إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
فيصلي النافلة في موضع آخر .

فإن كان خلفه نسوة لم يقم حتى ينصرفن وفي الخبر المشهور أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يقعد إلا قدر قوله : اللهم أنت السلام ، ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام .


(ويصلي) الإمام ، وكذلك المأموم (النافلة بعد) الأوراد (في موضع آخر) ، وفي نسخة : فيصلي كما تقدم ؛ أي : لا يصلي النافلة في مكان الفرض لئلا يشتبه على من جاء بعد السلام ، وقد روي عن المغيرة بن شعبة ، كما رواه أبو داود بسند منقطع بلفظ : لا يصلي الإمام في الموضع الذي صلى فيه حتى يتحول عن مكانه ، ولابن أبي شيبة بإسناد حسن ، عن علي قال : من السنة أن لا يتطوع الإمام حتى يتحول عن مكانه ، ولكن ذكر البخاري في باب مكث الإمام في مصلاه بعد السلام ، عن آدم بن أبي إياس ، حدثنا شعبة ، عن أيوب ، عن نافع قال : كان ابن عمر يصلي في مكانه الذي صلى فيه الفريضة ، وفعله القاسم ، ويذكر عن أبي هريرة رفعه : لا يتطوع [ ص: 209 ] الإمام في مكانه ، ولم يصح . أهـ .

ورواه ابن أبي شيبة من وجه آخر ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر أنه كان يصلي سبحته مكانه ، وما ذكره عن القاسم ، وهو ابن محمد بن أبي بكر ، وصله ابن أبي شيبة ، وما ذكره عن أبي هريرة ، وقال : لم يصح ؛ لضعف إسناده واضطرابه تفرد به ليث بن أبي سليم ، وهو ضعيف ، واختلف عليه فيه هذا الذي ذكر في حق الإمام ، والأحسن للمأموم عندنا أيضا أن ينتقل من مكانه لما روي عن محمد بن الحسن أنه قال : يستحب للقوم أيضا أن ينقضوا الصفوف ، ويتفرقوا ليزول الاشتباه عن الداخل المعاين ، ولاستكثاره من شهوده لما روي أن مكان المصلي يشهد له يوم القيامة ، كذا في البدائع (فإن كان خلفه نسوة) حضرن الصلاة (لم يقم حتى ينصرفن) ، أي : يقمن من مواضعهن ، ويرجعن إلى منازلهن .

وأخرج البخاري من حديث أم سلمة قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سلم قام النساء حين يقضي تسليمه ، ومكث يسيرا قبل أن يقوم .

قال الزهري : فأرى - والله أعلم - أن مكثه لكي ينفذ النساء قبل أن يدركهن من انصرف من القوم (وفي الخبر المشهور) الذي أخرجه مسلم ، والترمذي من حديث عائشة - رضي الله عنها - (أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يقعد إلا قدر ما يقول : اللهم أنت السلام ، ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام ) هو مروي بالمعنى ؛ إذ لفظ مسلم : كان يقعد مقدار ما يقول : اللهم أنت السلام ، ومنك السلام ، وإليك يعود السلام ، تباركت يا ذا الجلال ، والإكرام ، ثم يقوم إلى السنة ، ولفظ الترمذي : كان إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول . . . ، ثم ساقه كما عند المصنف . أهـ . والمراد بالمشهور المعنى اللغوي لا مصطلح أهل الحديث .

(تنبيه) :

قال شمس الأئمة الحلواني من أصحابنا : لا بأس بقراءة الأوراد بين الفريضة والسنة . قال ابن الهمام في معنى هذا الكلام : وإنما قال : لا بأس ؛ لأن المشهور من هذه العبارة استعمالها فيما يكون خلافه أولى منه ، فكان معناها أن الأولى أن لا يقرأ الأوراد قبل السنة ، فلو فعل لا بأس به ، فلا تسقط بقراءته ذلك إذا صلاها بعد الأوراد تقع سنة مؤداة لا على وجه السنة . أهـ .

وقال في الاختيار شرح المختار : كل صلاة بعدها سنة يكره القعود بعدها ، والدعاء ؛ بل يشتغل بالسنة ، وأورد حديث عائشة السابق ذكره ، ثم قال : أي : فيندب الفصل بهذا لهذا . أهـ .

قال ابن الهمام : فمن ادعى فصلا أكثر مما ذكر في حديث عائشة ، فلينقله ، ولا يقتضي الأكثر ما ورد من أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقول دبر كل صلاة : لا إله إلا الله وحده لا شريك له . . . إلخ ، والحديث الوارد في الأمر لفقراء المهاجرين بالتسبيح ، وأخواته دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين إلى غير ذلك ؛ لأنه لا يقتضي وصل هذه الأذكار بالفرض ؛ بل كونها عقب السنة من غير اشتغال بما ليس من توابع الصلاة ، فصح كونها دبرها ، ثم قال ابن الهمام : والحاصل أنه لم يثبت عنه - عليه السلام - الفصل بالأذكار التي يواظب عليها في المساجد في عصرنا من قراءة آية الكرسي ، والتسبيح ، وأخواته ثلاثا وثلاثين ، وغيرها ؛ بل ندب هو إليها ، والقدر المتحقق أن كلا من السنن ، والأوراد نسبة إلى الفرائض بالتبعية ، والذي ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - هو ما روته عائشة عند مسلم ، والترمذي ، وتقدم ذكره قال : فهو نص صريح في المراد ، وما يتخايل منه أنه يخالفه لم يقو قوته ، فوجب اتباع هذا النص .

واعلم أن المذكور في حديث عائشة هذا لا يستلزم سنية هذا اللفظ بعينه دبر كل صلاة ؛ إذ لم تقل : حتى يقول ، وإلا أن يقول : فيجوز كونه - صلى الله عليه وسلم - كان مرة يقوله ، ومرة يقول غيره من قوله : لا إله إلا الله وحده لا شريك له . . . إلخ ، ومقتضى العبارة حينئذ أن السنة أن يفصل بين الفرض والسنة بذكر قدر ذلك ، وذلك يكون تقريبا ، فقد يزيد ، وقد ينقص قليلا ، وقد يدرج ، وقد يترسل ، فأما ما يزيد مثل آية الكرسي ، وعدد التسبيحات ، فينبغي استنان تأخيرها ، عن السنة ألبتة على أن ثبوت مواظبته - صلى الله عليه وسلم - عليه لا أعلمه ؛ بل الثابت عنه ندبه إلى ذلك ، ولا يلزم من ندبه إلى شيء مواظبته عليه ، وإلا لم يفرق حينئذ بين السنة ، والمندوب ، وعندي قول الحلواني حكم آخر لا يعارض القولين يفيد عدم سقوط السنة بقراءة الأوراد بين الفرض والسنة فقط . أهـ .

(تنبيه آخر) :

قال ابن نجيم من علمائنا في البحر : إذا تكلم بكلام كثير ، أو أكل ، أو شرب [ ص: 210 ] بين الفرض والسنة نقص ثواب السنة ، ولا تبطل هو الأصح ؛ ولذا لو أخر السنة بعد الفرض ، ثم أداها في آخر الوقت لا تكون سنة ، وقيل : تكون سنة ، والأفضل في السنن أداؤها في المنزل إلا التراويح ، وقيل : إن الفضيلة لا تختص بوجه دون وجه ، وهو الأصح ، ولكن كل ما كان أبعد من الرياء ، وأجمع للخشوع ، والإخلاص هو الأفضل ، كذا في النهاية .

التالي السابق


الخدمات العلمية