إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ولم يكن شيء منه مألوفا في العصر الأول وكان الخوض فيه بالكلية من البدع ولكن تغير الآن حكمه إذ حدثت البدعة الصارفة عن مقتضى القرآن والسنة ونبغت جماعة لفقهوا لها شبها ورتبوا فيها كلاما مؤلفا فصار ذلك المحذور بحكم الضرورة مأذونا فيه بل صار من فروض الكفايات وهو القدر الذي يقابل به المبتدع إذا قصد الدعوة إلى البدعة وذلك إلى حد محدود سنذكره في الباب الذي يلي هذا إن شاء الله تعالى وأما الفلسفة فليست علما برأسها بل هي أربعة أجزاء .

أحدها الهندسة والحساب وهما مباحان كما سبق ولا يمنع عنهما إلا من يخاف عليه أن يتجاوز بهما إلى علوم مذمومة فإن أكثر الممارسين لهما قد خرجوا منهما إلى البدع فيصان الضعيف عنهما لا لعينهما كما يصان الصبي عن شاطئ النهر خيفة عليه من الوقوع في النهر وكما يصان حديث العهد بالإسلام عن مخالطة الكفار خوفا عليه مع أن القوي لا يندب إلى مخالطتهم .

الثاني المنطق وهو بحث عن وجه الدليل وشروطه ووجه الحد وشروطه وهما داخلان في علم الكلام .


ثم اعتذر المصنف فقال (ولم يكن شيء منه مألوفا في العصر الأول) عند الصحابة والتابعين (فكان الخوض فيه بالكلية من البدع) والمنكرات (ولكن تغير الآن حكمه) باختلاف الأزمنة (إذ حدثت البدع) من المبتدعة (الصارفة عن مقتضى نص القرآن والسنة) ومقتضى النص ما لا يدل اللفظ عليه ولا يكون ملفوظا لكن يكون من ضرورة اللفظ (ونبغت) أي ظهرت (جماعة لفقوا) أي جمعوا (لها) لتلك البدع (شبها) وإيرادا (ورتبوا فيها كلاما مؤلفا) يقرؤه الناس (فصار ذلك المحذور) أي: الممنوع منه (بحكم الضرورة) والاحتياج (مأذونا) بالتكلم (فيه) تعلما وتعليما (بل صار) القدر المحتاج إليه (من فروض الكفايات) وقال السبكي: ولا شك أن السكوت عنه ما لم تدع إليه الحاجة أولى، والكلام فيه عند فقد الحاجة بدعة، وحيث دعت إليه الحاجة فلا بأس به (وهو القدر الذي يقابل به المبتدع إذا قصد الدعوة) أي: دعاء الناس (إلى البدعة) وحملهم عليها (وذلك إلى حد محدود) معين وما زاد وتجاوز عن ذلك الحد فمضر مذموم وذلك المحدود (سنذكره في الباب الذي يلي هذا) إن شاء الله تعالى (وأما الفلسفة) وهي معرفة علوم يحصل بها التشبه بأخلاق الإله بحسب الطاقة البشرية لتحصيل السعادة الأبدية في زعمهم (فليست علما برأسها بل هي أربعة أجزاء) يطلق على الكل بهذا الاسم (أحدها الهندسة والحساب وهما مباحان كما سبق وما يمنع منهما إلا من يخاف عليه أن يتجاوزهما إلى علوم مذمومة) داخلة فيهما كما يأتي بيانه (فإن أكثر الممارسين لهما) المشتغلين بهما (قد خرجوا منهما إلى البدع) ولم يكتفوا بالوقوف عليهما (فيصان الضعيف) العقيدة (عنه لا لعينه كما يصان الصبي عن شاطئ النهر خيفة من الوقوع في النهر) فيكون سببا لهلاكه (وكما يصان حديث العهد بالإسلام) قبل أن يتمكن الإيمان في قلبه ( عن مخالطة الكفار ومخاطبتهم خوفا عليه) في إفساد عقيدته (مع أن القوي) في إسلامه (لا يندب إلى مخالطتهم) ولا يؤذن له مع أمنه على دينه، وتحرير كلامه فيه أن أنواع الفلسفيات الأربعة رياضية ومنطقية وإلهية وطبيعية، فالرياضة على أربعة أقسام: الأول علم الإدتماطيقي وهو معرفة خواص العدد وما يطابقها من معاني الموجودات التي ذكرها فيتاغورس وتحته علم الوفق وعلم الحساب الهندي وعلم الحساب القبطي والزنجي، وعلم عقد الأصابع، الثاني: علم الجو مطريا وهو علم الهندسة بالبراهين المذكورة في إقليدس، ومنها علمية وعملية وتحتها علم المساحة وعلم التكسير وعلم رفع الأثقال وعلم الحيل المائية والهوائية والمناظر والحرب، الثالث: علم الأسطرقوميا وهو علم النجوم بالبراهين المذكورة في المجسطي وتحته علم الهيئة والميقات والريح والتحويل، الرابع: علم الموسيقى وتحته علم الإيقاع والعروض، فهذا كله النوع الأول من الفلسفيات (والثاني المنطق وهو بحث عن وجه الدليل وشروطه ووجه الحد وشروطه) وفي المنقذ من الضلال للمصنف: وهو نظر في طرق الأدلة والمقاييس وشروط مقدمات البرهان وكيفية تركيبها وشروط الصحيح وكيفية ترتيبها. اهـ .

وهذا باعتبار الموضوع وباعتبار الغاية [ ص: 176 ] آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ ويسمى أيضا علم الميزان، وسماه أبو نصر الفارابي، رئيس العلوم، ولكونه آلة في تحصيل العلوم الكسبية النظرية والعملية لا مقصودا بالذات سماه ابن سينا بخادم العلوم وهما داخلان في علم الكلام، وقد اختلف في الاشتغال به على أقوال فمنهم من جعله فرض عين وبناء على عدم إيمان المقلد وهو أبعد الأقوال وأليق بأن يقال لصاحبه:

أوردها سعد وسعد مشتمل ما هكذا يا سعد تورد الإبل

ومنهم من قال: فرض كفاية وإليه أشار السيد الجرجاني وغيره، وقد رده ابن القيم فقال: لا فرض إلا ما فرضه الله ورسوله، فيا سبحان الله هل فرض الله على كل مسلم أن يكون منطقيا، فإن فرض الكفاية كفرض العين في تعلقه بعموم المكلفين وإنما يخالفه في سقوط بفعل البعض، والمنطق لو كان علما صحيحا كان غايته أن يكون المساحة والهندسة ونحوها، فكيف وباطله إضعاف حقه وفاسده وتناقض أصوله واختلاف مبانيه يوجب مراعاتها للذهن أن يزيغ في فكره، ولا يؤمن بهذا إلا من قد عرفه وعرف فساده وتناقضه اهـ .

ونقل المصنف في كتابه المستصفى في أوله: هذه مقدمة العلوم كلها ومن لا يحيط بها فلا ثقة له بعلمه أصلا، وهذا الذي رد عليه أبو عمرو بن الصلاح، وأقام عليه النكير في ذلك وحرم الاشتغال به وتبعه الإمام النووي وسيأتي الجواب عنه قريبا، وأول من بين فساده وتناقضه ومناقضة كثير منه للعقل الصريح وألف فيه أبو سعيد السيرافي النحوي، ثم القاضي أبو بكر بن الطيب والقاضي عبد الجبار، والجبائي، وابنه، وأبو المعالي، وأبو القاسم الأنصاري، وخلق لا يحصون وآخر من تجرد لذلك تقي الدين ابن تيمية الحافظ فإنه أتى في كتابيه الكبير والصغير بالعجب العجاب وكشف أسرارهم وهتك أستارهم، وبه أفتى الحافظ جلال الدين السيوطي، وألف فيه القول المشرق في تحريم المنطق، ونقل فيه عن الأئمة الأربعة ما يدل على تحريمه وهو في الحقيقة مختصر ما في كتابي ابن تيمية مع زيادات فرعية وقد رد عليه أبو عبد الله محمد بن عبد الكريم المغيلي من المغاربة، وقال ابن القيم في الرد على المنطق نظما:

واعجبا لمنطق اليونان     كم فيه من إفك ومن بهتان
مخبط لجيد الأذهان     ومفسد لفطرة الإنسان
ومبكم للقلب واللسان     مضطرب الأصول والمباني
على شفا هار بناه الباني     أحوج ما كان عليه العاني
يخونه في السر والإعلان     يمشي به اللسان في الميدان
مشي مقيد على صفوان     متصل العشار والتواني
كأنه السراب من قيعان     بدا لعين الظامئ الحيران
فأمه بالظن والحسبان     يرجو شفاء علة الظمآن
فلم يجد ثم سوى الحرمان     فعاد بالخيبة والخسران
يقرع سن نادم حيران     قد ضاع منه العمر في أماني
وخائن الخفة في ميزان

ثم قال وما كان من هوس النفوس بهذه المنزلة فهو بأن يكون جهلا أولى منه بأن يكون علما تعلمه فرض كفاية أو فرض عين، وهذا الشافعي وأحمد وسائر أئمة الإسلام وتصانيفهم وسائر أئمة العربية وتصانيفهم وأئمة التفسير وتصانيفهم لمن نظر فيها هل راعوا فيها حدود المنطق وأوضاعه؟ وهل صح لهم علمهم بدونه أم لا؟ بل كانوا أجل قدرا وأعظم عقولا من أن يشغلوا أفكارهم بهذيان المنطقيين وما دخل المنطق على علم إلا وأفسده، وغير أوضاعه وشوش قواعده. اهـ .

وقال علي القاري: هو من العلوم المذمومة ويسمى دهليز الكفر، ونقل عن ابن تيمية أنه قال: ما أظن الله -عز وجل- يغفل على المأمون ولا بد أن يعاقبه بما أدخل على الأمة من نقل هذا العلم من اليونانية إلى العربية. اهـ .

وأما الجواب عن الغزالي فيما أورده عليه ابن الصلاح على مقالته التي سبقت في أول كتابه المستصفى، فقال الشيخ تقي الدين السبكي بعد كلام طويل: ولا ننكر فضل الشيخ تقي الدين بن الصلاح، وفقهه وحديثه وقصده الخير، ولكن لكل عمل رجال، وأما من ذكر أبا بكر وعمر -رضي الله عنهما- في هذا المقام فالله يوفقنا وإياه لفهم مقامهما [ ص: 177 ] على قدرنا، وأما على قدرهما فمستحيل بل وسائر الصحابة لا يصل أحد ممن بعدهم إلى مرتبتهم; لأن أكثر العلوم التي نحن نتبع وندأب فيها الليل والنهار حاصلة عندهم بأصل الخلقة من اللغة والنحو والتصريف، وأصول الفقه وما عندهم من العقول الراجحة، وما أفاض الله عليها من نور النبوة العاصم من الخطأ في الفكر يغني عن المنطق وغيره من العلوم العقلية، وأما ألف الله بين قلوبهم حتى صاروا بنعمته إخوانا يغني عن الاستعداد في المناظرة والمجادلة، فلم يكونوا يحتاجون في علمهم إلا إلى ما يسمعونه من النبي -صلى الله عليه وسلم- من الكتاب والسنة، فيفهمونه أحسن فهم ويحملونه على أحسن محمل وينزلونه منزلته، وليس بينهم من يماري فيه ولا يجادل ولا بدعة ولا ضلالة ثم التابعون على منوالهم قريبا منهم ثم أتباعهم، وهم القرون الثلاثة التي شهد النبي - صلى الله عليه وسلم- بأنها خير القرون بعده .

ثم نشأ بعدهم وربما في أثناء الثاني، والثالث: أصحاب بدع وضلالات فاحتاج العلماء من أهل السنة إلى مقاومتهم ومجادلتهم ومناظرتهم حتى لا يلبسوا على الضعفاء أمر دينهم ولا يدخلوا في الدين ما ليس منه، ودخل في كلام أهل البدع من كلام المنطقيين وغيرهم من أهل الإلحاد شيء كثير ورتبوا عليها شبها كثيرة، فإن تركناهم وما يصنعون استولوا على كثير من الضعفاء وعوام المسلمين والقاصرين من فقهائهم وعلمائهم فأضلوهم وغيروا ما عندهم من الاعتقادات الصحيحة وانتشرت البدع والحوادث، ولم يكن كل واحد يقاومهم وقد لا يفهم كلامهم لعدم اشتغاله به، وإنما يرد على الكلام من يفهمه ومتى لم يرد عليه تعلو كلمته ويعتقد الجاهلون والأمراء والملوك المستولون على الرعية صحة كلام ذلك المبتدع، كما اتفق في كثير من الإعصار وقصرت همم الناس عما كان عليه المتقدمون، فكان الواجب أن يكون في الناس من يحفظ الله به عقائد عباده الصالحين ويدفع به شبه الملحدين وأجره أعظم من أجر المجاهدين بكثير، وبه يحفظ أمر بقية الناس وعبادات المتعبدين واشتغال الفقهاء والمحدثين والمفسرين والمقربين وانقطاع الزاهدين:

لا يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها

فاللائق بابن الصلاح وأمثاله أن يشكر الله تعالى على ما أنعم به عليه من الخير، وما قيض له الغزالي وأمثاله الذين تقدموه حتى حفظوا له ما يتعبد به وما يشتغل به. اهـ .

وقال العلامة الحسن اليوسي في حاشيته على الكبرى ما نصه: وممن تفوه بذمه السيوطي، ذكر في كتابه الحاوي في الفتاوى أنه سئل عن إنسان كان يقول: إن توحيد الله متوقف على علم المنطق وإن علم المنطق فرض عين على كل مسلم وإن لكل متعلم منه بكل حرف عشر حسنات ولا يصح توحيد من لا يعلمه، وإن أفتى وهو لا يعلمه فما يفتي به باطل، فأجاب بأن المنطق خبيث مذموم يحرم الاشتغال به، وذكر أنه لا ثمرة له دينية أصلا، بل ولا دنيوية .

وذكر جماعة نقل عنهم ذلك، ثم ذكر أن المنطق لو قدر أنه لا ضرر فيه وأنه حق لم ينفع في التوحيد أصلا ولا يظن أنه ينفع فيه إلا من هو جاهل بالمنطق لا يعرفه؛ لأن المنطق إنما براهينه على الكليات، والكليات لا وجود لها في الخارج ولا تدل على جزئي أصلا، قال: هكذا قرره المحققون والعارفون بالمنطق، قال: فهذا الكلام الذي ذكره القائل استدللنا به على أنه لا يعرف المنطق ولا يحسنه فلزم بمقتضى قوله إنه مشرك; لأنه قال: التوحيد متوقف على معرفته وهو لم يعرفه بعد، هذا حاصل الغرض من كلامه، وقد علمت مما مر سقوط هذا الكلام وما احتوى عليه من التخيلات والأوهام، أما قوله إنه خبيث مذموم فهو دعوى تقدم بيان فسادها، وأما قوله أنه لا منفعة له فإنكار للمحسوس ولكن

ما ضر شمس الضحى في الأفق طالعة     أن لا يرى ضوءها من ليس ذا بصر

وكيف يحكم عليه بعد الفائدة وهو لا يعرفه لكن من جهل شيئا عاداه

قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد     وينكر الفم طعم الماء من سقم
فإذا كنت بالمدارك غرا     ثم أبصرت حاذقا لا تماري
[ ص: 178 ] وإذا لم تر الهلال فسلم     لأناس رأوه بالأبصار

وأما قوله: إن الكليات لا وجود لها في الخارج فأعجب أن يصدر هذا الكلام احتجاجا في نحو هذا المقام عن عاقل فضلا عن فاضل، وما كنت أحسبه بهذه المنزلة، ولقد كنت أراه رحمه الله تعالى يرتفع عنها، وممن له مشاركة، وهذا الكلام ينبئ أنه لم يشم رائحة المعقول، وتلزمه عليه شناعات، منها: أن هذا الكلام الذي استدل به يستدعي ويقتضي أنه يزعم أن جميع العلوم التي ينتحلها خارجية، أي: محسوسة وهذا مع بداهة بطلانه ومضاهاته قول السمنية وكونه من قبيل السوفسطائية، يقتضي أنه لم يدرك قانونا فقهيا ولا أصوليا ولا نحويا، ولا غير ذلك، وأن جميع ما يدركه منها جزئيات خارجية إذ لو كان غير ذلك لكان مما يفيد المنطق فتكون له ثمرة، ولا خفاء أن من كان بهذه المثابة ليس له من العلوم مشاركة ولا يستحق جوابا، ويقتضي أنه لم يدرك شيئا من العلوم أصلا؛ لأن جميع النسب ليست خارجية، بل معان إما كلية أو جزئية، وهذه المنزلة لم يكن فيها شيء من الحيوانات الناطقة، ولا العجم أما الناطقة فلأنها تدرك الثلاثة أعني المعاني الكلية والصور الخارجية والمعاني الجزئية موجودة في الصور أم لا، وأما العجم فلأنها تدرك الصور والمعاني الجزئية الموجودة فيها، أما الحاضر المدرك في الخارج فليس من الحيوانات أصلا، ومنها أن هؤلاء العلماء الذين نقل عنهم هذا يلزمه أن لا يثق بنقلهم؛ لأنهم فساق حيث اشتغلوا بالمنطق المحرم لاعترافه أنهم عارفون به، ومنها: ما يفعله أئمة الأصول والكلام في تأليفهم بتصدير الكتاب بجملة من المنطق كصاحب المختصر وصاحب الطوالع، وغيرها حرام ويلزمه أن لا يقرأ شيئا من هذه الكتب أو أن يتخطى ذلك الموضع، ومنها: أنه يلزمه أن لا يدرك إلا الكتاب والسنة ويحرم ما سواهما كما تقدم من مذهب الحشوية والظاهرية; لأن علم الكلام إنما هو على منوال المنطق إلى غير هذا من النكت السوء التي يسفر عنها وجه هذا الكلام مع ما قبله وما بعده، ومفاسد قلة التأمل أكثر من أن يحيط بها نطاق البيان، ومن ادعى على غير بصيرته فضحته شواهد العيان، ولو تصدينا لهذه المسألة لأسمعناك منها ما يثلج الصدور ويطلع في سمائها لوامع البدور، ولكن أعرضنا عنها مخافة السآمة، وقد كنت هممت لما اطلعت على ذلك الكلام أن أضع فيها جزأ مستقلا فرأيت ذلك كالبطالة، ولولا أن يستميل البلداء ما في مقالتي من الإغراب ويظنوا أنه هو فصل الخطاب لكان السكوت عن هذه المسألة رأسا هو الصواب، وإعارتها أذنا صماء هو غاية الجواب .


ورب كلام طار فوق مسامعي     كما طار في لوح الهواء ذباب

وما قصدنا بهذا الكلام تنقيص العلماء ولا اهتضاما لجلال السيوطي، وإنما ألزمناه ذلك لكلامه، وإنا نعلم أنه من الفضلاء وأنه ليس بتلك المنزلة التي ألزمناه لكن وإن كان بعين التوقير والإجلال فالحق أحق أن يتبع، ومن كلام أرسطو الحكيم في حق شيخه أفلاطون: إنا نحب الحق ونحب أفلاطون، ما اتفقا فإذا اختلفنا كان الحق أولى منه، هذا إن أراد تحريم المنطق رأسا، وأما إن أراد الزجر عن التوغل فيه والإفراط والاشتغال بتمشدق فيه عن الكتاب والسنة، أو أراد نهي البليد عن الخوض فيه فهذا مسلم صحيح، وكذا بطلان ذلك الكلام المسئول عنه وما ذكر في المنطق هو كذلك، وبعد كتبي هذا رأيت كلام الشيخ الماهر الفقيه المتبحر أبي عبد الله محمد بن عبد الكريم المغيلي في رده على السيوطي، وكان السيوطي إذا ألف تأليفا بعثه إليه، فلما ألف تأليفه الذي سماه القول المشرق في تحريم المنطق بعثه إليه فرد عليه المغيلي غاية الرد وبالغ في الإنكار عليه وقال في ذلك قصيدة منها:

سمعت بأمر ما سمعت بمثله     وكل حديث حكمه حكم أصله
أيمكن أن المرء في العلم حجة     وينهى عن الفرقان في بعض قوله
هل المنطق المعني إلا عبارة     عن الحق أو تحقيقه حين جهله

[ ص: 179 ]

معانيه في كل الكلام فهل ترى     دليلا صحيحا لا يرد لشكله
أو هل هداك الله منه قضية     عن غيره هذا تنفها عن محله
ودع عنك أبداه كفور وذمه     رجال وإن أثبت حجة نقله
خذ العلم حتى من كفور ولا تقم     دليلا على شخص بمذهب مثله
عرفناهم بالحق لا العكس فاستبن     به لا بهم إذ هم هداة لأجله
لئن صح عنهم ما ذكرت فكم هم     وكم عالم بالشرع باح بفضله

وأراد بالفرقان المنطق؛ لأنه يفرق بين الخطأ والصواب، وفي قوله: إن أثبت حجة نقله، مع قوله قبله ما سمعت، وقوله عقبه: لئن صح عنهم ما ذكرت، إشارة إلى عدم تسليم صحة ما نقله، وتأمل ما أشار إليه -رحمه الله تعالى- في أبياته من الردود القاطعة والأجوبة القامعة، ولولا خشية الإطالة لوشحنا هذه الأبيات بما يحرر في هذا المبحث أقصى الغايات وتنصب على منهجه سواطع الآيات اهـ .

كلام اليوسي -رحمه الله تعالى- قلت: اعلم أن الشيخ أبا الوفاء الحسن بن مسعود اليوسي، وأبا عبد الله محمد بن عبد الكريم المغيلي لا ينكر فضلهما ولا جلالة قدرهما وأين هما من معرفة مقام السيوطي؟ فإن لكل علم رجالا، ولنقدم قبل الخوض في الكلام بمقدمة لطيفة ثم نتكلم معهما بالإنصاف، وإن لم أبلغ شأوهما .

إن الإنسان قد ينشأ في قطر ألف أهله فنا من الفنون وتعودوا على تحصيله فيربى عليه من الصغر حتى يصير ذلك عادة له وديدنا كما يتربى اللحم والعظام على القدر المعتاد، والعادة إذا قويت غلبت حكم الطبيعة، ولذا قيل: هي طبيعة ثانية ثم يأتيه ما يخالفه وهلة واحدة يريد إزالته وإخراجه من قلبه وأن يسكن موضعه فيعسر عليه الانتقال ويصعب عليه الزوال، وهذا أغلب الأسباب على أرباب المقالات والنحل ليس على أكثرهم بل جميعهم إلا ما عسى أن يشذ الإعادة، ومربى تربى عليه طفلا لا يعرف غيره، ولا يحس به فالانتقال عنه كالانفكاك عن الطبيعة إلى طبيعة ثانية، وكان قطر المغرب المحروس في أول ما نشأ فيه الإسلام، الغالب على أهله الميل إلى علوم الشريعة وعدم الخوض في علوم الفلسفة رأسا، فكان فيهم مثل الإمام الحافظ بقي بن مخلد القرطبي صاحب المسند المشهور وابن حزم وابن عبد البر، وأمثالهم ثم القاضي عياش وأبو عبد الله المازري والطرطوشي، وأمثالهم، فهؤلاء كانوا في غاية الصلابة في علوم الشريعة وذم الفلسفة وعدم النظر في كتبهم .

ولما كان القرن الخامس وفد جماعة منهم إلى عراق العجم ونقلوا عنهم المنطق وغيره فكان من الإمام المازري وابن حرزهم والقاضي عياش، ما كان في إفتائهم بإحراق كتاب الإحياء لما رأوه على طريقة غريبة تخالف ظاهر طريقة الفقهاء، وكان من ابن رشد ما كان من الطامات، ثم في الأواخر ظهرت من جبال نفوسة والجربة قوم خوارج نظروا في الفلسفة وخالطوا علماء الإسلام وأوردوا عليهم شبها لفقوها فاحتاج علماء ذلك العصر إلى الخوض في المنطق، وتوغلوا في الكلام لأجل الرد عليهم خوفا منهم على ضعفاء العقائد من المؤمنين حتى جاء القطب الكامل أبو عبد الله سيدي محمد بن السنوسي الحسني نفع الله به، فتصدى للرد عليهم وبالغ في الإنكار والتعصيب لمدافعتهم، فألف رسائل في المنطق والكلام، وشغل الناس بها، وفي آخر الأمر دعا عليهم فأبادهم الله تعالى، وكفى الله المؤمنين شرهم، وكان قصده في ذلك جميلا; لأنه ذب عن عقائد المسلمين وحماها عن التسلط بإيراد الشبه عليها، وأتى من بعده من العلماء والفضلاء فولع بطريقته مع صلاح المشار إليه وشهرته بالكرامات في ذلك القطر، وتلقاها خلف عن سلف وخاضوا فيها حتى صاروا أئمة في ذلك يشار إليهم بالبنان، ثم اختلط الأمر بعد ذلك ونشأ بعدهم من تلقى عنهم ذلك فظن أنه لا كمال إلا فيما هو مشتغل به، فصار ما يشتغل به من المنطق وغيره كالغذاء له فلا يسمع فيه عذل عاذل ولا لوم لائم، حتى نزعت عنهم رواية الحديث والآثار الأخبارية، بقيت على نهج الرعيل الأول حتى ترى عصر شيوخ مشايخنا منهم الذين وفدوا مصر لم يكن عندهم من الرواية إلا شيء قليل [ ص: 180 ] فبسبب ذلك راج أمره في مصر وكبوا على تحصيله بعد أن لم يكونوا يشتغلون به إلا مذاكرة في بعض الأحيان تشحيذا للأذهان، وهذا هو السبب في اضمحلال علم الحديث ودروس آثاره وقلة حملته وذهاب أحباره .

فإذا عرفت ما ذكرناه لك إجمالا فاعلم أن قول السيوطي في جواب السائل أنه أي: المنطق خبيث، صحيح، وتقرير ذلك أن القلب يعترضه مرضان يتواردان عليه إذا استحكما فيه كان هلاكه وموته، وهما مرض الشهوات ومرض الشبهات، وهو أصعبهما وأقتلهما للقلب وإليه يشير قوله تعالى في حق المنافقين: في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ، وقوله تعالى: ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم . ومن أمراض القلب حب الرياسة والعلو في الأرض وهذا المرض مركب من مرض الشهوة والشبهة، فإنه لا بد فيه من تخيل فاسد وإرادة باطلة كالعجب والفخر والخيلاء والكبر المركب من تخيل عظمته وفضله، وإرادة تعظيم الخلق له ومحمدتهم فلا يخرج مرضه عن شهوة أو شبهة أو مركب منهما، وهذه الأمراض إذا تدبرت لها بالفكر الصحيح مفسدة للقلب متولدة من المنطق فهو أحرى بأن يسمى خبيثا لذلك، فإن الخبيث ضد الطيب وما يفسد القلب الذي هو خزانة الله لأسرار معرفته فهو خبيث مخبث، وإذا فسد القلب فسد الفكر فلا يخطر بباله سوى مناقضات ومجادلات مذمومة بينها وبين علماء الآخرة فرق كثير .

وأما قول السيوطي إنه مذموم فصحيح أيضا نظرا لما ذكرنا وناهيك من ذمه من علماء الإسلام كأبي سعيد السيرافي النحوي، وأبي طالب المكي والقاضي أبي بكر بن الطيب، والإمام أبي المعالي، وأبي القاسم الأنصاري، وأبي عمرو بن الصلاح، والشرف النووي، والحافظ ابن تيمية، وغيرهم وهم كثيرون فهؤلاء أساطين الإسلام وعمد الدين وكفى للسيوطي أسوة بهؤلاء من جالينوس وأفلاطون وكونه علما برأسه مسلم، ولكن أكثر بحوثه ومسائله فضلة لا يفتقر معرفة الخطاب وفهمه عليها بل أكثرها ترهات وبعضها خوض فيما لا يتعلق بالدين أصلا، فكيف يقال إن تعلمها واجب ونحن نقول إن المطلوب الواجب من العبد من العلوم والأعمال إذا توقف على شيء منها كان ذلك الشيء واجبا وجوب الوسائل، ومعلوم أن ذلك التوقف يختلف باختلاف الأشخاص والألسنة والأذهان وليس لذلك حد مقدر، ولعمري إن الشيطان حريص على إيقاع العبد في أسباب طرق الهلاك لا يفتر يقظة ولا مناما ولا بد له إذا أيس من أن يحول بينه وبين الإيمان الذي هو غاية مراده أن يوقعه في إحدى هؤلاء، إما أن يحرضه على البدعة وهي أحب إليه من المعصية، فإن المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها؛ لأن صاحبها يرى أنه على هدى، وإما أن يشغله بالعمل المفضول عما هو أفضل منه، وإما أن يسلط عليه حزبه يرمونه بالعظام ليشغل قلبه عما هو أهم .

وأيضا فإن اشتغال الفكرة في صدر تحصيله مرض للقلب، وأمراض القلوب أصعب من أمراض الأبدان لأن غاية مرض البدن أن يفضي بصاحبه إلى الموت، وأما مرض القلب فيفضي بصاحبه إلى الشقاء الأبدي، وأين هذا من قوله تعالى: يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ، بل جعل بعضهم الاشتغال به نوعا من الغفلة وبمنزلة عشق الصور الذي سئل عنه بعض العلماء فقال قلوب غفلت عن ذكر الله فابتلاها الله بعبودية غيره، وأنت لا تجد في كتب هؤلاء ذكر الله وذكر رسوله قط ما عدا الخطبة، ولا تجد مجالسهم إلا مشحونة بالجدال المذموم والخصام المنهي عنه والرد والتعبير والطعن والتحقير، ومن مارسهم عرف منهم ذلك، وما كان بهذه المثابة فأحرى أن يبذر في القلب أنواع الأماني والشبهات والشهوات والخيالات فيثمر كل شوك وكل بلاء، ولا يزال يمده بسقيه حتى ينطوي على القلب ويعميه، وليس له دليل أوضح من المعاينة وانظر إلى الحديث: نعوذ بالله من علم لا ينفع. والمنطق لا ينفع صاحبه [ ص: 181 ] نعم في الدنيا؛ لكونه يورث له الجاه والسمعة والرياسة والعلو على الأخوان، وانظر إلى الحديث: من تعلم العلم ليماري به السفهاء أو يجاري به العلماء أو يصرف وجوه الناس إليه لم يرح رائحة الجنة.

وهذه الأوصاف الثلاثة موجودة في المنطق، وأخرج أبو نعيم في الحلية: من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به غرضا من الدنيا لم يشم رائحة الجنة. والمنطق ليس مما يبتغى به وجه الله وإن فرض ذلك لكونه وسيلة فلا يتعلمه الإنسان إلا لإصابة غرض من الدنيا كالجاه والشهرة والرياسة، وهذا في علماء العجم المتأخرين الذي أكبوا على تحصيله ليلا ونهارا وصرفوا نفائس أعمارهم عليه معلوم لا يحتاج إلى برهان، وإن كنت في ريب من ذلك فطالع تراجمهم وأحوالهم ومناظراتهم في مجالس الملوك، وقول السيوطي أنه لا ينفع في التوحيد أصلا فصحيح أيضا، فإنه ليس المراد بقوة الإيمان الحاصل من التوحيد ما كان موثقا بالبراهين المنطقية، كما يوهمه قولهم وإنما هو هجوم العلم بصاحبه على حقيقة الأمر، وعلامته انشراح الصدر لمنازل الإيمان، وانفساحه، وطمأنينة القلب لأمر الله، والإنابة إلى ذكر الله ومحبته، والفوز بلقائه، والتجافي عن دار الغرور، كما في الأثر المشهور: إذا دخل النور القلب انفسح وانشرح، قيل: وما علامة ذلك؟ قال: التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزوله، وهذا هو العلم التام،وهو العاصم من الخطأ في الفكر .

وقال الحافظ الذهبي في زغل العلم: المنطق نفعه قليل وضرره وبيل، وما هو من علوم الإسلام، والحق منه كامن في النفوس الزكية بعبارات غريبة والباطل منه فاهرب منه فإنك تنقطع مع خصمك وأنت تعرف أنك المحق وتقطع خصمك وتعرف أنك على الخطأ، فهي عبارات دهاشة ومقدمات دكاكة، فنسأل الله السلامة، وإن قراءته للفرجة لا للحجة وللدنيا لا للآخرة، فقد عذبت الحيوان وضيعت الزمان والله المستعان. وأما الثواب فتيأس منه ولا تأمن من العقاب إلا بمتاب. اهـ .

واعلم أنه إنما يستعين العالم عند المشكلات في الدين ويحتاج إلى العارف عند شبهات حك الصدور كما قال ابن مسعود - رضي الله عنه- لا يزالون بخير ما إذا حاك في صدر أحدكم شيء وجد من يخبره به ويشفيه منه، وأيم الله أوشك أن لا تجدوا ذلك، وقد حصلت في زمانك هذا في مثل ما خافه ابن مسعود؛ لأن مشكلة لو وردت في معاني التوحيد وشبهة لو اختلجت في صدر مؤمن من معاني صفة الموحد، وأردت كشف ذلك على حقيقة الأمر مما شهده القلب الموفق ويثلج له الصدر المشروح بالهدى لكان ذلك عزيزا في وقتك هذا، فإنك إن استكشفتها من المتكلمين المناطقة الذين هم رؤساء علم التوحيد الآن أفتاك بتصور علمه عن شهادة الموقنين وبقياس معقوله على ظاهر الدين، وهذا شبهة فكيف تنكشف شبهة بشبهة، ولقد أنكر أحمد بن حنبل على الحارث المحاسبي، رحمهما الله تعالى، في الرد على المعتزلة فقال له الحارث: الرد على المبتدعة فرض، فقال له أحمد: نعم، ولكن حكيت شبهتهم أولا ثم أجبت عنها فبم تأمن أن يطالع الشبهة من يتعلق ذلك بفهمه ولا يلتفت إلى الجواب، أو ينظر في الجواب من لا يفهم كنهه، وكذا أنكر على المصنف إذ كشف عن تحقيق مذاهب المبتدعة للرد عليهم وهو ببغداد، وقالوا له: هذا سعي لهم فإنهم كانوا يعجزون عن نصرة مذهبهم بمثل هذه الشبهة لولا تحقيقك، وبالجملةفالاشتغال بالمنطق اشتغال في فضول العلوم وغرائب الفهوم فإن المقصود بشهادة التوحيد الخالصة من خفايا الشرك وشعب النفاق هو حسن الأدب في المعاملة بمعرفة ويقين وذلك هو حال العبد من مقامه بينه وبين ربه -عز وجل- وحظه من مزيد آخرته، والمشتغل به مشتغل بصلاح قالبه وظواهر أحواله عن باطن حاله، وسبب ما بلي به حب الرياسة وطلب الجاه عند الناس والمنزلة بموجب السياسة والرغبة في عاجل الدنيا فأذهب أيامه لأيامهم وأذهب عمره في شهواتهم ليسمى عالما ويكون في قلوب الطالبين عندهم فاضلا، وقد جعل الله لكل عمل عاملا ولكل علم عالما، أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب، كل ميسر لما خلق له، والمشتغل بالمنطق تراه في أكثر مناظراته يتكلم فيما لم يتكلف ويجادل فيما لم ينطق فيه السلف ويتعلم ويعلم ما علمه بتكلف وقد ورد في بعض [ ص: 182 ] الأخبار: الحياء والعي شعبتان من الإيمان، والبذاء والبيان شعبتان من النفاق، وفي بعضها مفسرا والعي عن اللسان لا عن القلب، وفي خبر آخر يبغض البليغ من الرجال الذي يتحلل الكلام بلسانه كما تتحلل البقرة الخلا بلسانها، والخلا الحشيش الرطب، وقال الحافظ الذهبي في النصيحة، وهي رسالة صغيرة أرسلها إلى بعض أصحابه ما نصه: ما أحلى قول الأوزاعي عليك بآثار من سلف ولو رفضك الناس، وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوه لك بالقول، فنبيك -صلى الله عليه وسلم- هو القائل: تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، وخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهم يتنازعون في القدر فكأنه فقئ في وجهه حب الرمان، وقال: أبهذا أمرتم، وذكر الحديث، فمن خاض في علم الكلام والجدل والمراء والمنطق طالبا لحقيقة معرفة حق الله تعالى فقد أخطأ الطريق ومآله إلى ثلاثة أحوال: أردؤها أن يتزلزل إيمانه ويشك فيما كان مستيقنا من التوحيد الفطري والإيمان القرآني، وربما تزندق .

والثاني: أن يتحير ويظلم قلبه ويتنكر عيشه من تلك الشبه الرديئة التي لا تشفي غليلا في الغالب .

والثالث: أنه لا يزداد بها إيمانا قبل النظر فيها فعلم الكلام داء الدين، وعلم السنة دواء الدين، وعلم الذكر والموعظة قوت الدين وحياة الدين، فمن أدخل نفسه في مرض، فإما أن يكون فيه خفة وإما أن يصير جسده دائم العلة، يفيق تارة ويتنكس أخرى، وإما أن يعافى من مرضه فيقوم كما كان رأسا برأس. اهـ .

ثم ذكر اليوسي -رحمه الله تعالى- أنه تلزم السيوطي في جوابه شناعات فذكرها، ومنها: أن هؤلاء العلماء الذين نقل عنهم هذا يلزمه أن لا يثق بنقلهم. إلخ. فالجواب عنه أن مثل هؤلاء الذين نقل عنهم يثق بنقلهم في خصوص ما يتعلق بهذا الفن؛ لأنهم زعماء فيه ولا يوثق بهم في علوم غيره، وكما يوثق بنقل الطبيب في علم الطب ولا يوثق بنقله في غيره، وكما يوثق بنقل بعض المبتدعة تقريرات قواعدهم لأجل الرد عليهم وهذا ظاهر، ولكن شدة التعصب دعت الذابين عن الحق إلى تطويل النزاع، ثم قال: ومنها أن ما يفعله أئمة الأصول والكلام في تأليفهم بتصدير الكتاب بجملة من المنطق، كصاحب المختصر وصاحب الطوالع وغيرهما حرام، ويلزمه أن لا يقرأ شيئا من هذه الكتب أو أن يتخطى ذلك الموضع، فأقول صاحب المختصر والطوالع وأضرابهم إنما صدروا كتبهم بجملة من المنطق لتوقف بعض مسائل كتبهم عليها ولا يمتري أحد منهم أنه من جملة الفلسفة المنهي عن الاشتغال بها فلا يلزم السيوطي إن تخطى تلك الجمل واستفاد من بقية الكتاب فيأخذ منه ما صفا ويدع ما كدر، ولا إن تركهما رأسا فإنه ليس بمأمور في قراءتهما .

فإن قلت: كيف يستفيد من الكتاب مع توقف مسائله على تلك الجمل؟ قلت: يستفيد منه كما يستفيد الإمام الشافعي -رضي الله عنه- الذي هو أول من استنبط علم أصول الفقه أتظن أنه استعان في استنباطه ذلك على البراهين المنطقية أو خلطه حين أملاه بالجمل المنطقية، فتأمل غاية التأمل ودع ما تطابق عليه الناس، والحق أحق أن يتبع، وانظر إلى هؤلاء العلماء المتقنين الذين صنفوا في الإسلام كتبا هي مدار أهل الإسلام وعمدتهم في فنون شتى هل خلط أحد منهم بشيء من الجمل المنطقية وحشا فيه من العلوم الفلسفية، ولا أراك تنكر ذلك فلماذا لا ترجع إلى الحق الصريح ولا تجد في العصر الأول من القرن الرابع والخامس من كان يتكلم فيه إلا القليل ممن أقامه الله لرد المبتدعة وضوال الفرق مع أن هؤلاء الفرق كانت في العصور الأول أكثر من هذا الزمان ومن قبل هذا بكثير، ثم هؤلاء الذين اشتغلوا به لما فرغوا من القدر المحتاج إليه تنصلوا عنه وتباعدوا وانفصلوا وأقبلوا على علوم الآخرة كما هو ظاهر من حال المصنف لمن طالع كتابه المنقذ من الضلال، ومن حال الفخر الرازي وغيره، ومن طالع تراجمهم وأحوالهم ظهر له ما ذكرت .

ثم قال: ومنها أنه يلزمه أن لا يدرك إلا الكتاب والسنة ويحرم ما سواهما، إلخ. فاعلم أن السيوطي لا يجهل أن مدارك العلوم بعد الكتاب والسنة آثار الصحابة والإجماع والقياس مثلا، ولا يفهم من سياقه ما نسبه إليه الشيخ وأعيذه أن يوهمه بمجرد معنى يفهمه من لوازم منطوقه وقوله؛ لأن علم الكلام على منوال المنطق أي: [ ص: 183 ] داخل في حده، ولذلك ذم علم الكلام من ذم، وأخرج الحاكم من رواية الربيع بن سليمان، قال: ناظر رجل الشافعي في مسألة فدقق والشافعي ثابت يجيب ويصيب فعدل الرجل إلى الكلام في مناظرته، فقال له الشافعي هذا غير ما نحن فيه، هذا كلام لست أقول بالكلام واحدة فأخرى ليست المسألة مقلوبة، ثم أنشأ يقول:

متى تعصبت بالباطل الحق يأبه وإن قدت بالحق الرواسي تنقد     إذا ما أتيت للأمر من غير بابه
ضللت وإن تقصد إلى الباب تهتدي

وقال أبو يوسف، رحمه الله: من طلب العلم بالكلام تزندق، وقال الإمام أحمد: العلم إنما هو ما جاء من فوق يعني إلهاما، وقال أيضا علماء أهل الكلام زنادقة وغير ذلك مما سيأتي للمصنف في قواعد العقائد، فإنما ذم الكلام لأجل هذه التهويلات والتشكيكات التي خلطت به حتى صار بعد أن كان شرعيا ملحقا بالفلسفيات، ثم قال وما قصدنا بهذا الكلام تنقيص العلماء ولا اهتضام الجلال، إلخ .

قلت: وهذا كما قال القاضي الحافظ أبو بكر في تاريخه في ترجمة الإمام أبي حنيفة -رحمه الله- ما نصه: قد سقنا عن أيوب السختياني وسفيان الثوري وابن عيينة وأبي بكر بن موسى وغيرهم من الأئمة أخبارا كثيرة تتضمن تقريظ أبي حنيفة والمدح له، والمحفوظ عند نقلة الحديث من أئمة المتقدمين وهؤلاء المذكورين منهم في أبي حنيفة خلاف ذلك وكلامهم فيه كثير لأمور حفظت عليه يتعلق بعضها بأصول الديانات وبعضها بالفروع نحن ذاكروها بمشيئة الله تعالى، ومعتذرون إلى من وقف عليها وكره سماعها، بأن أبا حنيفة عندنا مع جلالة قدره أسوة غيره من العلماء. اهـ .

ولا يخفى أن قصده خلاف ما ذكر من المعذرة، وإنما قصده الشناعة جراءة منه على هذا الشيخ وإني لأتعجب في تقريره كلام المغيلي على تسميته بالفرقان غاية العجب، كيف سماه بأسماء الكتب المنزلة الإلهية، وكذا أنكر على الإمام أبي القاسم الرافعي حين سمى شرحه على الوجيز بالعزيز، ولكن له أسوة بابن سينا حيث سماه رئيس العلوم، وكذا في قوله في قصيدته: ما سمعت بمثله، وهذا يرشدك إلى أن ما بلغه من كلام العلماء المحققين ممن ألف كتبا عديدة وبالغ في ذمه حيث أفهم كلامه السيوطي هو الذي أبدع في الذم وخالف كلمة الإجماع فإنه لو بلغه كلامهم لم يقل ما قال، وإنما كلام السيوطي وتأليفه فيه نقطة في بحر كلام السلف، ولو علم بسبب قيام ابن الصلاح ويوسف الدمشقي وابن تيمية على المصنف لأعذر السيوطي في تقريره مع أن المصنف قد أبدى عذرا لنفسه في كتابه المنقذ من الضلال، وذكر سبب خوضه فيه، ثم التنصل عنه بعد ذلك، ثم قول المغيلي في قصيدته:

ودع عنك ما أبداه كفور وذمه،

ثم قوله: خذ العلم حتى من كفور، مما تمجه الطباع وتنفر عنه الأسماع، وكذا قوله: لئن صح عنهم ما ذكرت، وقول اليوسي: إنه إشارة إلى عدم تسليم صحة ما نقله عجيب، وهل يجوز العقل أن يتلقى كلام الحكماء ومدحهم فيه ومن تمذهب بمذهبهم ولا يسلم نقل حفاظ الإسلام ونقلة العلم وحماة الدين، ويطرح كلامهم رأسا بمرة، فتأمل في هذا المقام غاية التأمل مع الإنصاف ودع الإعساف .

وفصل الخطاب فيه ما قاله المصنف في المنقذ من الضلال فاعتمده، واترك القيل والقال، وهذا نصه بعد أن ذكر أقسام علوم الفلسفة: وأما المنطقيات فلا يتعلق شيء منها بالدين نفيا وإثباتا بل هو نظر في طرق الأدلة والمقاييس وشروط مقدمات البرهان وكيفية تركيبها وشروط الحد الصحيح وكيفية ترتيبها وإن العلم بها إما تصور وسبيل معرفته الحد، وإما تصديق وسبيل معرفته البرهان، وليس في هذا ما ينبغي أن ينكر بل هو من جنس ما ذكره المتكلمون وأهل النظر في الأدلة وإنما يفارقونهم في العبارات والاصطلاحات وبزيادة الاستقصاء في التفريقات والتشعيبات، ومثال كلامهم فيه قولهم: إذا ثبت أن كل (أ) (ب) لزم أن بعض (ب) (أ) فإذا ثبت أن كل إنسان حيوان لزم أن بعض الحيوانات إنسان، ويعبرون عن هذا بأن الموجبة الكلية تنعكس موجبة جزئية، وأي تعلق لهذا بمهمات الدين حتى يجحد وينكر، وإذا أنكر لم يحصل من إنكاره عند أهل المنطق إلا سوء الاعتقاد في عقل المنكر بل في دينه الذي يزعم أنه موقوف على [ ص: 184 ] مثل هذا الإنكار، نعم لهم نوع من الظلم في هذا العلم وهو أنهم يجمعون للبرهان شروطا تعلم أنه يورث علم اليقين لا محالة لكنهم عند الانتهاء إلى المقاصد الدينية ما يمكنهم الوفاء بتلك الشروط، بل يتساهلون غاية التساهل فربما ينظر في المنطق أيضا من يستحسنه ويراه واضحا فيظن أن ما ينقل عنهم من الكفريات مؤيد بتلك البراهين فيستعجل الكفر قبل الانتهاء إلى العلوم الإلهية فهذه الآفة أيضا تتطرق إليه. اهـ. كلامه، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية