إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الوظيفة الثالثة أن يقرأ في الصبح سورتين من المثاني ما دون المائة فإن الإطالة في قراءة الفجر والتغليس بها سنة ، ولا يضره الخروج منها مع الإسفار ولا بأس بأن يقرأ في الثانية بأواخر السور نحو الثلاثين أو العشرين ، إلى أن يختمها لأن ذلك لا يتكرر على الأسماع كثيرا فيكون أبلغ في الوعظ وأدعى إلى التفكر وإنما كره بعض العلماء قراءة بعض أول السور ، وقطعها .

وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قرأ بعض سورة يونس ، فلما انتهى إلى ذكر موسى وفرعون قطع فركع وروي أنه صلى الله عليه وسلم قرأ في الفجر آية من البقرة ، وهي قوله : قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا ، وفي الثانية ربنا آمنا بما أنزلت وسمع بلالا يقرأ من ههنا وههنا ، فسأله عن ذلك ، فقال : أخلط الطيب بالطيب ، فقال : أحسنت .


(والثالثة) من وظائف القراءة (أن يقرأ في) صلاة (الصبح سورتين من المثاني) ، وهي (ما دون المائة) ، وفي بعض النسخ زيادة فما دون ذلك (فإن الإطالة في قراءة الفجر ) ، ولو قال : في صلاة الفجر - كما هو لفظ القوت - كان أولى ليصبح مرجع الضمير في قوله : (والتغليس بها) ، أي : بصلاة الفجر ، فإن جعلنا القراءة بمعنى الصلاة (سنة ، ولا يضره الخروج منها مع الإسفار) إذا كان قد دخل فيها ، والاختيارات لا تؤخر إلى الإسفار ، كما في المنهاج ، وبه قال مالك ، وأحمد في رواية أخرى عنه أنه يعتبر حال المصلين ، فإن شق عليهم التغليس

[ ص: 199 ] كان الإسفار أفضل ، وإن اجتمعوا كان التغليس أفضل ، وقال أبو حنيفة : الإسفار أفضل مطلقا إلا بالمزدلفة للحاج لو أحب الوقوف بعده بها ، كما هو في حق النساء دائما ؛ لأنه أقرب للستر ، ومما يدل لما ذهب إليه الإمام قوله - صلى الله عليه وسلم - : أسفروا بالفجر ، فإنه أعظم للأجر . أخرجه الترمذي ، وقال : حسن صحيح ، وفي حديث آخر : نوروا بالفجر . هو اختيار جماعة من الصحابة ، ومن بعدهم ، وهو الذي كان يميل إليه الحافظ ابن حجر ، ويختاره لقوة دليله ، كما وجدته في الجواهر ، والدرر للحافظ السخاوي بخطه ، وظاهر الرواية المستحب البداءة بالإسفار كالختم ؛ لأن ظاهر أسفروا بالفجر يفيد إيقاع جميعها في الوقت الذي ينتشر فيه ضوء الفجر ؛ لأن الصلاة اسم لمجموعها ، فيقتضي إدخال مجموعها فيه ، وفي رواية عن محمد بن الحسن أن يدخل مغلسا ، ويخرج مسفرا ، ويروى عن الطحاوي أنه من عزم على تطويل القراءة ، فالتغليس أفضل ، وليختم مسفرا . والله أعلم .

وأورد صاحب القوت حديثا عن عائشة - رضي الله عنها - : فرضت الصلاة ركعتين ، ثم زيد في كل صلاة ركعتان إلا المغرب ، فإنها وتر النهار ، وصلاة الصبح لأجل طول القيام (ولا بأس) للإمام (يقرأ في الثانية) في ركعتي الصبح (بأواخر السور) من (نحو الثلاثين ، والعشرين آية إلى أن يختمها) ، أي : تلك الآيات إلى أواخرها ، وذلك عند انتهاء السور (لأن ذلك لا يتكرر على الأسماع كثيرا) ، أي : يبعد طروقها عليها لكثرة الاعتبار لتلاوة السور القصار (فيكون أبلغ في الوعظ وأدعى إلى التفكير) ، وأدنى إلى الانتفاع ، وفي ذلك مزيد تذكرة ، وفضل تبصرة (وإنما كره بعض العلماء قراءة بعض أول السور ، وقطعها) ، ولفظ القوت : وإنما يكره أن يقرأ من أولها كذلك ، ثم يقطع ، ويقرأ من وسطها ، ثم يركع قبل أن يختمها هو الذي كرهه العلماء ، وليس لقائل أن يقول : هذا بدعة ؛ لأن البدعة لا يقال إلا لما كان فيه ترك سنة ، وهذا هو المطلق المباح لعموم قوله تعالى : فاقرءوا ما تيسر من القرآن ، وقوله تعالى : وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ، فهذا أقرب للذكرى أمر به لقرب طروقه السمع ، ولقوله - عز وجل - : وافعلوا الخير ، ولقوله تعالى : فمن تطوع خيرا فهو خير له ، فهذه أدلة العموم ، وهو على الإطلاق ؛ إذ لم يخص بتحريم ، وليس فيه ترك سنة فيوصف ببدعة ، كيف (وقد روي أنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ بعض سورة يونس ، فلما انتهى إلى ذكر موسى ) - عليه السلام - (وفرعون ) أخذته سعلة (قطع) ، أي : القراءة (فركع) . هكذا هو في القوت ، وقال العراقي : رواه مسلم ، عن عبد الله بن السائب ، وقال : سورة المؤمنين ، وقال : موسى وهارون ، وعلقه البخاري . أهـ .

قلت : لفظ البخاري : ويذكر عن عبد الله بن السائب : قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - المؤمنون في الصبح حتى إذا جاء ذكر موسى وهارون ، أو ذكر عيسى أخذته سعلة ، فركع . ووصله مسلم من طريق ابن جريج ، وعند ابن ماجه : فلما بلغ ذكر عيسى وأمه أخذته شهقة ، أو شرقة (وقد روي) أنه - صلى الله عليه وسلم - (قرأ في) الأولى من ركعتي (الفجر آية من) سورة (البقرة ، وهي قوله تعالى : قولوا آمنا بالله ) ، وما أنزل إلينا (الآية ، وفي) الركعة (الثانية) من سورة آل عمران ( ربنا آمنا بما أنزلت ) ، واتبعنا الرسول الآية ، وزاد في القوت : وفي رواية أنه قرأ فيها شهد الله الآية .

قال العراقي : روى مسلم من حديث ابن عباس كان يقرأ في ركعتي الفجر في الأولى منهما قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا الآية التي في البقرة ، والآخرة منهما آمنا بالله و واشهد بأنا مسلمون ، ولأبي داود من حديث أبي هريرة في الأولى قل آمنا بالله وما أنزل علينا ، وفي الركعة الأخيرة ربنا آمنا بما أنزلت ، أو إنا أرسلناك بالحق . أهـ .

والصحيح أنه يقرأ في الأولى آية البقرة المارة ، وفي الثانية آية آل عمران ، وهي : قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم الآية (وسمع) - صلى الله عليه وسلم - (بلالا) الحبشي المؤذن (يقرأ) القرآن ، أي : في الصلاة (من ها هنا ، وها هنا ، فسأله عن ذلك ، فقال : أخلط الطيب بالطيب ، فقال : أحسنت) ، كذا هو في القوت ، إلا أنه قال : فلم ينكر عليه بدل قوله : أحسنت ، وفي بعض نسخ القوت : أحسنت ، أو أصبت ، وقال العراقي : رواه أبو داود من حديث أبي هريرة بإسناد صحيح نحوه . أهـ .

التالي السابق


الخدمات العلمية