إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
فيتخذ من تلك الجواهر هيكل على صورة الشخص المسحور ويرصد به وقت مخصوص من المطالع وتقرن به كلمات يتلفظ بها من الكفر والفحش المخالف للشرع ويتوصل بسببها إلى الاستعانة بالشياطين ويحصل من مجموع ذلك بحكم إجراء الله تعالى العادة أحوال غريبة في الشخص المسحور ومعرفة هذه الأسباب من حيث إنها معرفة ليست بمذمومة ولكنها ليست تصلح إلا للإضرار بالخلق والوسيلة إلى الشر شر فكان ذلك هو السبب في كونه .علما مذموما بل من اتبع وليا من أولياء الله ليقتله وقد اختفى منه في موضع حريز إذا سأل الظالم عن محله لم يجز تنبيهه عليه بل وجب الكذب فيه وذكر موضعه إرشاد وإفادة علم بالشيء على ما هو عليه ولكنه مذموم لأدائه إلى الضرر .


(فيتخذ من ذلك الجواهر هيكل على صورة الشخص المسحور ويترصد له وقت مخصوص في طالع) مخصوص وفي بعض النسخ: من المطالع (وتقرن به) أي: عند عمله (كلمات) أعجمية لا يعرف معناها (يتلفظ بها) لقهر الملائكة الموكلة بهذه الأسماء على فعل ما أقسم به المقسم وتلك الكلمات لا تخلو (من الكفر) الصريح (والفحش المخالف للشرع) كما هو صريح في قسم دعوة الزهرة في كتاب السر المكتوم للرازي، ويستثنى من ذلك ما ثبت صحته بمعنى الأسماء الحسنى، عن كبار المشايخ الكاملين المقطوع لهم بالولاية مع العلوم الشرعية، كما ورد في اهيا اشراهيا اذوناى اصبات آل شداي هما وخيم، والأسماء التي في أول الدائرة الشاذلية وهي: طهور يدعى محببه صوره محببه سقفا طين سقاطيم أهون وأدم حم هاء آمين، والأسماء التي في أثناء حزب سيدي إبراهيم الدسوقي قدس سره، والبرهتية المسماة بالعهد السليماني وأمثالها (ويتوصل بسببها إلى الاستعانة بالشياطين) فيقهر بها الملائكة الموكلة بتلك الأسماء ثم إن لهم في السحر طرقا مختلفة، فطريق الهند بتصفيفة النفوس بأنواع الرياضات وحبس الأنفاس، وطريق النبط بعمل العزائم في الأوقات المناسبة لها، وطريق اليونان بتسخير روحانية الأفلاك والكواكب، وطريقة العبرانيين والقبط والعرب بذكر الأسماء التي تقدم ذكرها، ولكل هؤلاء مؤلفات، فمن المشهورات على طريقة العبرانيين الإيضاح والبساتين في استخدام الإنس والجن والشياطين، وبغية الناشد ومطلب القاصد، وعلى طريقة اليونانيين رسائل أرسطو وغاية الحكيم للمجريطي وكتاب طيماوس وكتاب الوقوفات، وعلى طريقة الهند والنبط القماعيل الكبير والقماعيل الصغير، ومراتب المعاني والبرهان، وعلى طريقة القبط والعرب عالم المعاني في إدراس العالم الإنساني، وحقيقة المعارف، وأسرار الأجرام، وبهجة النفوس، وغاية الأمل، والمقصد الأتم، وسرور النفوس، وغير ذلك (ويحصل من مجموع ذلك) مما ذكرناه (الحكم بإجراء الله تعالى العادة أحوال غريبة في الشخص المسحور) تحير لها الأفكار وتتلاشى منها العقول وكل ما كان ويكون بقضاء الله تعالى وقدره يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ويرضى، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون (ومعرفة هذه الأسباب من حيث إنها معرفة ليست مذمومة) إذا احترز عن العمل بها إلا إن قام شقي ساحر يدعي النبوة ويظهر بقوة السحر أمورا خارقة يقول هذه معجزتي على النبوة، فعند ذلك يفترض وجود شخص قادر لدفعه بالعمل [ ص: 219 ] ولذلك قال بعض العلماء: تعلم العلم خير من جهله، ومن تعلمه بقصد دفع الضرر كان ذلك في حقه فرض كفاية (ولكنها) أي: تلك المعرفة (ليست تصلح إلا للإضرار بالخلق) غالبا وهو حرام (والوسيلة إلى الشر شر) أي: ما يتوسل به إلى الشر شر (فكان ذلك هو السبب في كونه مذموما) وقد وردت في ذمه أحاديث ما بين صحاح وحسان، فمنها ما أخرجه البخاري في صحيحه: عن أبي هريرة: اجتنبوا الموبقات ; الشرك بالله، والسحر. وفي رواية مسلم وأبي داود والنسائي: اجتنبوا السبع الموبقات: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات. والموبقات هي المهلكات .

وقول التاج السبكي: الموبقة أخص من الكبيرة وليس في حديث أبي هريرة أنها الكبائر، تعقبه الحافظ ابن حجر بالرد قال المناوي: السحر إن اقترن بكفر فكفر وإلا فكبيرة عند الشافعي، وكفر عند غيره وتعلمه إن لم يكن لذب السحرة عند نشره حرام، عند الأكثر وعلى ذلك يحمل قول الإمام الرازي في تفسيره: اتفق المحققون على أن العلم بالسحر ليس بقبيح ولا محذور; لأن العلم شريف ولعموم هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ; ولأن السحر لو لم يعلم لما أمكن الفرق بينه وبين المعجزة، والعلم بكون المعجز معجزا واجب، وما يتوقف عليه الواجب واجب قال فهذا يقتضي كون العلم به واجبا، وما يكون واجبا فكيف يكون حراما أو قبيحا. اهـ .

(بل من اتبع وليا من أولياء الله تعالى ليقتله وقد اختفى منه في موضع حريز) أي: منيع (إذا سأله الظالم عن محله) الذي هو فيه (لم يجز تنبيهه عليه) وتعريفه إياه (بل يجب الكذب في ذلك) للمصلحة الشرعية (وذكر موضعه) له (إرشاد) في الظاهر وصدق (وإفادة علم بالشيء على ما هو عليه ولكنه مذموم لأدائه إلى الضرر) بقتل الرجل الصالح، وأخرج ابن عساكر في تاريخه في ترجمة ميمون بن مهران من رواية ابن أبي الدنيا، حدثني أبي، حدثنا إسماعيل بن علية، أخبرنا سوار بن عبد الله قال: بلغني أن ميمون بن مهران كان جالسا وعنده رجل من قراء الشام فقال: إن الكذب في بعض المواطن خير من الصدق، فقال: الصدق في كل موطن خير، فقال ميمون: أرأيت لو رأيت رجلا يسعى وآخر يتبعه بالسيف فدخل الدار فانتهى إليك فقال: أرأيت الرجل ما كنت قائلا؟ قال: كنت أقول: لا، قال: فذاك. اهـ .

وقول الشيخ بل يجب الكذب في ذلك هو أحد المواضع التي تكلموا عليه فيه ونحن نبين لك حاصل ما قاله المحققون، أخرج البخاري في صحيحه من طريق الزهري، أن حميد بن عبد الرحمن، أخبره أن أمه أم كلثوم بنت عقبة أخبرته، أنها سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يقول: ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا أو يقول خيرا. وزاد مسلم في هذا الحديث قال: ولم أسمعه يرخص في شيء مما تقول الناس إلا في ثلاث: في الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها. وجعل يونس ومعمر هذه الزيادة عن الزهري.

قال الخطيب: القول قولهما والحق معهما وذكره أيضا موسى بن هارون، وقال آخر: حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أو يقول خيرا، يعني كما عند البخاري، وللترمذي: لا يحل الكذب إلا في ثلاث: يحدث الرجل امرأته ليرضيها، والكذب في الحرب، والكذب ليصلح بين الناس. قال ابن الملقن، قال الطبري: واختلف العلماء في ذلك فقال طائفة: الكذب المرخص فيه في هذه الثلاث هو جميع معاني الكذب وحمله قوم على الإطلاق، وأجازوا قول ما لم يكن في ذلك لما فيه من المصلحة، فإن الكذب المذموم إنما هو فيما فيه مضرة للمسلمين، وقال آخرون: لا يجوز الكذب في شيء من الأشياء ولا الخبر عن شيء بخلاف ما هو عليه، وما جاء في هذا إنما هو على التورية، وروى مجاهد عن أبي معمر عن ابن مسعود: قال لا يصلح الكذب في جد ولا هزل، وقال آخرون: بل الذي رخص فيه هو المعاريض وهو قول سفيان وجمهور العلماء، وقال المهلب: ليس لأحد أن يعتقد إباحة الكذب وقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الكذب نهيا مطلقا وأخبر أنه بجانب الإيمان فلا يجوز استباحة شيء منه، وإنما أطلق عليه الصلاة والسلام للصلح بين الناس [ ص: 220 ] أن يقول: ما علم من الخير بين الفريقين ويسكت عما سمع من الشر بينهم، وبعد أن يسهل ما صعب ويقرب ما بعد، لا أنه يخبر بالشيء على خلاف ما هو عليه; لأن الله قد حرم ذلك ورسوله، وكذلك الرجل يعد المرأة يمنيها وليس هذا من طريق الكذب؛ لأن حقيقة الكذب الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه، والوعد لا يكون حقيقة حتى ينجز، والإنجاز مرجو في الاستقبال فلا يصلح أن يكون كذبا وكذلك في الحرب إنما يجوز فيها لمعاريض، والإيهام بألفاظ تحتمل وجهين يؤدي بهما عن أحد المعنيين ليغر السامع بأحدهما عن الآخر وليس حقيقة الإخبار عن الشيء بخلافه وضده .

قال الطبري: والصواب من ذلك قول من قال: الكذب الذي أذن فيه الشارع هو ما كان تعريضا ينحو به نحو الصدق، وأما صريح الكذب فهو غير جائز لأحد، كما قال ابن مسعود لما روى عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، في تحريمه والوعيد عليه، وأما ما رواه الأعمش عن عبد الملك بن ميسرة عن النزال بن سبرة قال: كنا عند عثمان وعنده حذيفة، فقال له عثمان: بلغني عنك أنك قلت: كذا وكذا، فقال حذيفة: والله ما قلته، قال: وقد سمعناه قال ذلك، فلما خرج قلنا له أليس قد سمعناك تقوله؟ قال: بلى، قلنا: فلم حلفت؟ قال: إني أشتري ديني بعضه ببعض مخافة أن يذهب كله، فهذا خارج من معاني الكذب الذي روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه أذن فيها، وإنما ذلك من جنس إحياء الرجل نفسه عند الخوف كالذي يضطر إلى الميتة ولحم الخنزير فيأكل ليحيي نفسه، وكذلك الخائف له أن يخلص نفسه ببعض ما حرم الله عليه وله أن يحلف على ذلك ولا حرج عليه ولا إثم، وقال الراغب في الذريعة: ذهب كثير من المتكلمين أن الصدق يحسن لعينه والكذب يقبح لعينه، وقال كثير من الحكماء والمتصوفة أن الكذب يقبح لما يتعلق به من المضار الحاصلة والصدق يحسن لما يتعلق به من المنافع الحاصلة، وذلك أن الأقوال من جملة الأفعال، وشيء من الأفعال لا يحسن ولا يقبح لذاته بل إنما يحسن ما يحسن لما يتعلق به في النفع .

قالوا: الكذب إنما يقبح بثلاث شرائط: أن يكون الخبر بخلاف المخبر عنه، وأن يكون المخبر قد اختلقه قبل الإخبار به، وأن لا يقصد إيراد ما في نفسه لاندفاع ضرر أعظم من ضرر ذلك الكذب مع شرط أن لا يمكن الوصول إلى ذلك النفع بغيره، ومع أنه إذا ظهر كان للكاذب عذر واضح عاجلا وآجلا قالوا: ولا يلزم على هذا أن يقال: جوزوا الكذب فيما يرجى منه نفع دنيوي فالمنفعة الدنيوية، ولو كانت ملك الدنيا بحذافيرها لا توفي على ضرر هذا، بل الذي قلناه يتصور في نفع أخروي يكون الإنسان فيه عاجلا وآجلا معذورا كمن سألك عن مسلم استتر في دارك وهو يريد قتله فيقول: هل فلان في دارك؟ فتقول: لا، فهذا يجوز فإن نفع هذا الكذب موف على ضرره، وهو فيه معذور وأما الصدق فإنه يحسن حيث يتعلق به نفع ولا يلحق ضرر بأحد فمعلوم قبح النميمة والغيبة والسعاية، وإن كانت صدقا فاتضح بما ذكرناه صحة قول الشيخ -رحمه الله تعالى- ولا عبرة بجمهور المخالفين له فيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية