إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان المعاني الباطنة التي تتم بها حياة الصلاة .

اعلم أن هذه المعاني تكثر العبارات عنها ولكن يجمعها ست جمل وهي حضور القلب والتفهم والتعظيم والهيبة والرجاء والحياء .

فلنذكر تفاصيلها ثم أسبابها ثم العلاج في اكتسابها .

أما التفاصيل فالأول حضور القلب ونعني به أن يفرغ القلب عن غير ما هو ملابس له ومتكلم به ، فيكون العلم بالفعل والقول مقرونا بهما ولا يكون الفكر جائلا في غيرهما ومهما انصرف في الفكر عن غير ما هو فيه وكان في قلبه ذكر لما هو فيه ، ولم يكن فيه غفلة عن كل شيء ، فقد حصل حضور القلب ولكن التفهم لمعنى الكلام أمر وراء حضور القلب فربما يكون القلب حاضرا مع اللفظ ولا يكون حاضرا مع معنى اللفظ فاشتمال القلب على العلم بمعنى اللفظ ، هو الذي أردناه بالتفهم .

وهذا مقام يتفاوت الناس فيه إذ ليس يشترك الناس في تفهم المعاني للقرآن والتسبيحات .

وكم من معان لطيفة يفهمها المصلي في أثناء الصلاة ولم يكن قد خطر بقلبه ذلك قبله ومن هذا الوجه كانت الصلاة ناهية عن الفحشاء والمنكر فإنها تفهم أمورا ، تلك الأمور تمنع عن الفحشاء لا محالة .


(بيان المعاني الباطنة التي بها تتميز حياة الصلاة)

لما ذكر أن الصلاة لها جسد وروح، فالجسد بمنزلة أجزائها الظاهرة التي بها يتم تركيبها، والروح فيها هو حضور القلب، وهو أمر معنوي شرع في بيان ما يتميز به ذلك، الروح وهي معان باطنة يدق إدراكها، فقال: (اعلم أن هذه المعاني) المميزة (تكثر العبارات عنها) باختلاف الأذواق والمشارب، (ولكن تجمعها ستة جمل) مختلفة الحدود والأسباب، وما عداها من المعاني راجع إليها بحسب الاستقراء الذوقي، (وهي حضور القلب) ، وهي عمدة الجمل التي عليها تتوارد بقيتها، إذ الكل منها يقصد لأجل حصولها، (و) الثانية (التفهم، و) الثالثة (التعظيم، و) الرابعة (الهيبة، و) الخامسة (الرجاء، و) السادسة (الحياء) ، ورتبها على هذا الترتيب؛ لأن كل واحدة منها زائد على التي قبلها، ووارد عليها، (فلنذكر تفاصيلها ثم أسبابها) المحصلة لها، (ثم العلاج في اكتسابها، أما التفاصيل فالأول حضور القلب) ، وقد قلنا: إنه شرط في الصلاة وبمنزلة [ ص: 118 ] الروح الساري في أجزائها، ونعني به (أن يفرغ القلب) ، أي: يخليه (عن غير ما هو ملابس له) ، وملازم عليه، (ومتكلم به، فيكون العمل بالفعل والقول مقرونا بهما) ، بحيث لا ينفك عنهما بحال، (و) إمارة ذلك أنه (لا يكون الفكر جائلا) ، أي: متحركا (في غيرهما) ، إذ جولان الفكر له مدخل عظيم في تشتيت الحواس، فإذا جال فيما هو أهم كان الغاية في الرسوخ، (ومهما انصرف الفكر عن غير ما هو فيه) ولم يجل إلا فيما هو بصدده، (و) مع ذلك (كان في قلبه ذكر لما هو فيه، ولم يكن فيه غفلة) تنافي ذلك الذكر ولا ذهول (عن كل شيء، فقد حصل حضور القلب) لا محالة، إذ لا يمنع الحضور إلا عدم التخلية وانفكاك العمل عن الفعل والقول، وجولان الفكر في غير ما هو فيه، فأركان الحضور ثلاثة ينعدم الحضور بانعدام كل واحد منها، وأعظمها التخلية، فإن قلت: قرن العمل بالفعل والقول نتيجة التخلية كما يفهم من سياق المصنف، فيكون العمل، إلخ، والفاء للتعقيب، وأنت قررته ركنا، فاعلم أن تخلية القلب عبارة عن أن لا يخطر فيه شيء ينافي القصد، وقرن العمل بالفعل والقول أمر زائد عليه، إذ قد يوجد التخلية ولا يوجد ذلك الأمر الزائد، وقد ينشأ هذا الأمر الزائد من غير تخلية، فهو وإن كان في الصورة كالنتيجة للتخلية، ولكنه في الحقيقة ركن من أركان الحضور، وهو راجع إلى القصد فلا بد من تحصيله ثم حفظ الفكر عن الجولان، وقص أجنحته حتى لا يحوم إلا على ذلك القصد، ثم لما كان قرن العمل بهما وحفظ الفكر من باب التخلية أخر عن تفريغ القلب؛ لأن التخلية مقدمة على التحلية، هذا ما يتعلق بأول الجمل .

(ولكن التفهم لمعنى الكلام) الذي ينطق به، وهي الجملة الثانية (أمر وراء حضور القلب) ، ولذلك عد مستقلا، (فربما يكون القلب حاضرا مع اللفظ) الظاهر، (ولا يكون حاضرا مع معنى اللفظ) الذي هو سره ولبه وخلاصته، (فاشتمال القلب) بعد حضوره (على العلم) الكافل (بمعنى اللفظ، هو الذي أردنا بالتفهم) ، وبيانه أن التفهم تفعل من الفهم، والفهم هو تصور المعنى من اللفظ، سواء كان من نفسه أو من المخاطب، ولا يتم هذا التصور إلا بالتحقق لذلك المعنى، ثم هو مطاوع للتفهيم، يقال: فهمته فتفهم، والمفهم أعم من أن يكون نسيبا أو غير نسيب، فالنسيب يختلف باختلاف الأحوال والمراتب، ومن هذا النوع قد يكون التفهيم من باب الإلقاء في القلب والنفث في الروع، وهو أرفع المراتب؛ ولذا قال المصنف: (وهذا مقام يتفاوت الناس فيه) ، أي: في أدناه وأقصاه، فمنهم القانع بالقشر فقط، والكامل الذي على الغنى سقط (إذ ليس يشترك الناس في تفهم المعاني) اللائقة (للقرآن) الذي يقرؤه في صلاته، (و) كذا معاني (التسبيحات) التي في الركوع والسجود، والناس في ذلك على طبقات؛ فمنهم من يعبر عن الألفاظ إلى معانيها الظاهرة بسرعة إدراكه حتى تنتقش في ذهنه انتقاشا لا يزول، وإنما قلنا الظاهرة وعنينا بها ما ذكره المفسرون في كتبهم، وهي الحاصلة بتحقيق الإعراب وتركيب مسائله، ومنهم من يفهم تلك المعاني من وجه آخر باعتبار مقتضيات خواص الألفاظ على قواعد أهل المعاني والبيان، ومنهم من يتجاوز عن ذلك بفهمه إلى ما تدل عليه تلك الألفاظ من تصريحات وتلويحات على طريقة أهل الأصول، ومنهم من يتجاوز عن ذلك فيدرك بمجرد نطقه لتلك الألفاظ إشارات خفية ورموزا بهية تنكشف له حجبها من غير إدارة فكر، ولا جولان خاطر على مشارب أهل العرفان، وهذه المرتبة الأخيرة هي التي أشار لها المصنف بقوله: (وكم من معان لطيفة ومعارف شريفة يفهمها المصلي في أثناء الصلاة) تنكشف له انكشافا، (ولم يكن حضر بقلبه ذلك قبله) ، فيحصل له بذلك العروج إلى معارج الأسرار، والولوج إلى خزائن الدار، وبه صح ما ورد: "الصلاة معراج المؤمنين" .

(ومن هذا الوجه كانت الصلاة ناهية عن الفحشاء والمنكر) ، فالفحشاء كل حالة سيئة من قول أو فعل، والمنكر ما أنكره الشارع ولم يرتضه والمؤمنون، وهو يشير إلى قوله تعالى: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر ، (فإنها) أي: الصلاة تفهم (أمورا، تلك الأمور تمنع عن الفحشاء) والمنكر (لا محالة) ، وهكذا فسروا الآية المذكورة ولا يخفى أن الفحشاء والمنكر داخلان تحت المعاصي والشهوات، ولكن لما كان [ ص: 119 ] كل واحد منهما رأسا فيها ذكر بالخصوص، وعلى هذا الفهم جاء كلام النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا". كما تقدم، وقوله تعالى: واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ، أي: استعينوا بها على مجاهدة النفس وصلاح القلب، وعلى ترك المعاصي والشهوات، وأراد بتلك الأمور التي تمنع عن المعاصي والشهوات التي منها الفحشاء والمنكر، مقامات تتعلق بكل كلمة من الخطاب يحصلها المصلي في أثناء شهوده لسر كلام المخاطب ومناجاته له به، ومن مقامات اليقين: الإيمان بها والتسليم لها والإنابة إليها، والصبر عليها، والرضا بها، والخوف منها، والرجاء لها، والشكر عليها، والمحبة لها، والتوكل فيها، فإذا تمكن المصلي من الانصباغ بتلك المقامات اقتدر على فهم تلك المعاني اللطيفة، إذ كل كلمة من كلمات القرآن منطوية على أسرار عرفانية يشهدها أهل المناجاة، ويعلمها أهل العلم والحياة؛ لأن كلام المحبوب حياة القلوب .

(تنبيه) :

وتناسب لهذه المرتبة الثانية جمل اثنا عشر ليست بأدون من جملة التفهم؛ وهي: النظر، والتبصر، والتدبر، والتفكر، والتذكر، والتعقل، والتأمل، والتعلم، والتنبه، والتعهد، والتيقظ، والتفقد، ولنذكر تفاصيلها، فالنظر هو طلب المعنى في القلب من جهة الذكر، كما يطلب إدراك المحسوس بالعين، والتبصر تقليب البصيرة لإدراك الشيء، والبصيرة هي قوة القلب المدركة حقائق الأشياء، والتدبر النظر في دبر الأمور، أي: عواقبها، والتفكر تصرف القلب في معاني الأشياء بالنظر في الدليل، ولا يقال إلا فيما يمكن أن تحصل له صورة، والتذكر استرجاع ما فات بالنسيان بمحاولة القوة الفعلية، والتعقل يطلق ويراد به التدبر في الأمور بكمال العقل، والتأمل إعادة النظر في الشيء مرة بعد أخرى لتحقيقه، والتعلم تنبيه النفس لإدراك المعاني، والتنبه إدراك ما في ضمير المتكلم والمخاطب، والتعهد حفظ الشيء وإصلاحه، والتيقظ هو التنبه للأمور، والتفقد هو طلب الشيء عند غيبته، فهذه الجمل لها مناسبة أكيدة بجملة التفهم، وقد استعمل أكثرها في الكتاب والسنة، ولكن لما كان التفهم كالنتيجة لهذه الجمل المجموعة اختاره دون غيره، والله أعلم .

(تنبيه) :

آخر، الشيء قد يخفى تفهمه، وتكل المعارف عن إدراكه فنضرب له الأمثال فيتضح حينئذ، ولنضرب لك مثالا فيما أورده المصنف في هذه الجملة، وكيف يتفاوت الناس فيها، فاعلم أن المصلي إذا وجه وجهة قلبه إلى مولاه وقرأ مثلا فيها اهدنا الصراط المستقيم ، فإن كان من أهل الظاهر، فإما أن يذهب فهمه في أول وهلة إلى تصريف حروفها وتعليلها، بأن يخطر بباله أن "اهدنا" صيغة أمر، وأن أصلها "اهدي" كاضرب سقطت ياؤها للإضافة إلى ضمير المتكلم، ثم يذهب فكره إلى حقيقة الضمير، وأنه يشترك فيه المفرد والمثنى دون الجميع، وأنه من باب ضرب هداه يهديه، وأنه متعد، وأن همزة الأمر مكسورة، وأن المستقيم صيغة اسم فاعل من استقام، وهل سينه أصلية أم زائدة؟ وهل ألفها منقلبة عن واو أو ياء؟ وما علة قلبها أيضا؟ إلى أمثال ذلك، فهذا نظر أهل التصريف الظاهر .

وإما أن يذهب فهمه إلى معنى الهداية، هل هي إراءة الطريق أو الإرشاد؟ وهل اشتقاقه من الهدو أو من الهدي؟ وأن الصراط اسم للطريق، وهل هو مرادف له أو مغاير؟ وأن الاستقامة هو الاعتدال، مشتق من القيام أو القومة إلى غير ذلك من المعاني، وهذا نظر أهل العلم بجواهر الألفاظ المعبر عنه بعلم اللغة .

وإما أن يذهب فهمه إلى تركيب حروفها ومخارجها فيخطر بباله مخرج الصاد والطاء والقاف، وأنه يجوز أن يقول: السراط، بالسين، والزراط، بالزاي لقرب المخارج، وما لها من الترقيق والتفخيم والإشمام، والقلقلة، والإمالة، والتحفظ على مخرج الدال حتى لا يشبه بالتاء، وعلى مخرج القاف حتى لا يخلطه بالقاف العجمية إلى غير ذلك، وهذا نظر أهل القراءة .

وإما أن يذهب فهمه إلى تركيب هذه الجملة من حيث المجموع فيقول: اهدنا، فعل أمر مضاف إلى ضمير المتكلم، وفيه ضمير مستتر تقديره، أنت، وأن المخاطب فيه هو الله تعالى، والصراط مفعول اهدنا، وهو يتعين فيه النصب، والمستقيم صفة، فهي بمجموعها جملة إنشائية، ولا يكاد يتجاوز فهمه إلى معنى الصراط ولا استقامته، فهذا وأمثال ذلك هو نظر أهل الإعراب وهو من [ ص: 120 ] خواص هذه الأمة المحمدية، وإما أن يذهب فهمه إلى خواص الجملة الإنشائية، وما لها من التجددات، والفارق بينها وبين الاسمية وتفاوت مراتبهما وتناسبهما مع السياق، والسباق إلى غير ذلك من الأسرار الناشئة من التركيب الجمعي، فهذا نظر البيانيين، وقد يعرض على قلبه حينئذ أن اهدنا الصراط، موزون من بحر الرجز أو الكامل، وقد دخله بعض العلل، وهو نظر أهل العروض، فكل هؤلاء من أهل الظاهر ينظرون إلى ظاهر الألفاظ إفرادا وتركيبا، وكل ذلك ليس مرادا في التفهم المأمور، وإن كان من أهل الباطن يذهب فهمه إلى شرف أم الكتاب، وأنها السبع المثاني، وأنها مكرمة هذه الأمة ومن خصوصياتها، وأن الله تعالى خاطب حبيبه -صلى الله عليه وسلم- وأمره بالدعاء والتضرع، وأن يعلم أمته بذلك، وأن الهداية بتوفيق الله تعالى ومحض فضله وكرمه، وأنه ما أمر بالدعاء إلا وقد تفضل عليهم بالإجابة، وأن الصراط المستقيم هو الذي لا اعوجاج فيه، ولا أمت، وصاحب هذا المقام يراعي حد الوسط في كل أمر من مطعم ومشرب وملبس، وكل أمر ديني ودنيوي، وهذا نظر أهل المرتبة الأولى من أهل الباطن، ومنهم من يتجاوز بعد فهم هذا إلى أن المراد بالصراط المستقيم هو التمسك بظاهر الشريعة، والعض عليها بالنواجذ، وأنه هو الموصوف بهذا الوصف، وصاحب هذا المقام يقف في العبارات عند الإشارات، وهو نظر أهل المرتبة الثانية من أهل الباطن، ومنهم من يعدو فهمه إلى معنى آخر في الصراط المستقيم، فيقول: المراد به كلمة الإخلاص، وأنه ما نجا من نجا إلا بالتمسك بها، فالمداومة عليها سبب النجاة وسبب خلوص القلب من الأوهام والشكوك، وصاحب هذا المقام من المستهترين في ذكر الله تعالى لا يغفل عن مذكوره قط، وهو نظر أهل المرتبة الثالثة من أهل الباطن .

ومنهم من يفهم من الصراط المستقيم معنى آخر وراء ذلك، ويقول: إن الصراط المستقيم هو محمد -صلى الله عليه وسلم-، وقد أمرنا بمتابعته واقتفاء سبله، وأنه هو الموصوف بكمال الاستقامة، وهو المخاطب بقوله تعالى: فاستقم كما أمرت ، ولا متابعة أشرف من متابعة الأحوال بعد المتابعة بالأقوال، والمعنى أرشدنا إلى متابعة أحوال هذا النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-، وصاحب هذا المقام شديد الملازمة للأحوال الباطنة، وأشرفها الوفاء بكل العهود، ويعبر عن هذا المقام بالفناء في الرسول، وهو نظر أهل المرتبة الرابعة من أهل الباطن .

ومنهم من يتجاوز فهمه بعد إحاطته بما سبق إلى أن المراد بالصراط المستقيم هو وحدة الوجود ويقول لا بقاء للبشرية بعد ظهور سلطان الحقيقة، ويقول: هذا هو الصراط المستقيم الذي سلكه المحققون من العارفين بالله تعالى، وصاحب هذا المقام إن دامت معه هذه الملاحظة انمعقت أوصافه البشرية بالكلية، وانصبغ بالصفات الملكية الروحية، وهو مقام الصديقين نفعنا الله بهم أجمعين. فانظر ما ذكرت لك من التفصيل في جملة واحدة مما تقرؤه في صلاتك التي هي سلم الوصول ومعراج الحق، وهكذا تفرضه في كل جملة من جمل القرآن لتكون من أهل العرفان، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية