إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وكذا فرائض الثانية أربعة إلا أنه يجب فيها الدعاء بدل القراءة .


(وكذا فرائض) الخطبة (الثانية أربع) مثل الأولى (ألا أنه لا يجب فيها الدعاء) للمؤمنين (بدل القراءة) قال الرافعي : ثم إن هذه الأركان الثلاثة لا بد منها في كل واحدة من الخطبتين ، ولنا وجه أن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في إحداهما كافية ، وهو شاذ ، والدعاء للمؤمنين ركن على الصحيح ، والثاني لا يجب ، وحكى عن نصه في الإملاء ، وإذا قلنا بالصحيح ، فهو مخصوص بالثانية ، فلو دعا في الأولى لم تحسب ، ويكفي ما يقع عليه الاسم .

قال إمام الحرمين : وأرى أنه يجب أن يكون متعلقا بأمور الآخرة ، وأنه لا بأس بتخصيصه بالسامعين بأن يقول : رحمكم الله . قال الرافعي : واختلفوا في محل القراءة على ثلاثة أوجه ؛ أصحها - ونص عليه في الأم - تجب في إحداهما لا بعينها ، والثاني : تجب فيهما ، والثالث : تجب في الأولى خاصة ، وهو ظاهر نصه في المختصر ، ونقل النووي ، عن الدارمي أنه يستحب أن يقرأ في الخطبة الأولى سورة ق . قال : والمراد قراءتها بكمالها لاشتمالها على أنواع المواعظ . أهـ .

قلت : وعند أصحابنا قراءة القرآن في الخطبة من جملة سننها ، وذكر أنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ في خطبته واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ، وروي أنه قرأ : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا ، وروي أنه قرأ : ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك ، وروي أنه قرأ : إذا زلزلت الأرض قالوا : وإذا قرأ سورة تامة يتعوذ ، ثم يسمي قبله ، وإن قرأ آية قيل : يتعوذ ، ثم يسمي ، وقيل : يتعوذ ، ولا يسمي ، وهو الأكثر ، ثم قال الرافعي : ولا تدخل القراءة في الأركان المذكورة حتى لو قرأ آية فيها موعظة ، وقصد إيقاعها عن الجهتين لم يجز ، ولا يجوز أن يأتي بآيات تشتمل على الأركان المطلوبة ؛ لأن ذلك لا يسمى خطبة ، ولو أتى ببعضها في ضمن آية لم يمتنع ، وهل يشترط كون الخطبة كلها بالعربية ، وجهان ؛ الصحيح اشتراطه ، فإن لم يكن فيهم من يحسن العربية خطب بغيرها ، ويجب عليهم التعليم ، وإلا عصوا ، ولا جمعة لهم .

(فصل)

وعن أبي حنيفة يصح الاقتصار في الخطبة على ذكر خالص لله تعالى نحو تسبيحه ، أو تهليله ، أو تكبيره مع الكراهة ، وهي التي يعتد بها ، ويجزئ هذا الذكر عن الخطبتين ، ولا يحتاج إلى تسبيحتين ، وعن مالك روايتان كالمذهبين ، وقال أبو يوسف ، ومحمد : لا بد من ذكر طويل يسمى خطبة . قيل : وأقله قدر التشهد إلى قوله : عبده ورسوله حمد ، وصلاة ، ودعاء للمسلمين ، ودليل أبي حنيفة قوله تعالى : فاسعوا إلى ذكر الله ، فلم يفصل بين كونه ذكرا طويلا أو لا ، فكان الشرط الذكر الأعم بالدليل القاطع ، غير أن المأثور عنه - صلى الله عليه وسلم - اختيار أحد الفردين أعني الذكر المسمى بالخطبة ، والمواظبة عليه ، فكان ذلك واجبا ، أو سنة ؛ لأنه الشرط الذي لا يجزئ غيره إذ لا يكون بيانا ؛ لأن الدليل - وهو لفظ الذكر المأمور بالسعي إليه - ليس مجملا ليقع فعله - صلى الله عليه وسلم - بيانا للمجمل ، فلم يكن فرضا تنزيلا للمشروعات على حسب أدلتها ، ويؤيده ما رواه قاسم بن ثابت السرقسطي في غريب الحديث ، عن عثمان - رضي الله عنه - أنه صعد المنبر ، فقال : الحمد لله فارتج عليه ، فقال : إن أول كل مركب صعب ، وإن أبا بكر ، وعمر كانا يعدان لهذا المقام مقالا ، وأنتم إلى إمام فعال أحوج منكم إلى إمام قوال ، وإن أعش تأتكم الخطبة على وجهها إن شاء الله تعالى ، وأستغفر الله لي ، ولكم ، ونزل صلى بهم ، ولم ينكر عليه أحد منهم ، فكان إجماعا منهم على عدم اشتراطها ، وعلى كون الحمد لله يسمى خطبة لغة ، وإن لم يسم به عرفا . والله أعلم .

( فصل)

وقال الشيخ الأكبر - قدس سره - : اختلف الناس في الخطبة ؛ هل هي شرط في صحة الصلاة ، وركن من أركانها أم لا ؟ فذهب الأكثرون إلى أنها شرط ، وركن ، وقال قوم : إنها ليست بفرض ، وبه أقول ، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما نص على وجوبها ، ولا ينبغي لنا أن نشرع وجوبها ، فإنه شرع لم يأذن به الله ، ولكن السنة لم تزل تصليها بخطبة كما فعلت في صلاة العيدين ، مع إجماعنا على أن صلاة العيدين ليست من الفروض ، ولا خطبتها ، وما جاء عيد قط إلا وصليت الصلاة ، وكانت الخطبة ، والاعتبار في ذلك أن الخطبة

[ ص: 227 ] شرعت للموعظة ، وهو داعي الحق في قلب العبد الذي يرد إلى الله ليتأهب لمناجاته ، ومشاهدته في صلاة الجمعة ، كما سن النافلة قبل صلاة الفريضة في جميع الصلوات ، وكما كان يفتتح صلاة الليل بركعتين خفيفتين ؛ كل ذلك ليتنبه القلب في تلك النافلة لمناجاة الحق ، ومشاهدته ، ومراقبته في أداء الفريضة التي هو مطلوب بها ، فمن رأى أن الانتباه أصل في الطريق - كالهروي ، وغيره - قالوا بوجوب الخطبة ، ومن رأى أن المقصود إنما هو الصلاة ، وأن الإقامة فيها هو عين الانتباه جعل الخطبة سنة راتبة ينبغي أن تفعل ، وإن لم ينص عليها ، ولكن ثابر عليها ، فهكذا الانتباه قبل المناجاة للمناجاة أولى من أن يكون الانتباه في عين المناجاة ، فربما تؤثر في مناجاته مرتبته المتقدمة .

قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله يحتمل أن يريد بالذكر هنا الخطبة ، فإن الله قد سمعناه يقول : إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر ، وإن كان يريد ولذكر الله منها أكبر من كل ما فيها جميع الأقوال ، والأفعال ، ولكن قد فصل بين الصلاة ، والذكر ، وميز ، فقد يكون المراد بذكر الله في هذه الآية الذي يسعى إليه هو الخطبة ، وقد تأوله بعض العلماء بالخطبة .

قال : ثم اختلف القائلون بوجوبها في المجزئ منها ، فمنهم من قال : أدنى ما ينطلق عليه اسم خطبة شرعية ، ومن قائل : لا بد من خطبتين ، ومن قائل : أقل ما ينطلق عليه اسم خطبة في لغة العرب ، والقائل بالخطبتين يرى أنه لا بد أن يجلس بينهما ، ويكون في كل واحدة منهما قائما يحمد الله في أولها ، ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ويوصي بتقوى الله ، ويقرأ شيئا من القرآن في الأولى ، ويدعو في الثانية ، والاعتبار في ذلك درجات المنبر الترقي في المقامات ، والخطبة الأولى بما يليق بالثناء على الله ، والتحريض على الأمور المقربة من الله بالدلائل من كتاب الله ، والخطبة الثانية بما يعطيه الدعاء ، والالتجاء من الذلة ، والافتقار ، والسؤال ، والتضرع في التوفيق ، والهداية لما ذكره ، وأمره به في الخطبة ، وقيامه في حال الخطبتين ؛ أما في الأولى فبحكم النيابة عن الحق فيما ينذر به ، ويوعد ، فهو قيام حق بدعوة صدق ، وأما القيام في الثانية ، فقيام عبد بين يدي سيد كريم يسأل منه الإعانة فيما قال الله على لسانه في الأولى من الوصايا ، وأما الجلسة بين الخطبتين ليفصل بين المقام الذي يقضيه مقام السؤال ، والرغبة في الهداية إلى الصراط المستقيم ، ولما لم يرد نص من الشارع بإيجاب الخطبة ، ولا بما يقال فيها إلا مجرد فعله لم يصح عندنا أن نقول : يخطب لغة ، أو شرعا ، إلا أننا ننظر ما فعل فنفعل مثل فعله على طريق التأسي لا على طريق الوجوب .

قال تعالى : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ، وقال تعالى : إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله فنحن مأمورون باتباعه فيما سن وفرض ، فنجازى من الله تعالى فيما فرض جزاء فرضين ؛ فرض الاتباع ، وفرض الفعل الذي وقع فيه الاتباع ، ونجازى فيما سن ، ولم يفرضه ، جزاء فرض ، وسنة فرض الاتباع ، وسنة الفعل الذي لم يوجبه ، فنجازى في كل عمل بحسب ما يقتضيه ذلك العمل ، ولا بد من فرضية الاتباع ، فاعلم ذلك . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية