إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ويدخل وقتها بطلوع الفجر الصادق وهو المستطير دون المستطيل .

وإدراك ذلك بالمشاهدة عسير في أوله إلا أن يتعلم منازل القمر أو يعلم اقتران طلوعه بالكواكب الظاهرة للبصر فيستدل بالكواكب عليه ويعرف بالقمر في ليلتين من الشهر ؛ فإن القمر يطلع مع الفجر في ليلة ست وعشرين ويطلع الصبح مع غروب القمر ليلة اثني عشر من الشهر هذا هو الغالب ويتطرق إليه تفاوت في بعض البروج وشرح ذلك يطول .

وتعلم منازل القمر من المهمات للمريد حتى يطلع به على مقادير الأوقات بالليل وعلى الصبح .


( ويدخل وقتها بطلوع الفجر الصادق وهو المستطير) الذي يطلع عرضا منتشرا، سمي صادقا؛ لأنه صدق عن الصبح وبينة، ( دون المستطيل) منه وهو الذي يظهر طولا كذنب السرحان ثم يغيب، ويسمى كاذبا؛ لأنه يضيء ثم يسود، ويذهب النور ويعقبه الظلام، فكأنه كاذب. وقد جاء في الحديث وصف الصبح بالمستطير والمستطيل، ( وإدراك ذلك بالمشاهدة) بالبصر ( عسير في أوله إلا بتعليم منازل القمر) الثمانية والعشرين .

وأخرج الخطيب في كتاب النجوم عن ابن عباس في قوله تعالى: والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم قال في ثمانية وعشرين منزلا ينزلها القمر في كل شهر أربعة عشر منها شامية، وأربعة عشر منها يمانية، فأولها الشرطين، والبطين، والثريا، والدبران، والهقعة، والهتعة، والذراع، والنثرة، والطرف، والجبهة، والزبرة، والصرفة، والعوا، والسماك، وهو آخر الشامية، والغفر، والزبانين، والإكليل، والقلب، والشولة، والنعائم، والبلدة، وسعد الذابح، وسعد بلع، وسعد السعود، وسعد الأخبية، ومقدم الدلو، ومؤخر الدلو، وبطن الحوت، وهو آخر اليمانية. فإذا سار هذه الثمانية وعشرين منزلا عاد كالعرجون القديم كما كان في أول الشهر، ( أو بعلم اقتران طلوعه) أي الفجر ( بالكواكب الظاهرة للبصر) وهي الطالعة منها مع الفجر، ( فيستدل بالكواكب) المذكورة ( عليه) أي على الفجر، ( ويعرف) أيضا ( بالقمر في ليلتين من الشهر؛ فإن القمر يطلع مع الفجر ليلة ست وعشرين) من الشهر ( ويطلع الصبح مع غروب القمر ليلة اثنى عشر من الشهر) هكذا ذكره صاحب القوت، ولفظه: وفي الشهر ليلتان يعرف بهما وقت الفجر إحداهما يطلع القمر فيها عند طلوع الفجر وهي ليلة ست وعشرين، والأخرى يغيب فيها القمر عند طلوع الفجر، وهي ليلة اثنى عشر من الشهر، ومن طلوع الفجر إلى طلوع الشمس مقدار ثلثي سبع تلك الليلة، وهذا يكون في الصيف، ويكون في الشتاء أقل من ذلك؛ يكون نصف سدس تلك الليلة ا هـ. وإليه أشار المصنف بقوله: ( هذا هو الغالب ويتطرق إليه تفاوت في بعض البروج) التي يقطعها الشمس ( وشرح ذلك يطول) ؛ إذ [ ص: 332 ] هو علم مستقل ولا يتيسر فهمه وتفهيمه إلا بعد بسط مقدمات وتمهيد مهمات، وقد قال أبو حنيفة الدينوري في كتاب الأنواء والنجوم: اعلم أنه لا يجد من أحب علم الاهتداء بالنجوم بدا من التقدم بمعرفة أعيان ما يحتاج إليه منها، واعتياد النظر إليها في جميع آناء الليل حتى يعرفها كمعرفة ولده؛ لئلا تلتبس عليه إذا هي اختلفت أماكنها في أوقات الليل، ويحتاج بعد ذلك إلى معرفة مطالعها ومغاربها، وحال مجاريها من لدن طلوعها إلى غروبها؛ لأن ذلك مما يبدل أعيان الكواكب في الأبصار ويدخل على القلوب الحيرة ويورث الشبهة، ويحتاج أيضا إلى أن يعرف سموت البلدان التي تقصد وجهات الآفاق التي تعمد ليعلم بأي كوكب ينبغي له أن يأتم، فإذا تقدم المرء فأحكم علم ما وصفت، ثم كان مثبتا في النظر فطنا في البصر أدرك علم الهداية إن شاء الله، ( وتعلم منازل القمر) المذكورة وكمية حلول القمر فيها ( من المهمات) الأكيدة ( للمريد حتى يطلع على مقادير الأوقات بالليل وعلى الصبح) ، وبيان ذلك على وجه الاختصار أولا معرفة الطلوع والغروب، وتفصيل الليل والنهار والمشارق والمغارب، أما المشارق فمشارق الأيام وهي جميعا بين المشرقين والمغربين، فمشرق الشمس في أطول يوم في السنة، وذلك قريب من مطلع السماك الرامح، بل مطلع السماك أشد ارتفاعا في الشمال منه قليلا، وكذلك مغرب الصيف وهو على نحو ذلك من مغرب السماك الرامح، ومشرق الشتاء مطلع الشمس في أقصر يوم من السنة وهو قريب من مطلع قلب العقرب، بل هو أشد انحدارا في الجنوب، ومطلع قلب العقرب قليلا، وكذلك مغرب الشتاء هو على نحو ذلك من مغرب قلب العقرب، فمشارق الأيام ومغاربها في جميع السنة هي كلها بين هذين المشرقين والمغربين، فإذا طلعت الشمس من أخفض مطالعها في أقصر يوم من السنة لم تزل بعد ذلك ترتفع في المطالع، فيطلع كل يوم من مطلع فوق مطلعها بالأمس طالبة مشرق الصيف فلا تزال على ذلك حتى تتوسط المشرقين، وذلك عند استواء الليل والنهار في الربيع فذلك مشرق الاستواء، وهو قريب من مطلع السماك الأعزل، بل هو أميل إلى مشرق الصيف من مطلع السماك الأعزل قليلا، ثم تستمر على حالها من الارتفاع في المطالع إلى أن تبلغ مشرق الصيف الذي بيناه، فإذا بلغته كرت راجعة في المطالع منحدرة نحو مشرق الاستواء حتى إذا بلغته استوى الليل والنهار في الخريف ثم استمرت منحدرة حتى تبلغ منتهى مشارق الشتاء الذي قد بيناه، فهذا دأبها، وكذلك شأنها في المغارب على قياس ما بيناه في المطالع، فأما القمر فإنه متجاوز في مشرقيه ومغربيه مشرقي الشمس ومغربيها، فيخرج عنهما في الجنوب والشمال قليلا، فمغرباه ومشرقاه أوسع من مغربي الشمس ومشرقيها، والنهار محسوب من طلوع الشمس إلى غروبها، والليل من غروب الشمس إلى طلوعها، قال الكلابي: فلا يعد شيء قبل طلوعها من النهار، ولا شيء قبل غروبها من الليل، هذا في الحساب، وقال أبو حنيفة الدينوري في كتاب الأنواء والنجوم: قد بينا فيما مضى أن النجوم السيارة سبعة، وأنها هي التي تقطع البروج والمنازل فهي تنتقل فيها مقبلة ومدبرة لازمة لطريقة الشمس أحيانا وناكبة عنها أحيانا، إما في الجنوب وإما في الشمال، ولكل نجم منها في عدوله عن طريقة الشمس مقدار إذا هو بلغه عاود في مسيرة الرجوع إلى طريقة الشمس، وذلك المقدار من كل نجم منها مخالف لمقدار النجم الآخر، فإذا عزلت هذه النجوم السبعة عن نجوم السماء سميت الباقية كلها ثابتة تسمية على الأغلب؛ لأن لها حركة خفية تفوت الحس إلا في المدة الطويلة؛ وذلك لأنه في كل مائة عام درجة واحدة، وهو على تأليف البروج أعني من الحمل إلى الثور، ثم إلى الجوزاء سيرا مستمرا لا يعرض لشيء منها رجوع إلا كوكبا واحدا؛ فإنه سيار خلاف هذه الثوابت، وهو كوكب الذنب، وإنما يظهر في الزمان دون الزمان، ولما أرادوا تمييز كواكب السماء بدؤوا فقسموا الفلك نصفين بالدائرة التي هي مجرى رؤوس برجي الاستواء، وهما الحمل والميزان، وسموا أحد النصفين جنوبيا والآخر شماليا، وسموا الكواكب الواقعة في إحداهما كذلك، وسمت العرب الشمالية شامية والجنوبية يمانية، فكل كوكب مجراه فيما [ ص: 333 ] بين القطب الشمالي وبين مدار السماك الأعزل، أو فويقيه قليلا فهو شآم، وما كان دون تلك إلى ما يلي القطب الجنوبي فهو يمان، واعلم أن كل منزلة من منازل القمر المذكورة طولها اثنتا عشرة درجة وإحدى وخمسون دقيقة بالتقريب، وأقسام هذه المنازل من دائرة فلك البروج متساوية مأخوذة من أول الجمل، وصورها من الكواكب الثابتة مختلفة المقدار مختلفة المواضع من فلك البروج، وإذا طلعت منزلة غابت نظيرتها وهي الخامسة عشر منها، واعلم أن الكواكب إذا كانت في آفاق السماء كانت أعظم في المنظر، وكان البعد الذي بينهما أيضا واسعا في المرأى، فإذا توسطت كانت في العين أصغر ورئيت أيضا أشد تقاربا، وكذلك ترى الكوكب إذا طلع متقدما لكوكب آخر حتى إذا تدليا عن وسط السماء يطلبان الغور صار المتقدم منهما متأخرا والمتأخر متقدما حتى يغيب أبطؤهما طلوعا ويبقى صاحبه بعده مدة والكواكب القريبة من القطب لا تغيب عن أهل نجد وتهامة، ولا عمن دونهم إلى أقصى الشمال، ولكن لها غيوب عمن وراءهم في الجنوب، والتي تلي هذه فإن لها في الليلة الواحدة غروبا وطلوعا، ترى الكوكب منها عشاء في جهة المغارب، ثم تراه آخر الليل طالعا وما التف بهذه الكواكب وبعضها أكثر دوام رؤية من بعض؛ فإن منها ما يرى كذلك شهرا ومنها ما تراه أكثر، ومنها ما تراه أقل، وفي هذا القدر من معرفة النجوم للاهتداء كفاية للمريد، فما قل وكفى خير مما كثر وألهى .

التالي السابق


الخدمات العلمية