إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بسم الله الرحمن الرحيم .

الحمد لله الذي أسعد وأشقى وأمات وأحيا وأضحك وأبكى وأوجد وأفنى وأفقر وأغنى وأضر وأقنى الذي خلق الحيوان من نطفة تمنى ثم تفرد عن الخلق بوصف الغنى ثم خصص بعض عباده بالحسنى فأفاض عليهم من نعمه ما أيسر به من شاء واستغنى وأحوج إليه من أخفق في رزقه وأكدى إظهارا للامتحان والابتلاء .


وهذا أوان الشروع لحل ألفاظ الكتاب - بعون الملك الوهاب .

قال المصنف رحمه الله تعالى: (بسم الله الرحمن الرحيم) ; إذ كل أمر ذي بال لا يبدأ ببسم الله فهو ممحوق البركة، ولما كان كتاب الزكاة ومعرفة أسرارها من مهمات الدين، ولها وقع في النفوس وشأن عظيم، تعين قراءة باسم الله المفيض لأنواع الخيرات، الرحمن بعباده بإدرار الأرزاق من السموات، الرحيم بهم بتزكيتهم عن الذنوب والمعاصي والزلات، ثم أردف ذلك بما افتتح الله سبحانه كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد .

(الحمد لله) ، وهو الثناء على الله على أفعاله فهي جميلة، والشكر على نعمائه فهي جزيلة، والرضا بأقضيته فهي حميدة، والمدح بكل صفاته فهي جليلة .

والحمد بهذه المعاني الأربعة منقول عن السلف الصالح، ذكره الإمام نجم الدين النسفي رحمه الله تعالى، ولما كان الرضا بما قضاه وقدره من جملة ما تضمنه لفظ الحمد أشار إلى ذلك مع نوع من براعة الاستهلال بقوله: (الذي أسعد وأشقى) ، يقال: سعد فلان يسعد، من باب علم سعدا في دين أو دنيا فهو سعيد وأسعده فهو مسعد، ولاحظ المصنف هنا من السعادة كثرة المال، وهو إطلاق صحيح مشهور مراعاة لبراعة الاستهلال، وأشقى ضده، وقد شقي شقا وشقاء. ومن شقاوة الدنيا قلة اليسار وكثرة العيال. (وأمات وأحيا) يحتمل أن يكون المراد به الإماتة والإحياء على ظاهرهما، أو أن المراد بذلك إماتة القلوب بظلام الغفلات، فهو دائما في الكد بتحصيل ما ضمن له الله، وأحياها بأنوار المعارف وأنواع الكمالات فهو غني النفس عما في أيدي لناس لا يعتر به في شهوده نقص ولا إلباس. (وأضحك وأبكى) الضحك لا يكون إلا عن سرور، والسرور نموذج الجمال، ولا يتم الجمال إلا بالمال، ونظر المتنبي إلى هذه؛ فقال:

فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله ولا مال في الدنيا لمن قل مجده

فصاحب المال أبدا ضاحك مسرور، والبكاء ضده، وينشأ عن حزن، والحزن ينشأ من قلة ذات اليد، فترى صاحبه أبدا ذليلا باكيا حيرانا. دخل أصحاب محمد بن سوقة عليه وهو يعجن ويبكي، ويقول: لما قل مالي جفاني إخواني .

(وأوجد وأفنى) الإيجاد هو أن يخلق شيئا لم يكن موجودا، والإفناء إعدامه بعد أن كان، هذا هو الظاهر من معناه، ويحتمل أن يكون من: أوجده، خلق فيه جدة أو جعله ذا جدة أي: سعة، وأفناه سلب عنه ذلك، وهذا المعنى هو الأنسب لبراعة الاستهلال. (وأفقر وأغنى) أي: جعل من شاء فقيرا لا يملك شيئا، وجعل من شاء غنيا مظهرا لآثار نعمه. (وأصر) أي: منع، وفي بعض النسخ (أضر) . (وأقنى) أي: أعطى وأرضى من قنوت الشيء أقنوه قنوا من باب قتل، وقنوة بالكسر وأقتنيه أتخذه لنفسي قنية أي: ملكا لا للتجارة، هكذا قيدوه .

وقال ابن السكيت: قنوت الغنم أقنوها وقنيتها أقنيها: اتخذتها للقنية، وهو مال قنية وقنوة وقنيان وقنوان بالكسر والضم، وأقناه أعطاه وأرضاه. (الذي خلق الحيوان) ، وهو كل ذي قوة حساسة، ناطقا كان أو غير ناطق، مأخوذ من الحياة يستوي فيه الواحد والجمع؛ لأنه مصدر في الأصل (من نطفة) هي بضم النون: الماء الصافي قل أو كثر، ويطلق على ماء الذكر والأنثى على التشبيه؛ لأنها صافية لتولدها من خالص الغذاء .

(إذا تمنى) يقال: منى الرجل يمني كرمى يرمي لغة، في أمنى إمناء أراق منيه، ومعنى تمنى أي: تراق وتصب أي: في الأرحام، وفيه إشعار بأن الذي في يد الإنسان ملك لله تعالى، وهو الموجد، وهو الغني، وكيف يصلح منه أن يدعي ملكا، وهو من نطفة مذرة؟! أم كيف يفتخر ومعاده إلى جيفة قذرة؟! أم كيف يتكبر وهو حامل بينهما عذرة؟! فما ملكت يداه هو بتمليك مولاه إياه، فمن منع حق الله منه فهو الشحيح الذي لا حظ له في الإسلام .

(ثم تفرد عن الخلق بوصف الغني) فلا تعلق له بغيره لا في ذاته ولا في [ ص: 6 ] صفاته، بل هو منزه عن العلاقة مع الأغيار، ولا يتصور التفرد بهذا الوصف إلا لله تعالى، ومن تعلق ذاته أو صفات ذاته بأمر خارج من ذاته يوقف عليه وجوده وكماله، فهو محتاج وفقير إلى الكسب .

(ثم خصص بعض عباده) من فائض فضله (بالحسنى) تأنيث الأحسن، أفعل من الحسن بالضم اسم لكل ملائم للطبع، مرغوب فيه، مستحسن من جهة الحس والبصيرة، ومن الحسن كون الشيء صفة كمال كالعلم، وكون الشيء يتعلق به المدح كالعبادة، والحسن لمعنى في نفسه ما اتصف بالحسن لمعنى ثبت في ذاته كالإيمان بالله وصفاته، والحسن لمعنى في غيره ما اتصف بالحسن لمعنى ثبت في غيره كإخراج المال فإنه لا يحسن لذاته؛ لأنه تنقيص الأموال، وإنما حسن لما فيه من النماء والتطهير، وليحصل التعاون بتحقيق مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: " المؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا " .

(فأفاض عليه) أي: منحه منحا متتابعا مفاضا إفاضة السيل إذا أخذ من كل جانب، وبملاحظة هذا العموم قيل: اتق شر الأعميين: السيل والليل، (من نعمه) المتوالية المتتابعة، (ما أيسر به) أي: صار ذا يسار، (واستغنى) أي: صار متصفا بالغنى بإغناء الله إياه، وإمداده له في كل ما يحتاجه واليه، والذي يحتاج ومعه ما يحتاج إليه فهو مستغن في الجملة، وإنما قلنا ذلك؛ لأن التفرد بوصف الغنى مطلقا ليس إلا لله تعالى، ويحتمل أن يكون السين في استغنى للوجدان، والمعنى من أفاض الله عليه من المعارف والكمالات وجد سر الغنى في قلبه، وانقطعت حاجته عما سوى الحق تعالى، فكان عبدا بالله لله .

(وأحوج إليه) أي: إلى بعض العباد المفاض عليه، (من أخفق في رزقه) أي: خاب سعيه فيه أي: في تحصيله، وأصل الخفق الحركة والاضطراب، والهمزة للسلب والإزالة، (وأكدى) أي: تعب، وأصله من أكدى الحافر إذا وصل إلى الكدية بالضم، وهي الأرض الصلبة، وبه سمي السائل الملح مكديا، وحرفته الكدية (إظهارا للامتحان والابتلاء) ، وكلاهما الاختبار البليغ والبلاء الجهيد، وسميت الدنيا دارا لهما؛ لما فيها كل ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية