إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الثالث : العدد ، فلا تنعقد بأقل من أربعين ذكورا مكلفين أحرارا مقيمين لا يظعنون عنها شتاء ، ولا صيفا فإن انفضوا حتى نقص العدد إما في الخطبة أو في الصلاة لم تصح الجمعة ؛ بل لا بد منهم من الأول إلى الآخر .


الشرط (الثالث : العدد ، فلا تنعقد) الجمعة (بأقل من أربعين) هذا هو المذهب الصحيح المشهور ، ونقل صاحب التلخيص قولا عن القديم أنها تنعقد بثلاثة : إمام ، ومأمومين ، ولم يثبته عامة الأصحاب . قاله النووي ، وكونها تنعقد بأربعين هو المشهور عن أحمد من رواياته ، وعنه منه تنعقد بخمسين ، وقال مالك : تنعقد بكل عدد تتقرى به قرية في العادة ، ويمكنهم الإقامة ، ويكون بينهم البيع ، والشراء من غير حصر ، إلا أنه منع ذلك في الثلاثة ، والأربعة ، وشبههم ، وعند أصحابنا الجماعة شرط لأدائها ، وهم ثلاثة رجال سوى الإمام ، وهو قول أبي حنيفة ، ومحمد ، وبالإمام عند أبي يوسف ؛ لأن الاثنين مع الإمام جمع ، ولهما أن الجماعة شرط على حدة ، والإمام شرط آخر ، فيعتبر جمع سوى الإمام . والله أعلم .

ويشترط في الأربعين أن يكونوا (ذكورا مكلفين أحرارا مقيمين) على سبيل التوطن بأن (لا يظعنون عنها) ، أي : لا يرحلون عنها (شتاء ، ولا صيفا) إلا لحاجة ، فلو كانوا ينزلون في ذلك الموضع صيفا ، ويرتحلون شتاء ، أو عكسه ، فليسوا بمستوطنين ، فلا تنعقد بهم ، وفي انعقادها بالمقيم الذي يجعل الموضع وطنا له خلاف ، والصحيح عدمه ، وتنعقد بالمرضى على المشهور ، وفي قول شاذ لا تنعقد بهم كالعبيد ، فعلى هذا صفة الصحة شرط رابع ، ثم الصحيح أن الإمام من جملة الأربعين .

والثاني أنه يشترط أن يكون زائدا على الأربعين ، وحكى الروياني الخلاف قولين ؛ الثاني قديم ، والعدد المعتبر في الصلاة ، وهو الأربعون معتبر في سماع الكلمات الواجبة من الخطبتين (فإن) حضر العدد ، ثم (انفضوا) كلهم ، أو بعضهم (حتى نقص العدد) بأن بقي دون أربعين ، فإما ينفضون قبل الخطبة ، و (إما في الخطبة) ، أو بعدها (أو في الصلاة) ، فإن انفضوا قبل افتتاح الخطبة لم يبتدئها حتى يجتمع أربعون ، وإن كان في أثنائها ، فلا خلاف أن الركن المأتي به في غيبتهم غير محسوب . أما إذا أحرم بالعدد المعتبر ، ثم حضر أربعون آخرون ، وأحرموا ، ثم انفض الأولون ، فلا يضر ؛ بل يتم الجمعة ، سواء كان اللاحقون سمعوا الخطبة أم لا . وأما إذا انفضوا فنقص العدد في باقي الصلاة ، ففيه خمسة أقوال منصوصة ، ومخرجة أظهرها (لم تصح الجمعة ؛ بل لا بد منهم من الأول إلى الآخر) ، فعلى هذا لو أحرم الإمام ، وتبطأ المقتدون ، ثم أحرموا ، فإن تأخر تحرمهم عن ركوعه ، فلا جمعة ، وإن لم يتأخروا عن ركوعه ، فقال القفال : تصح الجمعة ، وقال الشيخ أبو محمد : يشترط أن لا يطول الفصل بين إحرامه وإحرامهم ،

[ ص: 221 ] وقال إمام الحرمين : الشرط أن يتمكنوا من إتمام الفاتحة ، فإذا حصل ذلك لم يضر الفصل ، وهذا وهو الأصح عند الغزالي ، والقول الثاني : إن بقي اثنان مع الإمام أتم الجمعة ، وإلا بطلت . الثالث : إن بقي معه واحد لم تبطل ، وهذه الثلاثة منصوصة ، الأولان في الجديد ، والثالث قديم ، ويشترط في الواحد ، والاثنين كونهما بصفة الكمال ، وقال صاحب التقريب : في اشتراط الكمال احتمال ؛ لأنا اكتفينا باسم الجماعة ، وقال النووي : هذا الاحتمال حكاه صاحب الحاوي وجها محققا لأصحابنا حتى لو بقي صبيان ، أو صبي كفى ، والصحيح اشتراط الكمال . قال في النهاية : احتمال صاحب التقريب غير معتد به ، والرابع لا تبطل ، وإن بقي وحده ، والخامس : إن كان الانفضاض في الركعة الأولى بطلت الجمعة ، وإن كان بعدها لم تبطل ، ويتم الإمام الجمعة وحده ، وكذا من معه إن بقي معه أحد .

(فصل)

وعند أصحابنا الشرط لانعقاد أدائها بالثلاثة بقاؤهم محرمين مع الإمام حتى يسجد السجدة الأولى ، فإن انفضوا بعد سجوده أتمها وحده جمعة ، هذا قول أبي حنيفة ، وصاحبيه ، وقال زفر : ويشترط دوامهم كالوقت إلى تمامها ، وإن انفضوا كلهم ، أو بعضهم ، ولم يبق سوى اثنين قبل سجود الإمام بطلت عند أبي حنيفة ، وعندهما إذا انفضوا جميعا يتمها جمعة ؛ لأن الجماعة شرط انعقاد الأداء عنده ، وعندهما شرط انعقاد التحريمة لهما أن الجماعة كما كانت شرطا لانعقاد التحريمة في حق المقتدي ، فكذا في حق الإمام ، والجامع إن تحريمته صحت صح بناء الجمعة عليها لمن أدركها في التشهد ، ولأبي حنيفة أن الجماعة في حق الإمام لو جعلت شرطا لانعقاد التحريمة لأدى إلى الحرج ؛ لأن تحريمته حينئذ لا تنعقد بدون مشاركة الجماعة إياه فيها ، وذا لا يحصل إلا أن تقع تكبيرتهم مقارنة لتكبيرته ، وأنه متعذر ، فجعلت شرط انعقاد الأداء ، وهو بتقييد الركعة بسجدة ؛ لأن الأداء فعل ، وفعل الصلاة هو القيام ، والقراءة ، والركوع ، والسجود . والله أعلم .

إشارة تتعلق باعتبار العدد

من قال : إن الجمعة تنعقد بواحد مع الإمام ، فقوله حظ من يعرف أحدية الحق من أحدية نفسه ، فيتخذ أحدية نفسه على أحدية ربه دليلا ، وتلك الأحدية هي على الحقيقة أنيته وهويته ، فيعلم من ذلك أن ربه على خصوص وصف في هويته لا يمكن أن يكون ذلك لغيره ، وأما من قال : اثنان ، فهو الذي يعرف توحيده من النظر في شفعيته ، فيرى كل ما سوى الحق لا يصح له الانفراد بنفسه ، وأنه مفتقر إلى غيره ، فهو مركب من عينه ، ومن اتصافه بالوجود المستفاد الذي لم يكن له من حيث عينه ، وأما من قال : بالثلاثة ، وهي أول الأفراد ، فهو الذي يرى أن المقدمتين لا تنتج إلا برابط ؛ فهي أربعة في الصورة وثلاثة في المعنى ، فيرى أنه ما عرف الحق إلا من معرفته بالثلاثة ، فاستدل بالمفرد على الواحد ، وهو أقرب في النسبة من الاستدلال بالشفع على الأحدية ، وأما من قال بالأربعين فاعتبر الميقات الموسوي الذي أنتج له معرفة الحق من حيث ما قد علم من قصته المذكورة في القرآن ، وكذلك أيضا من حصلت له معرفة ربه من إخلاصه أربعين صباحا ، وهي الخلوة المعروفة في طريق القوم ، وأما من قال بالثلاثين فنظره إلى الميقات الأولي الموسوي ، وعلم أن ذلك هو حد المعرفة ، إلا أنه طرأ أمر أخل به فزاد عشرا جبرا لذلك الخلل ، فهو في المعنى ثلاثون ، فمن سلم ميقاته من ذلك الخلل ، فإن مطلوبه من العلم بالله يحصل بالثلاثين ، وأما من لم يشترط عددا ، وقال بدون الأربعين ، وفوق الأربعة التي هي عشر الأربعين ، فإن الأربعين قامت من ضرب الأربعة في العشرة ؛ فهي عشر الأربعين ، فكما أنه نزل عن الأربعين ارتفع عن الأربعة ، ولم يقف عندها ، فيقول : لا تصح المعرفة بالله إلا بالزائد على الأربعة ، وأقل ذلك الخمسة ، وهي المرتبة الثانية من الفردية ، والمرتبة الأولى هي الثلاثة ، وهي للعبد ، فإنها هي التي نتجت عنها معرفة الحق ، فمن قال : تجوز الجمعة بالثلاثة ، ويرى صاحب هذا القول - أعني الذي يقول بالزائد على الأربعة - أن الفردية الثانية هي للحق ، وهو ما حصل للعبد من العلم بفرديته الثلاثية ، فكان الحاصل فردية الحق لا أحديته ؛ لأن أحديته لا يصح أن ينتجها شيء بخلاف الفردية ، ولما كان أولى الأفراد للعبد من أجل الدلالة ، فإن المعرفة بنفس العبد مقدمة على معرفة العبد

[ ص: 222 ] بربه ، والدليل يناسبه المدلول للوجه الرابط بين الدليل والمدلول ، فلا ينتج الفرد إلا الفرد ، فأول فرد تلقاه بعد الثلاثة ، فردية الخمسة ، فجعلها للحق ؛ أي : لمعرفة الحق في الرتبة الخامسة ، فما زاد إلى ما لا يتناهى من الأفراد فقط بأن لك في الاعتبار منازل التوقيت فيما تقوم به صلاة الجمعة من اختلاف الأحوال . والله أعلم .

إشارة أخرى في المقيم والمسافر

اعلم أن أهل طريق الله على قسمين ؛ منهم من لا يزال يتغير عليه الحال مع الأنفاس ، وهم الأكابر من الرجال ، فهم مسافرون على الدوام ، فمن المحال عليهم الاستيطان ، وهم في ذلك على نظرين ، فمن كان نظره ثبوته في مقام مراعاة الأنفاس ، وذوق تغيرها ، وتنوعات التجليات دائما في كل نفس ، كنى عن ثبوته في هذا الحال بالاستيطان ، فجعل الاستيطان من شرط صحة صلاة الجمعة ، ووجوبها ، وإن كان مسافرا في استيطانه كسفر صاحب السفينة . قال بعضهم في ذلك :


فسيرك يا هذا كسير سفينة بقوم جلوس والقلوع تطير



ومن كان من رجال دون هذه المرتبة ، وإقامهم الحق في مقام واحد زمانا طويلا ، فهو أيضا من أهل الاستيطان ، فيقيم الجمعة ، ويرى أن ذلك من شروط الصحة ، والوجوب ، ومن كان نظره في انتقاله في الأحوال ، والمشاهدات ، ويرى أن الإقامة محال في نفس الأمر ، وأن سفره مثل سفر صاحب السفينة ، فما يظهر له ، والأمر في نفسه بخلاف ذلك لم يشترط الاستيطان ، وقال بصحة الجمعة ، ووجوبها بمجرد العدد لا بالاستيطان . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية