إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الخامس : أن لا تكون الجمعة مسبوقة بأخرى في ذلك البلد .

فإن تعذر اجتماعهم في جامع واحد جاز في جامعين ، وثلاثة وأربعة بقدر الحاجة وإن لم تكن حاجة فالصحيح الجمعة التي يقع بها التحريم أولا .


الشرط (الخامس : أن لا تكون الجمعة مسبوقة بأخرى في ذلك البلد ) ، أي : لا يقارنها أخرى (فإن تعذر اجتماعهم في جامع واحد جاز في جامعين ، وثلاثة بقدر الحاجة) قال الشافعي - رضي الله عنه - : ولا يجمع في مصر ، وإن عظم ، وكثرت مساجده إلا في موضع واحد . أهـ .

وأما بغداد ، فقد دخلها الشافعي ، وهم يقيمون الجمعة في موضعين ، وقيل : في ثلاثة ، فلم ينكر عليهم ، فدل ذلك على الجواز ، واختلف الأصحاب في أمرها على أوجه أصحها أنها إنما جازت الزيادة فيها على جمعة ؛ لأنها بلدة كبيرة يشق اجتماعهم في موضع واحد ، فعلى هذا تجوز الزيادة على الجمعة الواحدة في جميع البلاد إذا كثر الناس ، وعسر اجتماعهم ، وبهذا قال أبو العباس ، وأبو إسحاق ، واختاره أكثر الأصحاب تصريحا ، وتعريضا ، وممن رجحه القاضي ابن كج ، والحناطي ، والروياني

[ ص: 223 ] والغزالي ، والثاني : إنما جازت الزيادة فيها ؛ لأن نهرها يحول بين جانبيها ، فيجعلها كبلدين ، قاله أبو الطيب بن سلمة ، وعلى هذا لا تقام في كل جانب إلا جمعة ، وكل بلد حال بين جانبيه نهر يحوج إلى السباحة ، فهو كبغداد ، واعترض عليه بأنه لو كان الجانبان بلدين لقصر من عبر أحدهما إلى الآخر ، والتزم ابن سلمة المسألة ، وجوز القصر ، والثالث : إنما جازت الزيادة ؛ لأنها كانت قرى متفرقة ، ثم اتصلت الأبنية فأجرى عليها حكمها القديم ، فعلى هذا يجوز تعدد الجمعة في كل بلد هذا شأنه ، واعترض عليه أبو حامد بما اعترض على الثاني ، ويجاب بما أجيب في الثاني ، وأشار إلى هذا الجواب صاحب التقريب ، والرابع أن الزيادة لا تجوز بحال ، وإنما لم ينكر الشافعي ؛ لأن المسألة اجتهادية ، وليس لمجتهد أن ينكر على المجتهدين ، وهذا ظاهر نص الشافعي المتقدم ، واقتصر عليه الشيخ أبو حامد ، وطبقته ، لكن المختار عند الأكثرين ما قدمناه (وإن لم تكن حاجة) ، ومنعنا الزيادة على جمعة ، فعقدوا جمعتين ، فله صور ؛ إحداها : أن تسبق إحداهما فهي الصحيحة ، والثانية باطلة . وبم يعرف السبق فيه ثلاثة أوجه ؛ أصحها بالإحرام ، وإليه أشار المصنف بقوله : (فالصحيح الجمعة التي يقع بها التحريم أولا) ، والوجه الثاني مما يعرف به السبق بالسلام ، والثالث : بالشروع في الخطبة ، ولم يحك أكثر العراقيين هذا الثالث ، فإذا قلنا بالأول ، فالاعتبار بالفراغ من تكبيرة الإحرام ، فلو سبقت إحداهما بهمزة التكبير ، والأخرى بالراء منهما ، فالصحيحة هي السابقة بالراء على الأصح ، وعلى الثاني السابقة بالهمزة ، ثم على اختلاف الأوجه لو سبقت إحداهما ، وكان السلطان مع الأخرى ، فالأظهر أن السابقة هي الصحيحة ، ولا أثر للسلطان ، والثاني أن التي معها السلطان هي الصحيحة ، ولو دخلت طائفة ، فأخبروا أن طائفة سبقتهم بها استحب لهم استئناف الظهر ، وهل لهم أن يتموها ظهرا ؟ فيه الخلاف . الصورة الثانية : أن تقع الجمعتان معا ، فباطلتان ، وتستأنف جمعة إن وسع الوقت . الصورة الثالثة : لا يدرى اقترنتا أم سبقت إحداهما ؟ فيعيدون الجمعة أيضا ؛ لأن الأصل عدم جمعة مجزئة ، وقال إمام الحرمين : وقد حكم الأئمة بأنهم إذا أعادوا الجمعة برئت ذمتهم . الصورة الرابعة : أن تسبق إحداهما بعينها ، ثم تلتبس ، فلا تبرأ واحدة من الطائفتين عن العهدة خلافا للمزني ، ثم ماذا عليهم ؟ فيه طريقان : المذهب أن عليهم الظهر ، والثاني على القولين في الصورة الخامسة ، وبه قطع العراقيون . الصورة الخامسة : أن تسبق إحداهما ، ولا تتعين بأن سمع مريضان ، أو مسافران تكبيرتين متلاحقتين ، وهما خارجا المسجدين ، فأخبراهم بالحال ، ولم يعرفوا المتقدمة ، فلا تبرأ واحدة منهما عن العهدة خلافا للمزني أيضا ، وماذا عليهم ؟ قولان أظهرهما في الوسيط أنهم يستأنفون الجمعة ، والثاني يصلون الظهر . قال الأصحاب : وهو القياس . قال النووي : الثاني أصح ، وصححه الأكثرون . أهـ . وصححه أيضا في شرح المهذب ، واقتصر الرافعي في المحرر ، وفي الشرح الصغير على ترجيحه . والله أعلم .

(فصل)

وقال أصحابنا : ولو أقيمت الجمعة في مصر في مواضع ، ففي المذهب أربع روايات ؛ أولاها عن أبي حنيفة ، ومحمد ، وهي أصحها : الجواز ، سواء كان التعدد في موضعين ، أو أكثر ؛ لأن في عدم جواز تعددها حرجا ، والحرج مدفوع ، فصارت كصلاة العيد . وثانيها : لا تجوز في أكثر من موضع واحد ، وروي ذلك عن أبي حنيفة . وثالثها : يجوز في موضعين لا غير . وروي ذلك عن أبي حنيفة ، وصاحبيه . ورابعها : تجوز في موضعين إذا كان المصر كبيرا ، أو حال بين الخطبتين نهر كبغداد ، وهي رواية عن أبي يوسف ، وفي شرح المجمع أن أبا يوسف رجع إلى هذا القول ، وقيل : إنما أجاز ذلك ببغداد ؛ لأنه كان يأمر بقطع جسرها وقت الصلاة ، فجوز التعدد للضرورة ، ثم من قال بعدم جواز التعدد قال : الجمعة هي السابقة ، وفي المحيط : إن وقعتا معا بطلتا ، وكذا لو جهلت السابقة ، ثم يعتبر السبق بماذا ؟ قيل : بالشروع ، وقيل : بالفراغ ، وقيل : بهما ، والأول أصح ، وفي الكافي للنسفي ، وفي شرح المجمع ، ولو وقع في المصر تعدد الجمعة ينبغي أن يصلوا بعد الجمعة أربع ركعات ، وينووا بها الظهر ليخرجوا عن فرض الوقت بيقين لو لم تقع الجمعة موقعها ، وفي القنية عن بعض المشايخ لما ابتلي أهل مرو بإقامة جمعتين مع اختلاف العلماء في جوازها أمرهم أئمتهم بأداء الأربع بعد الظهر حتما احتياطا ، ثم اختلفوا في

[ ص: 224 ] نيتها ، فقيل : ينوي السنة ، وقيل : ظهر يومه ، وقيل : آخر ظهر عليه ، وهو الأحسن . قال : والأحوط أن يقول : آخر ظهر أدركت وقته ، ولم أصله بعد ، واختاره بعض المشايخ ، ثم اختلفوا في القراءة ، فقيل : يقرأ بالفاتحة ، والسورة في الأربع ، وقيل : في الأوليين كالظهر ، وعلى هذا الخلاف فيمن يقضي الصلوات احتياطا . أهـ سياق الشمني في شرح النقاية .

قلت : وقد اعتمد صاحب البدائع رواية أبي يوسف جوازها في موضعين فقط ، وقال : إنها ظاهر الرواية ، واعتمد النور علي بن غانم المقدسي على رواية أبي حنيفة من أنها لا تجوز إلا في موقع واحد في البلد الواحد ، ونقل عن الزاهد العتابي ما يوافقه ، والذي أفتى به وأفتى به مشايخنا المحققون من المتأخرين إطلاقا الجواز في مواضع ، وهو الأصح من قول أبي حنيفة ، ومحمد ، وذلك لإطلاق الدليل .

قال التمرتاشي : ولا يقال : الاحتياط بالاجتماع المطلق ؛ لأن الاحتياط العمل بأقوى الدليلين ، ولم يوجد دليل عدم جواز التعدد ، وما استدل به لمنع التعدد من أنها سميت جمعة لاستدعائها الجماعات ؛ فهي جامعة لها ، فلا يفيد ؛ لأنه حاصل مع التعدد ؛ لأن الاجتماع أخص من مطلق الاجتماع ، ووجود الأخص يستلزم وجود الأعم من غير عكس ، وقد قال تعالى : وما جعل عليكم في الدين من حرج ، والحرج في منع التعدد ، فهو منفي ، وما تقدم عن القنية من أمر مشايخ مرو بأداء أربع ركعات بعد الجمعة حتما احتياطا ، فقد رده ابن نجيم ، وقال : هو مبني على القول الضعيف المخالف للمذهب ، وهو منع جواز التعدد ، فليس الاحتياط في فعلها ؛ لأن الاحتياط - كما ذكر - العمل بأقوى الدليلين ، وهو إطلاق الجواز ، وفي المنع حرج على الأمة ، وفي فعل الأربع مفسدة عظيمة ، وهي اعتقاد الجهلة أن الجمعة ليست فرضا لما يشاهدون من صلاة الظهر فيتكاسلون عن أداء الجمعة ، يعني أو اعتقادهم افتراض الجمعة والظهر بعد الجمعة أيضا ، وقد شوهد الآن صلاتها بالجماعة ، والإقامة لها ، ونيتهم فرض الظهر الحاضر إماما ، ومؤتما بغالب المساجد ، وتارة يكون الخطيب إمامها بعد إمامته بالجمعة والجماعة ، وهو ظاهر الشناعة ، وعلى تقدير فعلها ممن لا يخاف عليه مفسدة منها يفعلها في بيته خفية خوفا من مفسدة فعلها .

وقال النور علي بن غانم المقدسي في نور الشمعة في ظهر الجمعة ما نصه بعد نقله ما يفيد النهي عنها نقول : إنما نهي عنها إذا أديت بعد الجمعة بوصف الجماعة ، أو الاشتهار ، ونحن لا نقول به في شيء من الأمصار ، ولا نفتي العوام بهذا ؛ أي : بفعلها أصلا ، ثم نقل عن ابن الشحنة أنه قال : لا يجب على من صلى الجمعة أن يصلي الظهر بعدها ، ولا قال بذلك أحد من العلماء في علمي ، وما روي عن بعض أصحابنا أنه يستحب إن خاف عدم الإجزاء لتوهم فوات شرط من شرائط الجمعة أن يصلي بعدها أربعا ، فذلك لا نقول : إنها الظهر ، ولا نوجب على المتوهم ذلك ؛ بل نستحسنه احتياطا ، ولا نتظاهر به خشية توهم العوام ما وقعوا فيه من الوهم . أهـ .

وظهر منه أن عند قيام الشك ، والاشتباه في صحتها ، فالظاهر وجوب الأربع ، وكذا من اعتقد قول أبي يوسف الذي هو ظاهر الرواية ، فإذا صلى أربعا ، فهل تقدم على سنة الظهر ، وهو اختيار صاحب القنية ، أو بعدها ، وهو الذي ذكره صاحب الفتاوى الظهيرية ؟

إشارة

المصر الواحد ذات الإنسان ، وذاته تنقسم إلى قسمين ؛ إلى كثيف ، ولطيف ، فإن اتفق أن يختلف التجلي على الإنسان ، فيتجلى له في الاسم الظاهر ، والاسم الباطن ، فإنه مأمور في هذه الحال بقبول التجليين قيل لأبي سعيد الخراز : بم عرفت الله ؟ قال : بجمعه بين الضدين ، ثم تلا : هو الأول والآخر والظاهر والباطن ، فجاز عنده إقامة ضدين ، وأكثر في مصر واحد ، وهو مشاهدة الحق في كل اسم يتجلى له في الآن الواحد لاختلاف عوالمه في نفسه ، ومن كان نظره في مثل هذه التجليات المتنوعة في الأسماء ، وقال : إن الحق هو أول من عيني ما هو آخر من عيني ما هو ظاهر من عيني ما هو باطن ؛ إلى سائر الأسماء لا يتنوع الأمر في نفسه بتنوع معاني هذه الأسماء الإلهية ، وأنها كلها وإن تعددت هي عين واحدة منع أن تقام في المصر الواحد جمعتان ، فكل عارف عمل بحسب وقته ، ونظره . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية