إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
فلو لم يكن لك من صلاتك حظ سوى ذكر الله لك في جلاله وعظمته فناهيك بذلك غنيمة فكيف بما ترجوه من ثوابه وفضله وكذلك ينبغي أن تفهم ما تقرؤه من السور كما سيأتي في كتاب تلاوة القرآن فلا تغفل عن أمره ونهيه ووعده ووعيده ومواعظه وأخبار أنبيائه وذكر مننه وإحسانه .

ولكل واحد حق ، فالرجاء حق الوعد والخوف حق الوعيد والعزم حق الأمر والنهي ، والاتعاظ حق الموعظة ، والشكر حق ذكر المنة والاعتبار حق أخبار الأنبياء .

وروي أن زرارة بن أوفى لما انتهى إلى قوله تعالى : فإذا نقر في الناقور خر ميتا وكان إبراهيم النخعي إذا سمع قوله تعالى : إذا السماء انشقت اضطرب حتى تضطرب أوصاله .

وقال عبد الله بن واقد رأيت ابن عمر يصلي مغلوبا عليه وحق له أن يحترق قلبه بوعد سيده ووعيده ، فإنه عبد مذنب ذليل بين يدي جبار قاهر .

وتكون هذه المعاني بحسب درجات الفهم ويكون الفهم بحسب وفور العلم وصفاء القلب .

ودرجات ذلك لا تنحصر .

والصلاة مفتاح القلوب فيها تنكشف أسرار الكلمات فهذا حق القراءة ، وهو حق الأذكار ، والتسبيحات أيضا .


فالصلاة صلة بين العبد وبين الرب، وما كان صلة بينه وبين الله تعالي فحق العبد أن يكون خاشعا لصولة الربوبية على العبودية، (فلو لم يكن لك من صلاتك حظ سوى ذكر الله لك في جلاله وعظمته) لكفى ذلك، وحقيق لك أن تبشر بذلك وتهنأ حيث إنك ذكرت ثم على ما فيك من عوج، (فناهيك بذلك غنيمة) رابحة (فكيف بما ترجوه من ثوابه وفضله) ، وما أعده لك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، (وكذلك ينبغي أن تفهم ما تقرؤه من السور) والآيات المضمومة للفاتحة، (كما سيأتي في كتاب تلاوة القرآن) مفصلا، (فلا تغفل عن أمره ونهيه ووعده ووعيده ومواعظه وأخبار أنبيائه وذكر مننه وإحسانه) وتيسيره (ولكل واحد حق، فالرجاء) والشوق حق الوعد (والخوف) ، والحزن حق الوعيد (والعزم) بالجزم على فعل أو ترك (حق الأمر والنهي، والاتعاظ حق الموعظة، والشكر حق المنة) ، والإحسان والتوفيق حق التيسير، (والاعتبار حق أخبار الأنبياء) عليهم السلام، (وروي أن زرارة بن أوفى) هو العامري الحرثي البصري من التابعين يكنى أبا حاجب، كان من العباد، وثقه النسائي وابن حبان ، قال ابن سعد: مات فجأة سنة ثلاث وتسعين .

(انتهى إلى قوله تعالى: فإذا نقر في الناقور فخر ميتا) .

قلت: أخرجه أبو نعيم في الحلية من وجهين؛ الأول قال: حدثنا أبو بكر بن مالك، حدثنا عبد الله بن أحمد، حدثنا هدبة بن خالد، حدثنا أبو جناب القصاب، واسمه عون بن ذكوان قال: صلى بنا زرارة بن أوفى صلاة الصبح، فقرأ: يا أيها المدثر حتى إذا بلغ: فإذا نقر في الناقور خر ميتا. الثاني [ ص: 152 ] قال: حدثنا أحمد بن عنبر، حدثنا عبد الله بن أحمد، حدثنا روح بن عبد المؤمن، حدثنا غياث بن المثنى القشيري، حدثنا بهز بن حكيم قال: صلى بنا زرارة بن أوفى في مسجد بني قشير، فقرأ: فإذا نقر في الناقور فخر ميتا، فحمل إلى داره، وكنت فيمن حمله إلى داره، (وكان إبراهيم النخعي ) كذا في النسخ، وفي بعضها إبراهيم بن أدهم (إذا سمع قوله تعالى: إذا السماء انشقت اضطرب) اضطرابا شديدا (حتى تضطرب أوصاله) ، أي: مفاصله. (وقال عبد الله بن واقد) ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي المدني روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرسلا، وعن جده، وعنه الزهري، وثقه ابن حبان وقال: مات سنة 119، قال: (رأيت ابن عمر) هو جده عبد الله بن عمر (يصلي مقلوا) أي: على هيئة المقلو على النار، (وحق له أن يحترق قلبه بوعد سيده ووعيده، فإنه عبد ذليل مذنب بين يدي جبار قهار) ، أشار بذلك إلى أن هذا الحال الذي كان يعتريه في صلاته، إنما هو لملاحظته لهذا المعاني، (وتكون هذه المعاني) متفاوتة (بحسب درجات الفهم ويكون الفهم) قويا (بحسب وفور العلم وصفاء القلب) ، والتحقق في المشاهدة، (ودرجات ذلك لا تنحصر، والصلاة) معراج المشاهدين، و (مفتاح) خزائن (القلوب) ، أي: قلوب العارفين، (فيها تنكشف أسرار الكلمات) والحروف، ومنها تكمل المشاهدة لعلام الغيوب .

وحاصل الكلام أن الناس في فهم معاني التلاوة على ثلاث مقامات، أعلاهم من يشهد كلام المتكلم وأوصافه في كلامه، ويعرف أخلاقه بمعاني خطابه، وهذا مقام العارفين من المقربين، ومنهم من يشهد ربه تعالى ويناجيه بألطافه، ويخاطبه بإنعامه وإحسانه، فمقام هذا مقام الحياء والتعظيم، وحاله الإصغاء والفهم، وهذا للأبرار من أصحاب اليمين. ومنهم من يرى أنه هو الذي يناجي ربه تعالى، فمقامه السؤال والتملق، وحاله الطلب والتعلق، وهذا للمتعرفين والمريدين، فإن قصرت مشاهدة التالي مولاه، فليشهد أنه يناجيه بكلامه ويتملقه بمناجاته، فإن الله تعالى إنما خاطبه بلسانه ليفهم عنه بعلمه الذي جعله له، ويعقل عنه بفهمه الذي قسمه له حكمة منه ورحمة .

(فهذا حق القراءة، وهو حق الأذكار، والتسبيحات أيضا) حالها كحالها في التدبر بمعانيها، وفهم ما سيقت لأجلها .

التالي السابق


الخدمات العلمية