إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ولا يستعمل غريب اللغة ولا يمطط ولا يتغنى .

وتكون الخطبة قصيرة بليغة جامعة .

ويستحب أن يقرأ آية في الثانية أيضا .


(ولا يستعمل) في خطبته (غريب اللغة) ، وهي الحوشية التي لا عهد للحاضرين بسماعها ، ولا معرفة معناها ؛ إذ المقصود من الخطبة الوعظ ، والتذكير ، فإذا لم يفهموا ما يقول فهو كالخاطب بالفارسية ، أو غيرها من الألسن (ولا يمطط) فيها بأن يطول فيها تطويلا فاحشا ، أو لا يمطط في حروفها ، وكلماتها ، فإنه يكره ذلك (ولا يتقن) ؛ بل يخرج الحروف من مخارجها مسترسلة غير متجاوز عن الحدود ، وينبغي أن (تكون الخطبة قصيرة) قصرا عرفيا ، لا القصر الذي يخرج عن حد التوسط (بليغة) بأن تكون غير مؤلفة من الكلمات المبتذلة كخطب أهل الريف ، ومنها خطبة أبي شادوف التي يتمشدق بها بعض المقلدين من المتفقهين ، فإنها مشتملة على مخاز لا ينبغي استعمالها ، ولا استماعها ، ولا من الكلمات البعيدة عن أفهام الحاضرين ، وهي المشتملة على الألفاظ المعقدة (جامعة) لمعاني الوعظ ، والتذكير ، والنصيحة ، مع اختصارها ، كما هي خطب السلف الصالحين (ويستحب أن يقرأ الآية في الثانية أيضا) تبركا بها ؛ لئلا تخلو خطبة من كلام الله تعالى ، ولكن بعد إعادة الحمد ، والثناء ، والصلاة ، كما في الأولى ، ثم يتبع ذلك بالدعاء للمؤمنين ، والمؤمنات بالاستغفار لهم ، كما تقدم ، وينبغي أن تكون الثانية هكذا : الحمد لله ، نحمده ، ونستعينه . . . إلخ ؛ لأن هذا هو

[ ص: 231 ] الثانية التي كان يخطب بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وذكر الخلفاء الراشدين عموما ، والعمين ، والسبطين ، وأمهما وجدتهما مستحسن ، وإن احتاج إلى ذكر الأربعة الخلفاء على الخصوص بأن كان في بلد فيه الرافضة ، فلا بأس أن يطيل بذكرهم كل واحد باسمه مع الأوصاف اللائقة بهم ، ثم يعطف عليهم بالباقين من العشرة ، ومما يكره للخطيب المجازفة في أوصاف السلاطين بالدعاء لهم ، فأما أصل الدعاء للسلطان ، فقد ذكر صاحب المهذب ، وغيره أنه مكروه ، والاختيار أنه لا بأس به إذا لم يكن فيه مجازفة في وصفه ، ولا نحو ذلك ، فإنه يستحب الدعاء بصلاح ولاة الأمر ، والآن صار واجبا ؛ لأنه مأمور به من السلطان .

(فصل)

وقدر أصحابنا تخفيف الخطبتين بقدر سورة من طوال المفصل ، وكرهوا التطويل مطلقا ، ومنهم من كرهه في أيام الشتاء لقصرها ، وقد روي عن ابن مسعود طول الصلاة ، وقصر الخطبة مئنة من فقه الرجل ؛ أي : هذا مما يستدل به على فقهه ، وهذا عام ، سواء كان في الشتاء ، أو الصيف ، والكلام الوجيز في مثل هذه الحالة يعد طويلا ؛ لأن المكان أعد للخطبة ، والخطيب هيأ نفسه ، فإذا جاء بذكر وإن قل يكون خطبة ، ولا يبعد أن يختلف الكلام باختلاف المحل ، وكرهوا الإطناب في مدح الجائرين من الملوك بأن يصفه عادلا ، وهو ظالم ، أو يصفه بالغازي ، وهو لم يوجف على العدو بخيل ولا ركاب ، ولكن مطلق الدعاء لهم بالصلاح لا بأس به ، وكذا لا بأس بأن يصفه ببعض الألقاب اللائقة بحاله ، فإن تعظيم الملوك شعار أهل الإسلام ، وفيه إرهاب على الأعداء ، وقد اتفق أن الملك الظاهر بيبرس - رحمه الله تعالى - لما وصل الشام ، وحضر لصلاة الجمعة أبدع الخطيب بألفاظ حسنة يشير بها إلى مدح السلطان ، وأطنب فيه ، فلما فرغ من صلاته أنكر عليه ، وقال - مع كونه تركيا - : ما لهذا الخطيب يقول في خطبته السلطان السلطان ؟ ليس شرط الخطبة هكذا ، وأمر به أن يضرب بالمقارع ، فتشفع له الحاضرون ، هذا مع كمال علم الخطيب ، وصلاحه ، وورعه ، فما خلص إلا بعد الجهد الشديد ، واتفق مثل هذا لبعض أمراء مصر في زماننا لما صلى الجمعة في إحدى جوامع مصر ، وكان مغرورا بدولته مستبدا برأيه ، وربما نازعته نفسه في خلافه على مولانا السلطان نصره الله تعالى ، فأطنب الخطيب في مدحه بعد أن ذكر اسمه بعد اسم السلطان ، فلما فرغ من صلاته أمر بضرب ذلك الخطيب ، وإهانته ، ونفيه عن مصر إلى بعض القرى ، فهذا - وأمثال ذلك - ينفي للخطباء أن يلتمسوا سخط الله تعالى برضا الناس ، فإن ذلك موجب لسخط الله تعالى ، والمقت الأبدي . نسأل الله العفو منه ، آمين .

قال الرافعي : وينبغي للقوم أن يقبلوا بوجوههم إلى الإمام ، وينصتوا ، ويستمعوا ، والإنصات هو السكوت ، والاستماع هو شغل السمع بالسماع ، وهل الإنصات فرض ، والكلام حرام ، قولان : القديم ، والإملاء وجوب الإنصات ، وتحريم الكلام ، والجديد أنه سنة ، والكلام ليس بحرام ، وقيل : يجب الإنصات قطعا ، والجمهور أثبتوا القولين .

التالي السابق


الخدمات العلمية