إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
(الفصل الثامن عشر: في بيان كونه مجددا للقرن الخامس) .

ولنذكر أولا الحديث الذي استنبط منه العلماء التجديد، روى أبو داود في الملاحم، والحاكم في الفتن وصححه، والبيهقي في كتاب المعرفة له، كلهم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- رفعه: "إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها".

قال العراقي وغيره: سنده صحيح، أي: يقيض لها على رأس كل مائة من الهجرة أو غيرها رجلا كان أو أكثر من يبين السنة من البدعة، ويكثر العلم، وينصر أهله، ويذل أهل البدعة، قالوا: ولا يكون إلا عالما بالعلوم الدينية الظاهرة والباطنة .

فكان في المائة الأولى عمر بن عبد العزيز، والثانية الشافعي، والثالثة الأشعري أو ابن سريج، والرابعة الإسفراييني أو الصعلوكي أو الباقلاني، والخامسة حجة الإسلام الغزالي.

وقال ابن السبكي: يتعين عندي تقديم ابن سريج في الثالثة على الأشعري؛ فإن الأشعري وإن كان أيضا شافعي المذهب إلا أنه رجل متكلم، كان قيامه للذب عن أصول العقائد دون فروعها، وكان ابن سريج فقيها، وقيامه الذب عن فروع هذا المذهب، فكان أولى بهذه المرتبة، لا سيما ووفاة الأشعري تأخرت عن رأس القرن إلى بعد العشرين .

وقد صح أن هذا الحديث ذكر في مجلس ابن سريج فقام شيخ من أهل العلم فقال: أبشر أيها القاضي بأن الله بعث على رأس المائة عمر بن عبد العزيز، وعلى الثانية الشافعي، وبعثك على رأس الثلاثمائة، ثم أنشأ يقول:


اثنان قد مضيا فبورك فيهما عمر الخليفة ثم حلف السؤدد     الشافعي الألمعي محمد
إرث النبوة وابن عم محمد     أرجو أبا العباس أنك ثالث
من بعدهم سقيا لتربة أحمد

فصاح ابن سريج فيما يحكى وبكى، وقال: لقد نعى إلي نفسي، وقيل: إنه مات في تلك السنة .

قال: وأما الرابعة فقد قيل: إن الشيخ أبا حامد الإسفراييني هو المبعوث فيها، وقيل: بل الأستاذ سهل الصعلوكي، وقد كان ممن لا يدفع عن هذا المقام بوجه يتضح؛ لمشاركة الشيخ أبي حامد في الفقه، وقرب الوفاة من رأس المائة بخلاف الأشعري مع ابن سريج.

قال: والخامس الغزالي، وقد قال في قصيدة نظمها في أسمائهم:


والخامس الحبر الإمام محمد     هو حجة الإسلام دون تردد

وكذلك ذكره الحافظ جلال الدين الأسيوطي في أرجوزة له فقال:


والخامس الحبر هو الغزالي     وعده ما فيه من جدال

وقال فيها:


والشرط في ذلك أن تمضي المائة     وهو على حياته بين الفئة
يشار بالعلم إلى مقامه     وينصر السنة في كلامه
وأن يكون جامعا لكل فن     وأن يعم علمه أهل الزمن
وأن يكون في حديث قد روي     من أهل بيت المصطفى وقد قوي
وكونه فردا هو المشهور     قد نطق الحديث والجمهور

ونقل العراقي عن البعض أنه جعل في الرابعة أبا إسحاق الشيرازي، والخامسة أبا طاهر السلفي، ولا مانع من الجمع، فقد يكون المجدد أكثر من واحد .

قال الذهبي: من هنا للجمع لا للمفرد، فتقول مثلا: على رأس الثلاثمائة ابن سريج في الفقه، والأشعري في الأصول، والنسائي في الحديث .

وقال في جامع الأصول: قد تكلموا في [ ص: 27 ] تأويل هذا الحديث، فكل أشار إلى العالم الذي هو في مذهبه، وحمل الحديث عليه، والأولى العموم؛ فإن "من" يقع على الواحد والجمع، ولا يختص أيضا بالفقهاء، فإن انتفاع الأمة أيضا يكون بأولي الأمر، وأهل الحديث، والقراء، والوعاظ، لكن المبعوث ينبغي أن يكون مشارا إليه في كل من هذه الفنون .

ففي رأس الأولى من أولي الأمر عمر بن عبد العزيز، ومن الفقهاء محمد الباقر، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، والحسن، وابن سيرين، ومن القراء ابن كثير، ومن المحدثين الزهري.

وفي رأس الثانية من أولي الأمر المأمون، ومن الفقهاء الشافعي، واللؤلؤي من الحنفية، وأشهب من المالكية، وعلي بن موسى الرضي من الإمامية، والحضرمي من القراء، وابن معين من المحدثين، والكرخي من الزهاد .

وفي الثالثة من أولي الأمر المقتدر، ومن الفقهاء ابن سريج، ومن الحنفية الطحاوي، ومن المتكلمين الأشعري، ومن المحدثين النسائي.

وفي الرابعة من أولي الأمر القادر بالله، ومن الفقهاء الإسفراييني، ومن الحنفية الخوارزمي، ومن المالكية عبد الوهاب، ومن الحنابلة الحسين الفراء، ومن المتكلمين الباقلاني وابن فورك، ومن المحدثين الحاكم، ومن الزهاد الدينوري.

وهكذا يقال في بقية القرون، وفي كلام النووي ما يشير إلى ذلك، وأيده الحافظ ابن حجر في الفتح، وقال: كل من اتصف بشيء من تلك الأوصاف عند رأس المائة هو المراد، تعدد أم لا، والبحث في هذا المقام يستدعي لذكر مهمات، ولكن اقتصرنا على المقصود منه .

التالي السابق


الخدمات العلمية