إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ثم يستحب لهم أعني أصحاب الأعذار تأخير الظهر إلى أن يفرغ الناس من الجمعة فإن حضر ، الجمعة مريض ، أو مسافر ، أو عبد ، أو امرأة صحت جمعتهم ، وأجزأت عن الظهر والله أعلم .


(ثم يستحب لهم أعني أصحاب الأعذار) المذكورة (تأخير الظهر إلى أن يفرغ الناس من الجمعة ، وإن حضر الجمعة مريض ، أو مسافر ، أو عبد ، أو امرأة صحت جمعتهم ، وأجزأت عن الظهر) . قال الرافعي : إن حضر الصبيان ، والنساء ، والعبيد ، والمسافرون الجامع ، فلهم الانصراف ، ويصلون الظهر ، وخرج صاحب التلخيص وجها في العبد أنه تلزمه الجمعة إذا حضر .

قال في النهاية : وهذا غلط باتفاق الأصحاب ، فأما المريض ، فقد أطلق كثيرون أنه لا يجوز له الانصراف بعد حضوره ؛ بل تلزمه الجمعة ، وقال إمام الحرمين : إن حضر قبل الوقت ، فله الانصراف ، وإن دخل الوقت ، وقامت الصلاة لزمته الجمعة ، وإن تخلل زمن بين دخول الوقت والصلاة ، فإن لم يلحقه مزيد مشقة في الانتظار لزمته ، وإلا فلا ، وهذا تفصيل حسن ، ولا يبعد أن يكون كلام المطلقين منزلا عليه ، وألحقوا بالمرضى أصحاب الأعذار الملحقة بالمرض ، وقالوا : إذا حضروا لزمتهم الجمعة ، ولا يبعد أن يكونوا على التفصيل أيضا إن لم يزد ضرر المعذور بالصبر إلى إقامة الجمعة ، فالأمر كذلك ، وإلا فله الانصراف ، وإقامة الظهر في منزله . هذا كله إذا لم يشرعوا في الجمعة ، فإن أحرم الذين لا تلزمهم الجمعة بالجمعة ، ثم أرادوا الانصراف ؛ قال في البيان : لا يجوز ذلك للمسافر ، والمريض ، وفي العبد ، والمرأة قولان حكاهما الصيمري . قال النووي : الأصح لا يجوز لهما لأن صلاتهما انعقدت عن فرضيهما ، فتعين إتمامها . والله أعلم .

(تنبيهات) :

الأول : إذا خرج الإمام عن الصلاة بحدث تعمده أو سبقه ، أو بسبب غيره ، أو بلا سبب ، فإن كان في غير الجمعة ، ففي جواز الاستخلاف قولان ؛ أظهرهما الجديد يجوز ، والقديم لا يجوز ، ولنا وجه أنه يجوز بلا خلاف في غير الجمعة ، وإنما القولان في الجمعة ، فإن لم نجوزه ، فالمذهب أنه إن أحدث في الأولى أتم القوم صلاتهم ظهرا ، وإن أحدث في الثانية أتمها جمعة من أدرك معه ركعة ، ولنا قول : إنهم يتمونها جمعة في الحالين ، ووجهه أنهم يتمونها ظهرا في الحالين ، وإن جوزنا الاستخلاف نظر إن استخلف من لم يقتد به لم يصح ، ولم يكن لذلك الخليفة أن يصلي الجمعة ؛ لأنه لا يجوز ابتداء جمعة بعد جمعة ، وفي صحة ظهر هذا الخليفة خلاف مبني على أن الظهر هل يصح قبل فوات الجمعة أم لا ؟ فإن قلنا : لا يصح ، فهل يبقى

[ ص: 235 ] نفلا ؟ فيه القولان ، فإن قلنا : لا تبقى فاقتدى به القوم بطلت صلاتهم ، وإن صححناها ، وكان ذلك في الركعة الأولى ، فلا جمعة لهم ، وفي صحة الظهر خلاف مبني على صحة الظهر بنية الجمعة ، وإن كان في الركعة الثانية ، واقتدوا به كان هذا اقتداء طارئا على الانفراد . أما إذا استخلف من اقتدى به قبل الحدث ، فينظر إن لم يحضر الخطبة ، فوجهان ؛ أحدهما : لا يصح استخلافه ، كما لو استخلف بعد الخطبة من لم يحضرها ليصلي بهم ، فلا يجوز ، وأصحهما الجواز ، ونقل الصيدلاني هذا الخلاف قولين ؛ المنع عن البويطي ، والجواز عن أكثر الكتب ، والخلاف في مجرد حضور الخطبة ، ولا يشترط سماعها بلا خلاف . صرح به الأصحاب ، وإن كان حضر الخطبة ، أو لم يحضرها ، وجوزنا استخلافه نظر إن استخلف من أدرك معه الركعة الأولى جاز ، وتمت لهم الجمعة ، سواء أحدث الإمام في الأولى أم الثانية ، وفي وجه شاذ ضعيف أن الخليفة يصلي الظهر ، والقوم يصلون الجمعة ، وإن استخلف من أدركه في الثانية قال إمام الحرمين : إن قلنا : لا يجوز استخلاف من لم يحضر الخطبة لم يجز استخلاف هذا المسبوق ، وإلا فقولان أظهرهما وبه قطع الأكثرون الجواز ، فعلى هذا يصلون الجمعة ، وفي الخليفة وجهان أحدهما : يتمها جمعة ، والثاني ، وهو الصحيح المنصوص لا يتمها جمعة ، فعلى هذا يتمها ظهرا على المذهب ، وقيل : قولان أحدهما : يتمها والثاني لا ، فعلى هذا هل تبطل أم تنقلب نفلا ؟ قولان ، فإن أبطلناها امتنع استخلاف المسبوق ، وإذا جوزنا الاستخلاف ، والخليفة مسبوق يراعي نظم صلاة الإمام ، فيجلس إذا صلى ركعة ، ويتشهد ، فإذا بلغ موضع السلام أشار إلى القوم ، وقام إلى ركعة أخرى إن قلنا : إنه مدرك للجمعة ، وإلى ثلاث إن قلنا : صلاته ظهر ، والقوم بالخيار إن شاءوا فارقوه ، وسلموا ، وإن شاءوا ثبتوا جالسين حتى يسلم بهم ، ولو دخل مسبوق ، واقتدي به في الركعة الثانية التي استخلف فيها صحت له الجمعة ، وإن لم تصح للخليفة نص عليه الشافعي . قال الأصحاب : هو تفريع على صحة الجمعة خلف مصلي الظهر ، وتصح جمعة الذين أدركوا مع الإمام الأول ركعة بكل حال ؛ لأنهم لو انفردوا بالركعة الثانية كانوا مدركين للجمعة ، فلا يضر اقتداؤهم فيها بمصلي الظهر أو النفل . والله أعلم .

وقال أصحابنا : الخطبة شرط الانعقاد في حق من ينشئ التحريمة للجمعة ، وهو الإمام أو من استخلفه قبل الشروع فيها لسبق الحدث لا في حق كل من صلاها ، فلو أحدث الإمام بعد الشروع في الصلاة ، فقدم من لم يشهدها جاز أن يصلي بهم الجمعة ؛ لأنه بان تحريمته على تلك التحريمة المنشأة ألا يرى إلى صحتها من المقتدين الذين لم يشهدوا الخطبة ، وإذا أفسدها هذا الذي استخلفه الإمام كان القياس أنه لا يصح استئنافه ؛ لأنه ينشئ التحريمة للاستئناف ، ولكنهم استحسنوا جواز استقباله بهم ؛ لأنه لما قام مقام الأول التحق به حكما ، فكما لو أفسد الأول استقبل بهم ، فكذا الثاني ، ولو أحدث الإمام قبل الشروع في الصلاة ، فقدم من لم يشهد الخطبة لا يجوز ، فلو قدمه ، فقدم هذا المقدم غيره ممن شهدها قيل : يجوز ، وقيل : لا يجوز ؛ لأنه ليس من أهل إقامة الجمعة بنفسه ، فلا يجوز منه الاستخلاف ، وإذا قدم الإمام الأول جنبا شهدها ، فقدم الجنب طاهرا شهدها ، فإنه يجوز ؛ لأن الجنب الشاهد من أهل الإقامة بواسطة الاغتسال ، فصح فيه الاستخلاف بخلاف ما لو قدم الأول صبيا أو معتوها أو امرأة ، أو كافرا فقدم غيره ممن شهدها لم يجز ؛ لأنهم لم يصح استخلافهم ، فلم يصر أحدهم خليفة ، فلا يملك الاستخلاف ، فالمتقدم باستخلاف أحدهم متقدم بنفسه ، ولا يجوز ذلك في الجمعة ، وإن جاز في غيرها من الصلوات لاشتراط إذن السلطان للمتقدم صريحا أو دلالة فيها دون غيرها ، ولا دلالة إلا إذا كان المستخلف متحققا بوصف الخليفة شرعا ، وليس أحدهم كذلك حتى لو كان المتقدم بنفسه صاحب الشرطي أو القاضي جاز ؛ لأن هذا من أمور العامة ، وقد قلدهما الإمام ما هو من أمور العامة فنزلا منزلته ، فلو قدم أحدهما رجلا شهد الخطبة جاز ؛ لأنه ثبت لكل منهما ولاية التقدم ، فله ولاية التقديم . والله أعلم .

الثاني : هل يشترط نية القدوة بالخليفة في الجمعة وغيرها من الصلوات ؛ وجهان الأصح : لا يشترط ، والثاني : يشترط ؛ لأنهم بحدث الأول صاروا منفردين ، وإذا لم يستخلف الإمام قدم القوم واحدا بالإشارة ، ولو تقدم واحد بنفسه جاز ، وتقديم المقدم أولى من استخلاف الإمام ؛ لأنهم

[ ص: 236 ] المصلون .

قال إمام الحرمين : ولو قدم الإمام واحدا ، والمقدم آخر ، فأظهر الاحتمالين أن من قدمه المقدم أولى ، فلو لم يستخلف الإمام ، ولا القوم ، ولا تقدم أحد ، فالحكم ما ذكرناه تفريعا على منع الاستخلاف . قال الأصحاب : ويجب على القوم تقديم واحد إن كان خروج الإمام في الركعة الأولى ، ولم يستخلف ، وإن كان في الثانية لم يجب التقديم ، ولهم الانفراد بها كالمسبوق .

قلت : ومقتضى كلام أصحابنا أن الاستخلاف حق الإمام ؛ لأنه له الولاية من ولي الأمر ، وليس للمأمومين أن يستخلفوا ، وهذا مبني على أن إذن السلطان أو نائبه شرط عندنا . والله أعلم .

الثالث : هذا كله إذا أحدث في أثناء الصلاة ، فلو أحدث بين الخطبة والصلاة ، فإذا أراد أن يستخلف من يصلي إن جوزنا الاستخلاف في الصلاة جاز وإلا فلا يجوز ؛ بل إن اتسع الوقت خطب بهم آخر ، وصلى ، وإلا صلوا الظهر ، وقال بعض الأصحاب : إن جوزنا الاستخلاف في الصلاة ، فهنا أولى ، وإلا ففيه الخلاف ، وعكس الشيخ أبو محمد ، فقال : إن لم نجوزه في الصلاة ، فهنا أولى ، وإلا ففيه الخلاف ، والمذهب استواؤهما ، ثم إذا جوزنا فشرطه أن يكون الخليفة سمع الخطبة على المذهب ، وبه قطع الجمهور ؛ لأن من لم يسمع ليس من أهل الجمعة ، ولهذا لو بادر أربعون من السامعين بعد الخطبة ، فعقدوا الجمعة انعقدت لهم بخلاف غيرهم ، وإنما يصير غير السامع من أهل الجمعة إذا دخل الصلاة ، وحكى صاحب التتمة وجهين في استخلاف من لم يسمع ، ولو أحدث في أثناء الخطبة ، وشرطنا الطهارة فيها ، فهل يجوز الاستخلاف ؟ إن منعناه في الصلاة ، فهنا أولى ، وإلا فالصحيح جوازه كالصلاة .

الرابع : لو صلى مع الإمام ركعة من الجمعة ، ثم فارقه بعذر أو بغيره ، وقلنا : لا تبطل الصلاة بالمفارقة أتمها جمعة كما لو أحدث الإمام .

الخامس : إذا تمت صلاة الإمام ، ولم تتم صلاة المأمومين فأرادوا استخلاف من يتم بهم إن لم نجوز الاستخلاف للإمام لم يجز لهم ، وإلا فإن كان في الجمعة بأن كانوا مسبوقين لم يجز ؛ لأن الجمعة لا تنشأ بعد جمعة ، وإن كان في غيرها بأن كانوا مسبوقين ، أو مقيمين ، وهو مسافر ، فالأصح المنع ؛ لأن الجماعة حصلت ، وإذا أتموا فرادى نالوا فضلها .

السادس : قال أبو حنيفة : إمام خطب وهو جنب ، ثم ذهب واغتسل ، ورجع وصلى ، جاز ، وهذا مبني على أن الموالاة بين الخطبة والصلاة شرط ، وهو الصحيح ، فعد ذهابه واغتساله ليس من العمل الكثير القاطع ؛ بل هو من أعمال الصلاة ، وهكذا صرح به في الظهيرية ، والعتابية ، والعيون ، وخالفهم الناطفي في الواقعات فأفتى بعدم الجواز ، وقال : هذا ليس من عمل الصلاة ، وأيد صاحب المنتقى قول الإمام ، وهل يجب إعادة الخطبة أم لا ؟ ففي الحجة لا يجب ، ومثله في المحيط ، ولكنه إن تعمد ذلك كان مسيئا ، ونقل صاحب الذخيرة ، عن أبي حنيفة ، وأبي يوسف عدم الإعادة ، ونقل صاحب الظهيرية ، عن أبي يوسف الإعادة ، إلا أنه قال : إن لم يعد أجزأه . والله أعلم .

وذكر الرافعي في مسألة الانفضاض بأن الأظهر أن الموالاة في الخطبة واجبة ، فإذا عاد المنفضون قبل طول الفصل بنى على خطبته ، وبعد طوله قولان ، فعلى القول بوجوب الموالاة يجب الاستئناف ، ولو لم يعد الأولون ، واجتمع بدلهم أربعون وجب استئناف الخطبة طال الفصل أو قصر ، وفي اشتراط الموالاة بين الخطبة والصلاة ، قولان الأظهر الاشتراط .

السابع : مسألة الزحام إنما تذكر في الجمعة ؛ لأن الزحمة فيها أكثر ، ولأنه تجتمع فيها وجوه من الإشكال ما لا تجري في غيرها ، فإذا منعته الزحمة في الجمعة السجود على الأرض مع الإمام في الركعة الأولى ، نظر ؛ إن أمكنه أن يسجد على ظهر إنسان ، أو رجله لزمه ذلك على الصحيح الذي قطع به الجمهور إذا قدر على هيئة الساجدين بأن يكون على موضع مرتفع ، فإن لم يكن ، فالمأتي به ليس بسجود ، وإذا تمكن من ذلك ، ولم يسجد ، فهو تخلف بغير عذر على الأصح ، ولو لم يتمكن من السجود على الأرض ، ولا على الظهر ، فأراد أن يخرج عن المتابعة ، ويتمها ظهرا ، ففي صحتها قولان ؛ قال إمام الحرمين : ويظهر منعه من الانفراد ؛ لأن إقامة الجمعة واجبة ، فالخروج منها عمدا مع توقع إدراكها لا وجه له ، فأما إذا دام على المتابعة ، فما يصنع فيه أوجه ؛ الصحيح ينتظر التمكن فيسجد ، فإذا فرغ من سجوده ، فللمأموم أحوال أربعة ؛ أصحها أن له حكم المسبوق فيتابعه فيما هو فيه ، ويقوم عند سلام الإمام إلى ركعة ثانية ، وإذا تخلف يجري على ترتيب نفسه ، فالوجه أن يقتصر على الفرائض

[ ص: 237 ] فعسى أن يدرك الإمام ، وإذا لم يتمكن من السجود حتى ركع الإمام في الثانية ، ففيه قولان أظهرهما يتابعه ، فإن وافقه حسب له بالركوع الأول ، والثاني بالثاني ، وإن خالفه حصلت له الركعة الثانية بكاملها ، فإذا سلم الإمام ضم إليها أخرى ، وتمت جمعته بلا خلاف ، وعلى الأول حصلت له ركعة ملفقة من ركوع الأولى ، وسجود الثانية ، وفي إدراك الجمعة بالركعة الملفقة وجهان أصحهما تدرك ، وفي إدراكها بالركعة الحكمية وجهان كالملفقة أصحهما الإدراك ، فانظر تفصيل ذلك في شرح الرافعي الكبير .

الثامن : قال إمام الحرمين : لو رفع المزحوم رأسه من السجدة الثانية ، فسلم الإمام قبل أن يعتدل المزحوم ، ففيه احتمال ، والظاهر أنه مدرك للجمعة . أما إذا كان الزحام في سجود الركعة الثانية ، وقد صلى الأولى مع الإمام فيسجد متى تمكن قبل سلام الإمام أو بعده ، وجمعته صحيحة ، فإن كان مسبوقا لحقه في الثانية ، فإن تمكن قبل سلام الإمام سجد وأدرك ركعة من الجمعة ، وإلا فلا جمعة له ، وأما إذا زحم عن ركوع الأولى حتى ركع الإمام في الثانية فيركع . قال الأكثرون : ويعتد له بالركعة الثانية ، وتسقط الأولى ، ومنهم من قال : الحاصل ركعة ملفقة .

التاسع : إذا عرضت حالة في الصلاة تمنع من وقوعها جمعة في صور الزحام ، وغيرها ، فهل يتم صلاته ظهرا ؟ قولان يتعلقان بأصل ، وهو أن الجمعة ظهر مقصورة أم صلاة على حيالها ؟ وفيه قولان اقتضاهما كلام الشافعي .

قال النووي : أظهرهما صلاة بحيالها ، فإن قلنا : ظهر مقصورة ، فإذا فات بعض شروط الجمعة أتمها ظهرا كالمسافر إذا فات شرط قصره ، وإن قلنا : فرض على حياله ، فهل يتمها ؟ وجهان ، والصحيح مطلقا أنه يتمها ظهرا ، لكن هل يشترط أن يقصد قلبها ظهرا أم تنقلب ظهرا ؟ وجهان في النهاية . قال النووي : الأصح لا يشترط ، وهو مقتضى كلام الجمهور ، وإذا قلنا : لا يتمها ظهرا ، فهل تبطل أم تبقى نفلا ؟ فيه قولان .

العاشر : هل يشترط في صحة الخطبة الطهارة عن الحدث ، والنجس في البدن ، والثوب ، والمكان ، وستر العورة ؟ قولان الجديد اشتراط كل ذلك ، ثم قيل : الخلاف مبني على أنهما بدل من الركعتين أم لا ، وقيل : على أن الموالاة في الخطبة شرط أم لا ؟ فإن شرطنا الموالاة شرطنا الطهارة ، وإلا فلا ، ثم قال صاحب التتمة : يطرد الخلاف في اشتراط الطهارة عن الحدث الأصغر ، والجنابة ، وخصه صاحب التهذيب بالحدث الأصغر . قال : فأما الجنب ، فلا تحسب خطبته قولا واحدا ؛ لأن القراءة شرط ، ولا تحسب قراءة الجنب ، وهذا أصح . قال النووي : الصحيح ، أو الصواب قول صاحب التتمة .

وقد جزم به الرافعي في المحرر ، وقطع الشيخ أبو حامد ، والماوردي ، وآخرون بأنه لو بان لهم بعد فراغ الجمعة أن إمامها كان جنبا أجزأتهم ، ونقله أبو حامد ، والأصحاب عن نصه في الأم ، ثم إذا شرطنا الطهارة ، فسبقه حدث في الخطبة لم يعتد بما يأتي به في حال الحدث ، وفي بناء غيره عليه الخلاف ، فلو تطهر وعاد ، وجب الاستئناف إن طال الفصل ، وشرطنا الموالاة ، وإلا فوجهان أظهرهما الاستئناف ، وقال أصحابنا : الطهارة من الحدث ، والخبث ، وستر العورة سنتان في الخطبة ، وليسا بشرط على المشهور من المذهب قالوا : لأن الخطبة ليست كالصلاة ، ولا كشرطها بدليل أنها تؤدى إلى غير جهة القبلة ، ولا يفسدها الكلام ، وما ورد في الأثر من أنها كركعتي الصلاة احتياطا كإعادة أذانه ، وفي مجمع الروايات ، وإن خطب على غير طهارة جاز ، وكره ، إلا أنه روي عن أبي يوسف أنه قال : الطهارة شرط ، وما بقي من أحكام البناء ، والاستئناف ، فقد تقدم في التنبيه السادس .

الحادي عشر : قال المصنف في الوجيز : هل يحرم الكلام على من عدا الأربعين ؟ فيه قولان . قال الرافعي في شرحه : هذا النقل بعيد في نفسه ، ومخالف لما نقله الأصحاب . أما بعده في نفسه ، فلأن كلامه مفروض في السامعين للخطبة ، وإذا حضر جماعة يزيدون على أربعين ، فلا يمكن أن يقال : تنعقد الجمعة بأربعين منهم على التعيين ، فيحرم الكلام عليهم قطعا ، والخلاف في الباقين ؛ بل الوجه الحكم بانعقاد الجمعة بهم ، أو بأربعين منهم لا على التعيين ، وأما مخالفته لنقل الأصحاب ، فلأنك لا تجد للأصحاب إلا إطلاق قولين في السامعين ، ووجهين في غيرهم . والله أعلم .

الثاني عشر : هل نية

[ ص: 238 ] الخطبة ، وفرضيتها شرط أم لا ؟
اشترطها القاضي حسين في التعليقة ، وقال أصحابنا : لا تكون الخطبة إلا بقصدها حتى لو عطس الخطيب ، فحمد له ؛ أي : للعطاس لا ينوب عن الخطبة ، فهو شرط ، كما مر عن القاضي حسين . الثالث عشر : الترتيب بين أركان الخطبة الثلاثة ، فأوجب صاحب التهذيب أن يبدأ بالحمد ، ثم الصلاة ، ثم الوصية ، ولا ترتيب بين القراءة ، والدعاء ، ولا بينهما وبين غيرهما ، وقطع صاحب العدة ، وآخرون بأنه لا يجب في شيء من الألفاظ قالوا : لكن الأفضل الرعاية ، وقطع صاحب الحاوي ، وكثير من العراقيين بأنه لا يجب الترتيب ، ونقل في الحاوي عن نص الشافعي . الرابع عشر : قال أصحابنا : من جملة شروط صحة الجمعة الإذن العام ؛ لأنها من شعائر الإسلام ، فلزم إقامتها على سبيل الاشتهار ، والعموم فيأذن الإمام للناس إذنا عاما بإقامتها حتى لو أغلق باب قصره ، والمحل الذي يصلي فيه بأصحابه لم تجز ، وإن صلى في قصره ، وأذن للناس بالدخول فيه تجوز شهدتها العامة أو لا ، ولكن يكره ، وإن منع الإمام أهل بلد أن يجمعوا . قال الفقيه أبو جعفر : ينظر إن كان المنع مجتهدا لسبب من الأسباب ، وأراد أن يخرج ذلك الموضوع عن أن يكون مصرا صح نهيه ، وليس لهم أن يجتمعوا بعد ذلك ؛ لأنه كما أن له أن بمصر موضعها ، فله أن يخرج موضعها من أن يكون مصرا ، وإن نهاهم متعنتا ، أو إضرارا بهم كان لهم أن يجتمعوا على رجل يصلي بهم الجمعة ؛ لأن منعه على هذا الوجه معصية ، ولا طاعة له في المعصية ، ثم إن هذا الشرط رواية النوادر ، وليس هو في ظاهر الرواية ؛ ولذا لم يذكره صاحب الهداية ، وإنما ذكره صاحب الكنز ، كما في البدائع للكاساني ، ونقل عنه صاحب البحر ، وفي المبسوط ، ونقل عنه في البرهان .

الخامس عشر : قال صاحب الإفصاح ، والمحاملي : المستحب أن يكون المؤذن للجمعة واحدا ، وأشار إليه الغزالي ، وفي كلام بعض الأصحاب إشعار باستحباب تعديد المؤذنين .

السادس عشر : يجوز إقامة الجمعة بمنى في الموسم للخليفة أو أمير الحجاز لا أمير الموسم ؛ لأنه يلي أمور الحاج لا غير عند أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، وقال محمد : لا تصح بها ؛ لأنها من القرى ، ولهما أنها تتمصر في أيام الموسم بخلاف عرفات ؛ لأنها فضاء ، فلا تقام بها جمعة .

السابع عشر : يسن أن ينزل الخطيب بعد فراغه من الخطبة على سكينة ، ووقار قائلا : أستغفر الله لي ولكم ، ويأخذ المؤذن في الإقامة ، ويبتدر ليبلغ المحراب مع فراغ المقيم .

الثامن عشر : يكره للخطيب الدق على درج المنبر عند صعوده ، ونزوله ، والدعاء إذا انتهى صعوده قبل أن يجلس ، وربما توهموا أنها ساعة الإجابة ، وهذا جهل ؛ فإن ساعة الإجابة إنما هي بعد جلوسه ، كما سيأتي ، ويكره له الإسراع في الخطبة الثانية ، نبه عليه النووي ، وغيره .

التاسع عشر : من بعضه حر وبعضه عبد لا جمعة عليه ، وفيه وجه شاذ أنه إذا كان بينه وبين سيده مهايأة لزمه الجمعة الواقعة في نوبته ، ولا تنعقد به بلا خلاف .

العشرون : الغريب إذا أقام ببلد واتخذه وطنا صار له حكم أهله في وجوب الجمعة ، وانعقادها به ، وإن لم يتخذه وطنا ، بل عزمه الرجوع إلى بلده بعد مدة يخرج بها عن كونه مسافرا قصيرة ، أو طويلة كالمتفقه ، والتاجر لزمه الجمعة ، ولا تنعقد به على الأصح .

الحادي والعشرون : العذر المبيح ترك الجمعة يبيحه ، وإن طرأ بعد الزوال إلا السفر ، فإنه يحرم إنشاؤه بعد الزوال ، وقيل : فيما يجوز بعد الفجر ، وقبل الزوال قولان .

قال في القديم ، وحرملة يجوز ، وفي الجديد لا يجوز ، وهو الأظهر عند العراقيين ، وقيل : يجوز قولا واحدا . هذا في السفر المباح . أما الطاعة ، واجبا كان كالحج أو مندوبا ، فلا يجوز بعد الزوال ، وأما قبله فقط فقطع كثيرون من الأئمة بجوازه ، ومقتضى كلام العراقيين أنه على الخلاف كالمباح ، وحيث قلنا : يحرم ، فله شرطان أحدهما : أن لا ينقطع عن الرفقة ، ولا يناله ضرر في تخلفه للجمعة ، فإن انقطع ، وفات سفره بذلك أو ناله ضرر ، فله الخروج بعد الزوال بلا خلاف ، كذا قاله الأصحاب ، وقال الشيخ أبو حاتم القزويني في جوازه بعد الزوال لخوف الانقطاع عن الرفقة وجهان . الشرط الثاني : أن لا يمكنه صلاة الجمعة في منزله ، أو طريقه ، فإن أمكنت ، فلا يمنع بحال .

قال النووي : الأظهر تحريم السفر المباح ، والطاعة قبل الزوال ، وحيث حرمناه بعد الزوال ، فسافر كان عاصيا ، فلا يترخص ما لم تفت الجمعة حيث كان فواتها يكون ابتداء سفره . قاله القاضي حسين ، وصاحب التهذيب ،

[ ص: 239 ] وهو ظاهر . والله أعلم .

وقال أصحابنا : كره لمن تجب عليه الجمعة الخروج من المصر يومها بعد النداء ما لم يصل ، واختلفوا في النداء ، فقيل : الأذان الأول ، وقيل : الثاني ، وأما إذا خرج قبل الزوال ، فلا بأس به بلا خلاف ، كذا في التتارخانية ، وسواء كان سفر طاعة ، أو غيره ، وكذا يجوز له السفر بعد الفراغ من الجمعة ، وإن لم يدركها . والله أعلم .

الثاني والعشرون : المعذورون في ترك الجمعة ضربان أحدهما : يتوقع زوال عذره كالعبد ، والمريض يتوقع الخفة فيستحب تأخير الظهر إلى اليأس من إدراك الجمعة لاحتمال تمكنه منها ، ويحصل اليأس برفع الإمام رأسه من الركوع الثاني على الصحيح ، وعلى الشاذ يراعى تصور الإدراك في حق كل واحد ، فإذا كان منزله بعيدا ، فانتهى الوقت إلى حد لو جد في السعي لم يدرك الجمعة حصل الفوات في حقه . الضرب الثاني : من لا يرجو زوال عذره كالمرأة ، والزمن ، فالأولى أن يصلي الظهر في أولى الوقت لفضيلة الأولية .

قال النووي : هذا اختيار أصحابنا الخراسانيين ، وهو الأصح ، وقال العراقيون : هذا الضرب كالأول فيستحب لهم تأخير الظهر ؛ لأن الجمعة صلاة الكاملين ، فقدمت ، والاختيار التوسط ، فيقال : إن كان هذا الشخص جازما بأنه لا يحضر الجمعة ، وإن تمكن منها استحب تقديم الظهر ، وإن كان لو تمكن أو نشط حضرها استحب التأخير كالضرب الأول . والله أعلم .

وإذا اجتمع معذورون استحب لهم الجماعة في ظهرهم على الأصح . قال الشافعي - رحمه الله - : واستحب لهم إخفاء الجماعة لئلا يتهموا . قال الأصحاب : هذا إذا كان عذرهم خفيا فإن كان ظاهرا ، فلا تهمة كالشافعية بمصر مثلا ، ومنهم من استحب الإخفاء مطلقا ، وقال أصحابنا : كره للمعذور ، والمسجون أداء الظهر بجماعة في المصر يوم الجمعة ، وكذا صلاة الظهر منفردا قبل صلاة الجمعة في الصحيح ، ويستحب له تأخيره عنها . أهـ .

وقال الرافعي : ثم إذا صلى المعذور الظهر قبل فوات الجمعة ، فتلزمه ، والمستحب لهؤلاء حضور الجمعة بعد فعلهم الظهر ، فإن صلوا الجمعة ، ففرضهم الظهر على الأظهر ، أما إذا زال العذر في أثناء الظهر ، فقال القفال : هو كرؤية المتيمم الماء في الصلاة ، وهذا يقتضي خلافا في بطلان الظهر كالخلاف في بطلان صلاة المتيمم ، وذكر الشيخ محمد وجهين هنا ، والمذهب استمرار صحة الظهر ، وهذا الخلاف تفريع على إبطال ظهر غير المعذور إذا صلاها قبل فوات الجمعة ، فإن لم يبطلها ، فالعذر أولى ، وقال أصحابنا : المعذورون إن أدوا الجمعة جاز عن فرض الوقت ؛ لأن السقوط تخفيف للعذر ، فإذا تحمل ما لم يكلف به ، وهو الجمعة جاز عن فرض الوقت ، وهو الظهر ؛ كالمسافر إذا صام ، والأفضل لهم الجمعة ؛ لأن الظهر لهم يوم الجمعة رخصة ، فدل على أن العزيمة صلاة الجمعة ، وتستثنى منهم المرأة ، والخنثى ، ومن لا عذر له يمنعه عن حضور الجمعة لو صلى الظهر قبل صلاة الجمعة انعقد ظهره لوجود وقت أصل الفرض ، وهو الظهر في حق الكافة ، إلا أنه لما كان مأمورا بإسقاطه بالجمعة حرم عليه فعل الأصل ، وكان انعقاده موقوفا فإن سعى إليها ، وكان الإمام فيها ، أو أقيمت بعدما سعى إليها بطل ظهره ، وصار نفلا ، وكذا حكم المعذور لو صلى الظهر ، ثم سعى إلى الجمعة بطل ظهره ، وإن لم يدركها ، وهذا عند أبي حنيفة على تخريج البلخيين ، وهو الأصح ، ثم إن المعتبر في السعي الانفصال من داره ، فلا يبطل ظهره قبله على المختار ، وقيل : إذا خطا خطوتين في البيت الواسع يبطل ، ولا يبطل إذا كان السعي مقارنا للفراغ منها أو بعده أو لم تقم الجمعة أصلا ، وقال : لا يبطل ظهره حتى يدخل مع القوم ، وفي رواية حتى يتمها حتى لو قصدها بعد ما شرع فيها لا يبطل ظهره على هذه الرواية ، وقول الإمام هنا أحوط ، ولو صلى مسافر الظهر إماما ، ثم حضر الجمعة ، فصلاها فهي فرضه ، وجازت صلاة أولئك ، ولو قدمه الإمام لسبق حدث جازت صلاة القوم ؛ لأن ظهره ارتفض في حقه دون أولئك الذين صلى بهم قبل دخوله المصر ، فصار في حق الفريق الثاني كأنه لم يصل الظهر ، كذا في التبيين ، والغاية ، وفتح القدير ، نقلا عن جامع الجوامع ، والتجنيس ، وقال الرافعي في شرح الوجيز : من لا عذر له إذا صلى الظهر قبل فوات الجمعة لم تصح ظهره على الجديد ، وهو الأظهر ، وتصح على القديم . قال الأصحاب : القولان مبنيان على أن الفرض

[ ص: 240 ] الأصلي يوم الجمعة ماذا ؟ فالجديد أنه الجمعة ، والقديم أنه الظهر ، وأن الجمعة بدل فإن صلى الظهر بعد ركوع الإمام في الثانية ، وقبل سلامه ، فقال ابن الصباغ : ظاهر كلام الشافعي بطلانها - يعني على الجديد - ، ومن الأصحاب من جوزها . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية