إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ثم يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله .


(ثم يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله) ، هكذا في أكثر النسخ، وفي بعضها: "صلى الله عليه وعلى آله وسلم"؛ قال الرافعي : ويجب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الواجب خلافا لأبي حنيفة ومالك، وهل يجب الصلاة على الآل؟ فيه قولان، وبعضهم يقول وجهان؛ أحدهما يجب، وأصحهما لا، وإنما هي سنة تابعة للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وهل يسن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم في التشهد الأول؟ فيه قولان، أحدهما -وبه قال أبو حنيفة وأحمد - لا؛ لأنها مبنية على التخفيف، وأصحهما -ويروى عن مالك - أنها تسن، لأنها ذكر يجب في الركعة الأخيرة، فيسن في الأولى [ ص: 78 ] كالتشهد .

وأما الصلاة فيه على الآل، فتنبني على إيجابها في التشهد الأخير إن أوجبناها، ففي استحبابها في التشهد الأول الخلاف المذكور على النبي صلى الله عليه وسلم، وإن لم نوجبها -وهو الأصح- فلا نستحبها على الآل، وإذا قلنا: لا تسن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فصلى عليه كان ناقلا للركن إلى غيره، وفي بطلان الصلاة به كلام يأتي في باب سجود السهو إن شاء الله تعالى، وكذا إذا قلنا لا يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت، وهكذا الحكم إذا أوجبنا الصلاة على الآل في التشهد الأخير ولم نستحبها في الأول، فأتى بها، وآل النبي صلى الله عليه وسلم بنو هاشم وبنو المطلب، نص عليه الشافعي، وفيه وجه أنه كل مسلم اهـ .

قلت: وهذا القول الأخير نقله الأزهري في "التهذيب"، ومن الغريب ما نقله الفخر الرازي في "مناقب الشافعي ": إنما أوجب الشافعي الصلاة على الآل لكونه منهم، فإنه شريف. وقد رد عليه ابن يونس فقال: وما كان ينبغي أن ينسبه إلى هذا، وإنما قاله بالدليل، ثم أطال فيه في "شرح البسيط" فراجعه، ثم قال الرافعي : أقل صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: اللهم صل على محمد، ولو قال: وصلى الله على رسوله، جاز، وفي وجه يجوز أن يقتصر على قوله: صلى الله عليه وسلم، والكناية ترجع إلى ذكر محمد صلى الله عليه وسلم في كلمة الشهادة، وهذا نظر إلى المعنى، وأقل الصلاة على الآل أن يقول: وآله، ولفظ "الوجيز" يشعر بأنه يجب أن يقول: وعلى آل محمد؛ لأنه ذكر ذلك ثم حكم بأن ما بعده مسنون، والأول هو الذي ذكره صاحب "التهذيب" وغيره، والأولى أن يقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد. روي ذلك عن كعب بن عجرة.

قلت: رواه النسائي والحاكم بهذا السياق، وأصله في الصحيحين، ثم قال الرافعي : قال الصيدلاني: ومن الناس من يزيد: وارحم محمدا وآل محمد، كما رحمت على إبراهيم، وربما يقولون: كما ترحمت على إبراهيم. قال: وهذا لم يرد في الخبر، وهو غير صحيح، فإنه لا يقال: رحمت عليه، وإنما يقال: رحمته .

وأما الترحم ففيه معنى التكلف والتصنع، فلا يحسن إطلاقه في حق الله تعالى .

قلت: وقد بالغ أبو بكر بن العربي في إنكاره، وخطأ ابن أبي زيد المالكي فيه .

(فصل)

قد أورد الوزير ابن هبيرة في كتابه "الإفصاح عن معاني الصحاح" فيما يتعلق بالتشهد من اتفاق الأئمة واختلافهم جملا مفيدة نافعة، فأحببت إيراد عبارته هنا تكميلا للفائدة، قال رحمه الله تعالى: واختلفوا في الجلوس في التشهد الأول، وفيه نفسه، فأما الجلوس فقال أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد في إحدى روايتيه أنه سنة، وقال أحمد في الرواية الأخرى: هو واجب، ومن أصحاب أبي حنيفة من وافق أحمد على الوجوب في الرواية الأخرى، فأما التشهد فيه، فقال أحمد في إحدى روايتيه -وهي المشهورة- أنه واجب مع الذكر، ويسقط بالسهو، وهي التي اختارها الخرقي وابن شاقلا، وأبو بكر عبد العزيز، والرواية الأخرى أنه سنة، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي، واتفقوا على أنه لا يزيد في هذا التشهد الأول عن قوله: وأن محمدا عبده ورسوله، إلا الشافعي في الجديد من قوليه، فإنه قال: يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويسن ذلك له، قال يحيى بن محمد رحمه الله تعالى: وهو الأولى عندي، واتفقوا على أن الجلسة في آخر الصلاة فرض من فروض الصلاة، ثم اختلفوا في مقدارها، فقال أبو حنيفة وأحمد : الجلوس بمقدار التشهد فرض، والتحقيق من مذهب مالك أن الجلوس بمقدار إيقاع السلام فيها هو الفرض، وما عداه مسنون، كذا ذكره العلماء من أصحابه، عبد الوهاب وغيره، ثم اختلفوا في التشهد فيها: هل هو فرض أم سنة، فقال أبو حنيفة : الجلسة هي الركن دون التشهد، فإنه سنة، وقال الشافعي وأحمد في المشهور: التشهد فيه ركن الجلوس. وقد روي عن أحمد رواية أخرى أن التشهد الأخير سنة، والجلسة بمقداره هي الركن وحدها، كمذهب الشافعي، والمشهور الأول، وقال مالك : التشهد الأول [ ص: 79 ] سنة، واتفقوا على الاعتداد بكل واحد من التشهد المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق الصحابة الثلاثة، وهم عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم، ثم اختلفوا في الأولى منها، فاختار أبو حنيفة وأحمد تشهد ابن مسعود، واختار مالك تشهد عمر بن الخطاب، واختار الشافعي تشهد ابن عباس، وليس في الصحيحين إلا ما قد اختاره أبو حنيفة وأحمد، واختلفوا في وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير، فقال أبو حنيفة ومالك : إنها سنة، إلا أن مالكا قال: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم واجبة في الجملة ومستحبة في الصلاة، وانفرد ابن المواز من أصحابه بأنها واجبة في الصلاة، وقال الشافعي : هي واجبة فيه، وعن أحمد روايتان، المشهور منهما أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه واجبة، وتبطل الصلاة بتركها عمدا أو سهوا، وهي التي اختارها أكثر أصحابه، والأخرى أنها سنة واختارها أبو بكر عبد العزيز، واختار الخرقي دونهم أنها واجبة، لكنها تسقط مع السهو، وتجب بالذكر .

ثم اختلفوا أيضا في كيفية الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، ثم قدر ما يجزئ منها، فاختار الشافعي وأحمد في إحدى روايتيه: "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد". إلا أن اللفظ الذي اختاره الشافعي ليس فيه: "وعلى آل إبراهيم"، في ذكر البركة، والرواية الأخرى عن أحمد : "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد"، وهي التي اختارها الخرقي، فأما مذهب أبي حنيفة في اختياره في ذلك، فلم نجده إلا ما ذكره محمد بن الحسن في كتاب "الحجج" له، فقال: هو أن يقول: "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد". وقال محمد بن الحسن: وأخبرنا مالك نحو ذلك، وقال مالك : العمل عندنا على ذلك، إلا أنه نقص من ذلك، ولم يقل فيه: "كما صليت على إبراهيم"، ولكنه قال: "على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد"، فأما الإجزاء فأقل ما يجزئ عند الشافعي من ذلك أن يقول: "اللهم صل على محمد"، واختلف أصحابه في الآل، فلهم فيه وجهان؛ أحدهما أنه لا تجب الصلاة على الآل، وعليه أكثر أصحابه، والوجه الثاني أنه تجب الصلاة عليهم. وظاهر كلام أحمد أن الواجب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم حسب كمذهب الشافعي، وقال ابن حامد من أصحاب أحمد : قدر الإجزاء أنه تجب الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم وعلى آله وعلى إبراهيم، والبركة على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وآل إبراهيم؛ لأنه الحديث الذي أخذ به أحمد . إلى هنا انتهى كلام ابن هبيرة.

التالي السابق


الخدمات العلمية