدثهما لا يرتفع بالوضوء، والثاني يصح; لأن رفع الحدث يتضمن استباحة الصلاة فقصد رفع الحدث يؤثر بتضمنه، وإن لم يؤثر بخصوصه، ولو اقتصر على نية الاستباحة فوجهان أحدهما يصح، والثاني لا، ويحكى ذلك عن أبي بكر الفارسي والحصري.

التالي السابق


الخدمات العلمية