إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
السابعة صلاة الاستخارة .

فمن هم بأمر وكان لا يدري عاقبته ولا يعرف أن الخير في تركه ، أو في الإقدام عليه ؛ فقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يصلي ركعتين يقرأ في الأولى فاتحة الكتاب ، وقل يا أيها الكافرون ، وفي الثانية الفاتحة ، وقل هو الله أحد ، فإذا فرغ دعا وقال : اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ، ودنياي وعاقبة أمري وعاجله وآجله فاقدره لي وبارك لي فيه ثم يسره لي وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ودنياي وعاقبة أمري وعاجله وآجله فاصرفني عنه واصرفه عني واقدر لي الخير أينما كان إنك على كل شيء قدير رواه جابر بن عبد الله قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن ، وقال صلى الله عليه وسلم : إذا هم أحدكم بأمر فليصل ركعتين ، ثم ليسم الأمر ، ويدعو بما .

ذكرنا
.


( السابعة صلاة الاستخارة) ، وأصل الاستخارة طلب الخيرة من الله عز وجل، ( فمن هم بأمر) من أمور دنياه أو آخرته، ( وكان لا يدري عاقبته) ماذا، ( ولا يعرف) أي: لا يهتدي إلى ( أن الخيرة في تركه، أو في الإقدام عليه؛ فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم) أصحابه ( بأن يصلي) من أهمه ذلك ( ركعتين من غير الفريضة يقرأ في الأولى فاتحة الكتاب، وقل يا أيها الكافرون، وفي الثانية الفاتحة، وقل [ ص: 468 ] هو الله أحد، فإذا فرغ) من صلاته رفع يديه ( ودعا وقال: اللهم) أي: يا الله اقصد، فأدخل الإرادة؛ لأن القصد الإرادة فحذف الهمزة، واكتفى بالهاء من الله لقرب المخرج، والمجاورة، وليدل بذلك على عظيم الوصلة ( إني) أي: اقصد حقيقتي؛ آنية الشيء حقيقته .

( أستخيرك بعلمك) أي: يا الله اقصد حقيقتي بما اختاره علمك مما لحقيقتي فيه خير، ( وأستقدرك بقدرتك) ؛ لأن القدرة صفة الإيجاد، وهي أخص تعلقا من العلم فيصرف بالعلم، ويوجد بالقدرة، ولا يصرف بها؛ فقدم العلم على القدرة؛ لأنه قد تكون الخيرة له في ترك ما طلب تحصيله فكأنه يقول: وإن كان في تحصيل ما طلبته خير لي فإني أستقدرك بقدرتك أي أقدرني على تحصيله إن كان ممن يقول بنسبة الفعل للعبد وتكون الإضافة في قوله بقدرتك أي بالقدرة التي تخلقها في عبادك وإن كان ممن يقول بنسبة القدرة للعباد فقوله بقدرتك يعني قدرة الحق التي هي صفته أي: المنسوبة إليه بحكم الصفة لا بحكم الخلق، ( وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر) يتجه قول هذا من الطائفتين أي: فإنك تقدر أن تخلق لي القدرة على تحصيله، إن كان قد علمت أن لي فيه خيرا، وقد يريد الإخبار عن حقيقة نفي القدرة عن العبد، فيقول: فإنك تقدر على إيجاده، وتحصيل ما طلبته، ولا أقدر أي ما لي قدرة أحتمله بها، ( وتعلم) ما يصلح لي من الخير، ( ولا أعلم) وهذا الذي توجهت في طلبه ( وأنت علام الغيوب) أي: ما غاب عني، وأنت تعلمه، ولتعلم أن العلم بالأمر لا يقتضي شهوده، فدل أن نسبة رؤية الأشياء غير نسبة العلم بها؛ فالنسبة العلمية تتعلق بالشهادة والغيب فإنه من شاهد شيئا فقد علمه، ولا يلزم من علم شيئا أن يشهده، وما ورد في الشرع قط أن الله يشهد الغيوب، كما ورد أنه يعلمها؛ ولهذا وصف نفسه بالرؤية والبصر والعلم، ففرق بين النسب، وميز بعضها عن بعض، ليعلم ما بينها، ولما لم يتصور أن يكون في حق الله غيب علمنا أن الغيب أمر إضافي لما غاب عنا، فكأنه يقول: علام الغيوب؛ أي: يعلم ما غاب عنا، وكذلك عالم الغيب والشهادة؛ أي: يعلم ما غاب عنا، وما نشهده ويشهده؛ فإنه لا يلزم من شهود الشيء العلم بحقيقة ذلك الشيء، ويلزم من العلم بالشيء معرفة حقيقته، وإن لم يكن كذلك فما علمته فالأشياء كلها مشهودة للحق في حال عدمها، ولو لم تكن مشهودة لما حض من بعضها بالخروج على التعيين دون بعض؛ إذ العدم المحض لا يقع فيه تمييز، فكون العلم ميز الأشياء، وفضل بعضها عن بعض هو المعبر عنه بشهوده إياها، وتعيينه لها أي: هي بعينه يراها، وإن كانت موصوفة بالعدم لنفسها، فما هي معدومة لله الحق كما تصور الإنسان المخترع للأشياء صورة ما يريد اختراعها في نفسه، ثم يبرزها فيظهر عينها لها فاتصفت بالوجود العيني، وكانت في حال عدمها موصوفة بالوجود الذهني في حقنا، والوجود العلمي في حق الله ظهور الأشياء من وجود إلى وجود، من وجود شهودها لموجدها إلى وجود شهودها لأعين المحدثات، والمحال الذي هو العدم المحض لا يتصور فيه تميز البتة .

( اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر) الذي تحركت لأجله، ويسمي حاجته حينئذ ( خير لي) في فعله، وظهور عينه ( في ديني، ودنياي) ، وفي بعض الروايات: ومعاشي بدل دنياي ( وعاقبة أمري وعاجله) كذا في النسخ، والمشهور في هذا الدعاء أو قال في عاجل أمري بدل قوله وعاقبة أمري؛ لكان جمع احتياطا للروايات ( وآجله فقدر) كذا في النسخ، والرواية المشهورة: فاقدره ( لي) أي: فاخلقه من أجلي ( ثم يسره لي) يعني بذلك الأسباب التي علامات على تحصيل المطلوب، وفي رواية: يسره لي، وفي أخرى: وبارك لي فيه، ثم يسره لي، ( وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ودنياي) ، وفي رواية: ومعاشي بدل دنياي، ( وعاقبة أمري وعاجله) ، وفي رواية: أو قال: في عاجل أمري وآجله، ( فاصرفه عني) إن كان الخير في تركه، وعدم ظهور عينيه لكوني استحضرته في خاطري، فقد اتصف بضرب من الوجود، وهو تصوره في خاطري فلا تجعله حاكما لي بظهور عينه؛ فهذا معنى قوله: فاصرفه عني، ثم قال: ( واصرفني عنه) أي: حل بيني وبين وجوده في خاطري، واجعل بيني وبينه الحجاب الذي بين الوجود والعدم حتى لا أستحضره، ولا يحضر لي، ( واقدر لي الخير أينما كان) ، وفي رواية: حيث كان أي: أنت أعلم بالأماكن التي لي الخير فيها من غيرها، وبعده زيادة [ ص: 469 ] قوله: ثم أرضني به أي: اجعل عندي السرور والفرح بحصوله أو بتركه، وعدم حصوله من أجل ما اخترته في سابق علمك، ( إنك على كل شيء قدير) ، قال: ويسمي حاجته، ( رواه جابر بن عبد الله) الأنصاري رضي الله عنه ( قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن، وقال: إذا هم أحدكم بأمر فليصل ركعتين، ثم يسمي الأمر، ويدعو بما ذكرنا) ، وهذا يشعر بأن تسمية الأمر قبل الدعاء، والصحيح أنه بعده كما هو في رواية الجماعة، والاستخارة في الحج والجهاد وجميع أبواب الخير تحمل على تعيين الوقت لا على نفس الفعل، وإذا استخار مضى لما ينشرح له صدره، وينبغي أن يكررها سبع مرات، ثم انظر إلى الذي سبق إلى قلبك فهو الخير. قال العراقي : رواه البخاري من حديث جابر، وقال أحمد: حديث منكر. ا هـ .

قلت: رواه الجماعة إلا مسلما، وروى ابن أنس في عمل يوم وليلة، والديلمي في الفردوس من حديث أنس: "إذا هممت بأمر فاستخر ربك فيه سبع مرات، ثم انظر إلى الذي يسبق إلى قلبك، فإن الخيرة فيه" قال الحافظ ابن حجر في الفتح بعدما عزاه لابن السني: هذا الحديث لو ثبت لكان هو المعتمد، لكن سنده واه جدا ا هـ، وكأنه يشير إلى أن في سنده إبراهيم بن البراء، قال الذهبي : اتهموه بالوضع، وقال النووي فيه: إنه يفعل بعد الاستخارة ما ينشرح له صدره، لكنه لا يقدم على ما كان فيه هوى قبل الاستخارة، قال: والأكمل الاستخارة عقيب ركعتين بنيتها، ويحصل أصل السنة بمجرد الدعاء .

( فصل) وقال الشيخ الأكبر قدس سره: ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أصحابه الاستخارة كما يعلمهم السورة من القرآن، وورد أنه كان يأمر أن يصلى لها ركعتان، ويوقع الدعاء عقب الصلاة من الركعتين اللتين يصليهما من أجلها، واستحب له أن يقرأ في الأولى فاتحة الكتاب، وقل هو الله أحد، ويدعو بالدعاء المروي في ذلك عقيب السلام، يفعل ذلك في كل حاجة مهمة يريد فعلها أو قضاءها، ثم يشرع في حاجته، وإن كان له فيها خيرة سهل الله أسبابها إلى أن تحصل فتكون عاقبتها محمودة، وإن تعذرت الأسباب، ولم يتفق تحصيلها فيعلم أن الله قد اختار تركها فلا يتألم لذلك، وسيحمد عاقبتها تركا كان أو فعلا، وينبغي لأهل الله أن يواصلوا صلاة الاستخارة في وقت معين لهم من ليل أو نهار في كل يوم، فإذا قالوا الدعاء يقولون في الموضع الذي أمر أن يسمي حاجته المعينة، يقول: اللهم إن كنت تعلم أن جميع ما يتحرك فيه في حقي، وفي حق أهلي، وولدي وما ملكت يميني من ساعتنا هذه إلى مثلها من اليوم الآخر خير لي، ويذكر الدعاء المذكور وإن كنت تعلم أن جميع ما أتحرك فيه في حقي، وفي حق غيري، وجميع ما يتحرك فيه في حقي، وفي حق أهلي، وولدي، وما ملكت يميني من ساعتي هذه إلى مثلها من اليوم الآخر شر لي في ديني، ويذكر باقي الدعاء فإنه لا يتحرك في حركة، ولا يتحرك في حقه كما ذكر إلا كان له في ذلك خير بلا شك، يفعل ذلك في كل يوم في وقت معين، وجربنا ذلك ورأينا عليه كل خير. ا هـ .

وفي الاستخارة صلوات وأدعية بكيفيات متعددة منقولة عن المشايخ، والذي ذكر المصنف هو ما ورد في السنة فينبغي الاقتصار عليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية