إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ويجتهد أن يستديم ذلك إلى آخر التكبير حتى لا يعزب فإذا حضر في قلبه ذلك ، فليرفع يديه إلى حذو منكبيه بعد إرسالهما بحيث يحاذي بكفيه منكبيه وبإبهاميه شحمتي أذنيه ، وبرؤوس أذنيه ، ليكون جامعا بين الأخبار الواردة فيه ويكون مقبلا بكفيه وإبهاميه إلى القبلة .


ثم قال المصنف: (ويجتهد) بقدر وسعه (أن يستديم ذلك) أي: الاستحضار المذكور، (إلى آخر التكبير حتى لا يعزب) أي: لا يغيب عنه. وقال العراقي في "شرح البهجة": يجب مقارنة النية لكل التكبير، بأن يأتي بها عند أوله ويستمر ذاكرا لها إلى آخره، كذا صحح الرافعي هنا وصحح في الطلاق الاكتفاء بأوله، واختار في "شرح المهذب" تبعا للإمام وللغزالي [ ص: 36 ] الاكتفاء بالمقارنة العرفية عند العوام بحيث يعد مستحضرا للصلاة، (فإذا حضر في قلبه ذلك، فليرفع يديه إلى حذو منكبيه) ، أي: قبالهما، (بحيث يحاذي) أي: يقابل، (بكفيه منكبيه و) يحاذي (بإبهاميه شحمة أذنيه، وبرؤوس أصابعه رؤوس أذنيه، ليكون جامعا بين الأخبار الواردة فيه) وعبارة "القوت": وصورة الرفع أن يكون كفاه مع منكبيه، وإبهامه عند شحمة أذنيه، وأطراف أصابعه مع فروع أذنيه، فيكون بهذا الوصف مواطئا للأخبار الثلاثة المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يرفع يديه إلى منكبيه، وأنه كان يرفعهما إلى شحمة أذنيه، وأنه رفع يديه إلى فروع أذنيه، يعني أعاليهما اهـ .

وقال الرافعي في "شرح الوجيز": وحكي في بعض نسخ الكتاب في قدر الرفع ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنه يرفع يديه إلى حذو منكبيه، والثاني: أن يرفعهما إلى أن يحاذي رؤوس أصابعه أذنيه، والثالث: أن يحاذي رؤوس أصابعه أذنيه وإبهاماه شحمة أذنيه وكفاه منكبيه، وليس في بعض النسخ إلا ذكر القول الأول والثاني، وأغرب فيما نقله بشيئين، أحدهما: أن المراد من القول الأول، وهو الرفع إلى حذو المنكبين أن لا يجاوز أصابعه منكبيه، هكذا قد صرح به إمام الحرمين، وقوله في حكاية القول الثاني "إلى أن يحاذي رؤوس أصابعه أذنيه" كأنه يريد شحمة أذنيه وأسافلهما، وإلا فلو حاذت رؤوس أصابعه أعلى الأذنين حصلت الهيئة المذكورة في القول الثالث، وارتفع الفرق. والثاني: أنه كالمنفرد بنقل الأقوال الثلاثة في المسألة، وبنقل القولين الأولين؛ لأن معظم الأصحاب لم يذكروا فيه اختلاف قول، بل اقتصر بعضهم على ما ذكره في "المختصر" أنه يرفع يديه إذا كبر حذو منكبيه، واقتصر الآخرون على الكيفية المذكورة في القول الثالث، وبعضهم جعلها تفسيرا لكلامه في "المختصر" .

وللشافعي فيها حكاية مشهورة مع أبي ثور والكرابيسي حين قدم بغداد، ولم أر حكاية الخلاف في المسألة إلا للقاضي ابن كج، وإمام الحرمين؛ لكنهما لم يذكرا إلا القول الأول والثالث، وكلامه في "الوسيط" لا يصرح بهما، وكيفما كان فظاهر المذهب الكيفية المذكورة في القول الثالث .

وأما أبو حنيفة فالذي رواه الطحاوي والكرخي أنه يرفع يديه حذو أذنيه، وقال أبو جعفر القدوري: يرفع بحيث يحاذي إبهاماه شحمة أذنيه، وهذا مخالف للقول الأول، وذكر بعض أصحابنا -منهم صاحب "التهذيب"- أن مذهبه رفع اليدين بحيث يحاذي الكفان الأذنين، وهذا يخالف القول الثاني اهـ .

وقول المصنف "ليكون جامعا بين الأخبار الواردة فيه" يشير إلى حديث ابن عمر ووائل بن حجر وأنس بن مالك رضي الله عنهم، هكذا على الترتيب في الأقوال الثلاثة، فحديث ابن عمر متفق عليه بلفظ: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة، وإذا كبر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك فقال: سمع الله لمن حمده". زاد البيهقي : فما زالت تلك صلاته حتى لقي الله .

وفي رواية للبخاري: "ولا يفعل ذلك حين يسجد ولا حين يرفع رأسه من السجدة". قال ابن المديني في حديث الزهري عن سالم عن أبيه: هذا الحديث عندي حجة على الخلق، كل من سمعه فعليه أن يعمل به؛ لأنه ليس في الإسناد شيء .

وأما حديث وائل بن حجر : أنه صلى الله عليه وسلم لما كبر رفع يديه حذو منكبيه، رواه الشافعي وأحمد من رواية عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل به. ورواه أبو داود والنسائي وابن حبان من حديث وائل أيضا، ولفظه: "أنه صلى الله عليه وسلم رفع يديه إلى شحمة أذنيه". وللنسائي : "حتى كاد إبهاماه يحاذيان شحمة أذنيه"، وفي رواية لأبي داود : "وحاذى إبهاماه شحمة أذنيه" .

وأما حديث أنس فلفظه: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر، فحاذى بإبهاميه أذنيه ثم ركع حتى استقر كل مفصل منه". رواه الحاكم في "المستدرك"، والدارقطني من طريق عاصم الأحول عنه، ومن طريق حميد عن أنس : "كان إذا افتتح الصلاة كبر ثم يرفع يديه حتى يحاذي بإبهاميه أذنيه". ثم قال المصنف: (ويكون مقبلا بكفيه إلى القبلة) ، قال النووي في "الروضة": يستحب أن يكون كفه إلى القبلة عند الرفع، قاله في التتمة، ويستحب لكل مصل قائم أو قاعد [ ص: 37 ] مفترض أو متنفل، إمام أو مأموم، اهـ .

التالي السابق


الخدمات العلمية