إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
السابع أن : يطلب الصف الأول فإن فضله كثير كما ، رويناه وفي الحديث من غسل واغتسل ، وبكر وابتكر ، ودنا من الإمام ، واستمع كان ذلك له كفارة لما بين الجمعتين ، وزيادة ثلاثة أيام وفي لفظ آخر : غفر الله له إلى الجمعة الأخرى وقد اشترط في بعضها ولم يتخط رقاب الناس .


(السابعة: أن يطلب الصف الأول) ، فلا يختار الصلاة إلا فيه (فإن فضله كبير، كما رويناه في الخبر) يشير إلى ما أخرجه أحمد، والشيخان، والنسائي، وابن حبان من حديث أبي هريرة: لو يعلم الناس ما في النداء، والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا. الحديث، وإلى ما أخرجه ابن أبي شيبة، والطبراني، والضياء من حديث عامر بن مسعود: لو يعلم الناس ما في الصف الأول ما صفوا فيه إلا بقرعة (وفي الخبر من غسل واغتسل، وبكر وابتكر، ودنا من الإمام، واستمع كان له كفارة ما بين الجمعتين، وزيادة ثلاثة أيام) . كذا في القوت. قال العراقي: أخرجه الحاكم من حديث أوس بن أوس، وأصله عند أصحاب السنن. اهـ .

قلت: وأخرجه البيهقي كذلك، وصححه الحاكم، وتعقبه الذهبي، ولفظ حديثهم: من غسل واغتسل، وغدا وابتكر، ودنا وأنصت واستمع، غفر له ما بينه وبين الجمعة، وزيادة ثلاثة أيام، ومن مس الحصى فقد لغا. (وفي لفظ آخر: غفر الله له إلى الجمعة الأخرى) .

وفي القوت: غفر له بالبناء للمفعول. رواه الخطيب، عن أنس، ولفظه: من غسل واغتسل، وبكر وابتكر، وأتى الجمعة واستمع وأنصت، غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى. (وقد اشترط في بعضها) ، أي: بعض ألفاظ الحديث (ولم يتخط رقاب الناس) ، كذا في القوت. قال العراقي: أخرجه أبو داود، والحاكم من حديث أبي سعيد، وأبي هريرة، وقال: على شرط مسلم. اهـ .

قلت: وأخرجه الطحاوي كذلك من حديثهما، قال: حدثنا ابن أبي داود، حدثنا الذهبي،

[ ص: 264 ] حدثنا ابن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وعن أبي أمامة أنهما حدثاه، عن أبي سعيد، وعن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: من اغتسل يوم الجمعة، واستن، ومس طيبا إن كان عنده، ولبس من أحسن ثيابه، ثم خرج حتى أتى المسجد، فلم يتخط رقاب الناس، ثم ركع ما شاء الله أن يركع، وأنصت إذا خرج الإمام كانت كفارة ما بينها وبين الجمعة التي قبلها. تابعه على ذلك حماد بن سلمة، عن محمد بن إبراهيم نحوه، ومعناه عند البخاري من حديث سلمان: لا يغتسل يوم الجمعة، ويتطهر ما استطاع من طهر، ويدهن من دهنه، أو يمس طيبا، ثم يخرج، فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى، وعند ابن خزيمة في رواية الليث، عن ابن عجلان: ما بينه وبين الجمعة التي قبلها، فقوله: فلا يفرق؛ أي: لا يتخطى، فصح عند أبي داود من حديث ابن عمرو: ثم لم يتخط رقاب الناس، وكذا عند الطحاوي من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده .

(فوائد مهمة)

الأولى: في بيان اختلاف ألفاظ هذا الحديث، فمنها ما ذكره المصنف تبعا لصاحب القوت، ومنها ما أخرجه الطبراني في الكبير، عن أبي أمامة بلفظ: من غسل يوم الجمعة، واغتسل، وغدا، وابتكر، ودنا فاستمع، وأنصت كان له كفلان من الأجر، ومنها ما رواه الطبراني في الكبير أيضا من حديث أوس بن أوس بلفظ: من غسل، واغتسل يوم الجمعة، وبكر، وابتكر، ودنا من الإمام، فأنصت كان له بكل خطوة يخطوها صيام سنة، وقيامها، وذلك على الله يسير، وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا عبد الله بن مبارك، عن الأوزاعي، حدثنا حسان بن عطية، حدثنا أبو الأشعث، حدثني أوس بن أوس الثقفي قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: من غسل يوم الجمعة، واغتسل، وبكر، وابتكر، ومشى ولم يركب، فدنا من الإمام، واستمع، ولم يلغ كان له بكل خطوة عمل سنة صيامها، وقيامها، وقال أبو جعفر الطحاوي: حدثنا ابن أبي داود، حدثنا أبو مسهر، حدثنا سعيد بن عبد العزيز، عن يحيى بن الحارث الذماري، عن ابن الأشعث الصنعاني، عن أوس بن أوس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : من غسل، واغتسل، وغدا، وابتكر، ودنا من الإمام، فأنصت، ولم يلغ كان له مكان كل خطوة عمل سنة صيامها، وقيامها. وأخرجه أيضا من طريق سفيان، عن عبد الله بن عيسى، عن محمد بن الحارث بإسناده مثله، وفي بعض رواياته: يخطوها من بيته إلى المسجد، وهكذا هو عند ابن زنجويه، وابن خزيمة، وأبي يعلى، وابن حبان، والبارودي، وابن قانع، وأبي نعيم، والبيهقي، والضياء، وفيه اختلاف تقدم ذكره سابقا .

الثانية: قول البخاري: إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى. يحتمل أن يكون المراد بها الماضية، والمستقبلة؛ لأنها تأنيث "الآخر" بفتح الخاء لا بكسرها، والمغفرة تكون للمستقبل كالماضي. قال الله تعالى: ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، لكن رواية أنس عند الخطيب: إلى الجمعة الأخرى. تعين المستقبلة، ورواية ابن خزيمة: ما بينه وبين الجمعة التي قبلها تعين الماضية .

الثالثة: في رواية البخاري: ثم يصلي ما كتب له. المراد به فرض صلاة الجمعة أم المعنى ما قدر له فرضا، أو نفلا؟ وفي حديث أبي الدرداء: ثم يركع ما قضي له، وعند الطحاوي من حديث سلمان: وصلى ما كتب الله له، وفي حديث أبي أيوب: فيركع إن بدا له، وفيه مشروعية النافلة قبل صلاة الجمعة.

الرابعة: المراد بالمغفرة هنا مغفرة الصغائر؛ لما في حديث ابن ماجه، عن أبي هريرة: ما لم يغش الكبائر.

وأخرج الطحاوي من طريق إبراهيم بن علقمة، عن قرثع، عن سلمان رفعه، فساقه، وفيه: ما اجتنبت المقتلة، وليس المراد أن تكفير الصغائر مشروط باجتناب الكبائر؛ إذ اجتناب الكبائر بمجرده يكفر الصغائر، كما نطق به القرآن العزيز في قوله: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ؛ أي: كل ذنب فيه وعيد شديد نكفر عنكم سيئاتكم ؛ أي: نمح عنكم صغائركم، فإذا لم يكن له صغائر تكفر رجي له أن يكفر عنه بمقدار ذلك من الكبائر، وإلا أعطي من الثواب بمقدار ذلك .

الخامسة: الإنصات: هو السكوت، والاستماع: شغل السمع بالسماع، فبينهما عموم وخصوص من وجه .

السادسة: قد تبين بمجموع ما ذكر في الأحاديث المتقدمة أن تكفير الذنوب، وغفرانها من الجمعة إلى الجمعة، وإعطاء عمل سنة بتمامها

[ ص: 265 ] مشروط بوجود جميعها، وهو الاغتسال، وتنظيف الرأس، والثياب، والتغسيل، والسواك، ودهن الرأس لإزالة الشعث، ومس الطيب، ولبس أحسن الثياب، والبكور، والتبكير، والمشي على الرجلين، والبكور، وعدم التخطي، وعدم التفرقة، والدنو من الإمام، والإنصات للإمام عند خروجه، أو عند تكلمه، والاستماع، وعدم اللغو، وعدم مس الحصى؛ فهي نحو خمس عشرة خصلة .

السابعة: في هذه الآثار دليل لأبي حنيفة أن موضع كلام الإمام ليس بموضع صلاة، حيث أمروا بالإنصات عند تكلم الإمام، فهو ناسخ لحديث سليك الغطفاني. والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية