إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وأما الأمانة فهي الطهارة باطنا عن الفسق والكبائر والإصرار على الصغائر فالمترشح للإمامة ينبغي أن يحترز عن ذلك بجهده فإنه كالوفد ، والشفيع للقوم فينبغي أن يكون خير القوم .


(وأما الأمانة) المذكورة (فهي الطهارة باطنا عن الفسوق) ، وهو الخروج عن إحاطة العلم ، والطبع ، والعقل ، والفاسق أعم من الكافر ، وأراد بالفسوق هنا الخروج عن الطاعة بارتكاب الذنب ، وإن قل ؛ ولذلك قال : (والكبائر) ، فعطفه عليه ، وفي جمع الجوامع : الكبيرة اسم لكل معصية تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ، ورقة الديانة ، أو كل ما توعد عليه بخصوصه في الكتاب ، أو السنة (والإصرار على الصغائر) ، أي : الإكباب عليها من غير توبة ؛ فهي في حكم الكبائر ، ولفظ القوت : فأول ما عليه من الشروط أن يكون مجتنبا للفسوق ، وهي الكبائر ، غير مصر على الصغائر (فالمترشح للإمامة ينبغي أن يحترز عن ذلك جهده) ، وطاقته ، وقد تقدمت الإشارة إلى كراهة الصلاة خلف الفاسق ، وفي حكمه صاحب الكبائر ، والمبتدع الذي لم يكفر ببدعته ، والمصر ، وإنما صحت خلف هؤلاء لما رواه الشيخان أن ابن عمر كان يصلي خلف الحجاج ، قال الإمام الشافعي : وكفى به فاسقا ، وهكذا ذكر أصحابنا بأن إمامة الفاسق جائزة مع الكراهة ، وثبت أن أنس بن مالك أيضا كان يصلي خلف الحجاج ، إلا أنهم خصوا بها الجمعة لا غير ، ويروى عن الحسن البصري ، قال عمر بن عبد العزيز : لو جاءت كل أمة بخبيثاتها ، وجئنا بأبي محمد - يعني الحجاج - لغلبناهم ، ثم إنه إذا صلى خلف هؤلاء يكون محرزا لثواب الجماعة ، لكن لا ينال ثواب من يصلي خلف تقي صالح ، محترز عن الأوصاف الذميمة (فإنه) ، أي : الإمام (كالوفد ، والشفيع للقوم) عند المستشفع إليه (فينبغي أن يكون خير القوم) ، فالشفيع إذا كان كاملا ، صاحب خير ، ودين ، وورع فإنه ممن تقبل وفادته ، وشفاعته .

(فصل)

ومشايخنا أهل الكشف يجيزون إمامة الفاسق من غير كراهة ، ولم يفرقوا بين الفاسق المقطوع بفسقه ، وبين المظنون فسقه ، وبين المتأول ، وبين غيره ، وقالوا : المؤمن ليس بفاسق أصلا ؛ إذ لا يقاوم الإيمان شيء مع وجوده في محل العاصي ، فإن الفاسق عندهم من خرج عن أصله الذي خلق له ، وهو أن يعبد الله ، فإن العبد لا يمكن له أن يخرج عن أصله الحقيقي ، وهو كونه عبدا ، فإنه لا بد أن يكون عبدا لله ، أو عبدا لهواه ، فما برح من الرق ، فلم يبق خروجه إلا عن الإضافة التي أمر أن ينضاف إليها ، فتجوز إمامته ؛ لأن الموفق من عباد الله يأتم بهذا الفاسق ، فإنه يراه قائما بعبوديته في حق هواه الذي فيه شقاؤه ، فيتعلم منه استيفاء حق العبودية التي أمره الله أن يكون بها عبدا له ، فيقول أنا أولى بهذه الصفة في حق الله من هذا العبد في حق هواه ، فلما رأينا أولياء الله كأنس ، وابن عمر يأتمون به ، وينفعهم ذلك عند الله ، ويكون هذا الاقتداء سببا لنجاتهم صحت إمامته من غير كراهة ، فكل من آمن بالله ، وقال بتوحيد الله في ألوهيته ، فالله أجل أن يسمي هذا فاسقا حقيقة مطلقا ، وإن سمي لغة بخروجه عن أمر معين ، وإن قل ، والمعاصي لا تؤثر في الإمامة ما دام لا يسمى كافرا . وأما الفسق المظنون فبعيد عن المؤمن إساءة الظن ، بحيث أن يعتقد فسوق زيد بالظن لا يقع في ذلك مؤمن مرضي الإيمان عند الله ، وهذا كله في الأحوال الظاهرة ، وأما الباطنة فذلك إلى الله ، أو من أعلمه الله . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية