إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وأما الاعتدال قائما فإنما هو مثول بالشخص والقلب بين يدي الله عز وجل فليكن رأسك الذي هو أرفع أعضائك مطرقا مطأطئا متنكسا وليكن وضع الرأس عن ارتفاعه تنبيها على إلزام القلب التواضع والتذلل والتبري عن الترؤس والتكبر وليكن على ذكرك ههنا خطر القيام بين يدي الله عز وجل في هول المطلع عند العرض للسؤال .

واعلم في الحال أنك قائم بين يدي الله عز وجل وهو مطلع عليك فقم بين يديه قيامك بين يدي بعض ملوك الزمان إن كنت تعجز عن معرفة كنه جلاله بل قدر في دوام قيامك في صلاتك أنك ملحوظ ومرقوب بعين كالئة من رجل صالح من أهلك أو ممن ترغب في أن يعرفك بالصلاح فإنه تهدأ عند ذلك أطرافك وتخشع جوارحك ، وتسكن جميع أجزائك خيفة أن ينسبك ذلك العاجز المسكين إلى قلة الخشوع .

وإذا أحسست من نفسك بالتماسك عند ملاحظة عبد مسكين فعاتب نفسك وقل لها : إنك تدعين معرفة الله وحبه ، أفلا تستحين من استجرائك عليه مع توقيرك عبدا من عباده أوتخشين الناس ولا تخشينه وهو أحق أن يخشى ولذلك لما قال أبو هريرة كيف الحياء من الله فقال صلى الله عليه وسلم : تستحي منه كما تستحي من الرجل الصالح من قومك وروي من أهلك .


(وأما الاعتدال قائما فإنما هو) وبين قائما وفإنما جناس (مثول بالشخص) الظاهر، (والقلب بين يدي الله تعالى) ، يقال: مثلت بين يديه مثولا إذا انتصبت قائما، ومنه الامتثال بمعنى الإطاعة، (فليكن رأسك الذي هو أرفع أعضائك) وأعلاها (مطرقا مطأطئا) ، أي: خافضا (مستكينا) ، وفي بعض النسخ متنكسا، والمعنى صحيح على النسختين، يقال: نكس رأسه إذا صوبه إلى تحت كهيئة الذليل، واستكان خضع وذل، (وليكن وضع الرأس عن ارتفاعه تنبيها على إلزام القلب التواضع والتذلل والتبري) ، أي: إظهار التخلص (عن) وصلة (الترؤس والتكبر) ليكون باطنه على طبق ظاهره، (وليكن على ذكرك) بضم الذال، وهو ذكر القلب، وفي نسخة: فكرك، (ههنا) أي: في هذا المقام [ ص: 140 ] خطر القيام بين يدي الله تعالى، وفي نسخة: المقام بدل القيام (في هول المطلع) بتشديد الطاء المهملة المفتوحة على صفة اسم المفعول، (عند العرض للسؤال) ، وأنك أول ما تسأل عن صلاتك هذه، (واعلم في الحال) بعد ذلك التصور (أنك قائم بين يدي الله عز وجل) وعن يمينك ويسارك الملائكة (وهو مطلع عليك) ناظر إليك، وهو مقام الإحسان، وإليه الإشارة بقوله في الحديث: "فإن لم تكن تراه فإنه يراك". (فقم بين يديه قيامك بين يدي بعض ملوك الدنيا) كيف يغلب عليك الجلال والخوف من وقوفك بين يديه، ويعرق الجبين (إن كنت تعجز عن معرفة كنه جلاله) جل وعز، أي: فمثل بما ذكرناه لك ليحصل لك التحقق بحسن الوقوف بين يدي مولاك في صلاتك (بل قدر) وافرض (في دوام قيامك في صلاتك أنك ملحوظ ومرقوب) ، أي: منظور (بعين كالئة) ، أي: راقبة (من رجل صالح من أهلك أو ممن ترغب في أن يعرفك بالصلاح) ، والخير من غير أهلك (فإنه تهدأ) أي: تسكن (عند ذلك) الملاحظة (أطرافك وتخشع جوارحك، وتسكن جميع أجزائك) الظاهرة (خيفة أن ينسبك ذلك العاجز المسكين إلى قلة الخشوع) قال الراغب في الذريعة: حق الإنسان إذا هم بقبيح أن يتصور أجل من في نفسه حتى كأنه يراه، فالإنسان يستحي ممن يكبر في نفسه، ولذلك لا يستحى من الحيوان ولا من الأطفال ولا من الذين لا يميزون، ويستحى من العالم أكثر مما يستحى من الجاهل، ومن الجماعة أكثر مما يستحى من الواحد (فإذا أحسست من نفسك بالتماسك عند ملاحظة عبد مسكين) مثله مثلك في العبودية، (فعاتب نفسك وقل لها: إنك تدعين معرفة الله -عز وجل- وحبه، أفلا تستحين من اجترائك عليه مع توقيرك عبدا من عباده) ، وتماسكك عند ملاحظته (أوتخشين الناس ولا تخشين الله وهو) جل وعز (أحق أن تخشينه) فإنك إذا علمت أن الله يراك استحييت من ارتكاب الغفلة في عبادته، ومن لم يستح من ربه، فليس له نصيب في معرفته، والحياء من الله هو الأصل والأساس، (ولذلك لما قال أبو هريرة ) -رضي الله عنه- لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- (كيف الحياء من الله تعالى) حين سمع استحيوا من الله حق الحياء (فقال -صلى الله عليه وسلم-: تستحي منه كما تستحي من الرجل الصالح من أهلك) ، أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق، والبيهقي في الشعب من حديث سعيد بن يزيد مرسلا بنحوه، وأسنده البيهقي بزيادة ابن عمر في السند .

وفي العلل للدارقطني عن ابن عم له، وقال: إنه أشبه شيء بالصواب أورده في حديث سعيد بن زيد أحد العشرة، قاله العراقي .

قلت: وسعيد بن يزيد بن مسلمة الأزدي تابعي روى عن أنس ومطرف بن الشخير، وعنه يزيد بن زريع وابن علية، روى له الجماعة، وأخرج ابن عدي في الكامل بسند ضعيف من حديث أبي أمامة الباهلي بلفظ: "استحي من الله استحياءك من رجلين من صالحي عشيرتك". والمقصود من سياق المصنف أن المصلي إذا وقف في مقام المناجاة لا يذكر معه غيره، ولا يثني على أحد سواه، ولا يشكو إلا إليه، ويكون أبدا بين يديه ماثلا، وبالحق قائما وقائلا، وله معظما، وهو في نظره إليه مشفق، وفي إقباله عليه مطرق إجلالا وحياء؛ لأنه يعلم سره ونجواه، وهو أقرب إليه من حبل الوريد .

التالي السابق


الخدمات العلمية