إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ومعنى الإنفاق في سبيل الله : إخراج حق الزكاة
(ومعنى الإنفاق في سبيل الله: إخراج حق الزكاة) فمن أخرج القدر المعلوم من المال لله تعالى فلا يكون داخلا تحت هذا الوعيد، فحينئذ فلا نسخ على ما زعم ابن عبد البر، وقد أشار إليه الرماني في شرح البخاري، واتفقوا أن هذه الآية نزلت فيمن لم يؤد زكاة ماله، وهي عامة في المسلمين وأهل الكتاب، وعليه أكثر السلف خلافا لمن ذهب إلى أنها خاصة بالكفار، ووقع في شأن نزولها التشاجر بين أبي ذر وبين معاوية رضي الله عنهما، حتى أدى ذلك إلى خروج أبي ذر من الشام إلى المدينة، ثم منها إلى الربذة وبها مات سنة اثنين وثلاثين، قال أبو بكر بن أبي شيبة في المصنف: حدثنا ابن إدريس عن حصين عن زيد بن وهب قال: مررنا على أبي ذر بالربذة، فسألناه عن منزله، قال: كنت بالشام فقرأت هذه الآية والذين يكنزون الذهب والفضة الآية، فقال معاوية: إنما هي في أهل الكتاب، فقلت: إنها لفينا وفيهم.

وأخرجه البخاري عن علي غير منسوب أنه سمع هشيما أخبره حصين عن زيد بن وهب فساقه نحوه، وفي آخره: فكان بيني وبينه في ذلك، وكتب إلى عثمان يشكوه، فكتب إلي عثمان أن اقدم المدينة فقدمتها.. وساق الحديث .

قال ابن عبد البر: إن أكثر ما تواتر عن أبي ذر في الأخبار الإنكار على من أخذ المال من السلاطين لنفسه ومنع أهله، فهذا مما لا خلاف عنه في إنكاره، وأما إيجاب غير الزكاة [ ص: 9 ] فمختلف عنه فيه. قلت: وأخرج أبو نعيم في الحلية من طريق حميد بن هلال -عبد الله بن الصامت ابن أخي أبي ذر- قال: دخلت مع عمي على عثمان، فقال لعثمان: ائذن لي بالربذة.. فذكر الحديث، وفيه: وكانوا يقتسمون مال عبد الرحمن بن عوف، وكان عنده كعب، فقال عثمان لكعب: ما تقول فيمن جمع هذا المال فكان يتصدق منه، ويعطي ابن السبيل ويفعل ويفعل؟ قال: إني لأرجو له خيرا، فغضب أبو ذر ورفع العصا على كعب، وقال: ما يدريك يا ابن اليهودية؟! ليودن صاحب هذا المال يوم القيامة أن لو كانت عقارب تلسع السويداء من قلبه.

وروي أيضا من طريق سعيد بن الحسن عن عبد الله بن الصامت قال: إن خليلي عهد إلي أنه أيما ذهب أو فضة أوكئ عليه فهو جمر على صاحبه حتى ينفقه في سبيل الله.

تنبيه

الإنفاق ضربان: ممدوح، ومذموم. والممدوح منه ما يكسب صاحبه العدالة، وهو بذل ما أوجبت الشريعة بذله كالصدقة المفروضة والإنفاق على العيال، وهو من ألزمته الشريعة الإنفاق عليه، ومنه ما يكسب صاحبه الحرمة، وهو بذل ما ندبت الشريعة إلى بذله؛ فهذا يكسب من الناس شكرا، ومن ولي النعمة أجرا .

والمذموم ضربان: إفراط وهو التبذير والإسراف، وتفريط وهو التقتير والإمساك، وكلاهما يراعى فيه الكمية والكيفية؛ فالتبذير من جهة الكمية أن يعطي أكثر مما يحتمله حاله، ومن جهة الكيفية فبات يضعه في غير موضعه، والاختبار فيه بالكيفية أكثر منه بالكمية؛ فرب منفق درهما من الوف، وهو في إنفاقه مسرف ويبذله مفسد ظالم، ورب منفق ألوفا لا يملك غيرها هو فيها مقتصد وببذلها متحمد، كما روي في شأن الصديق رضي الله عنه .

والتقتير من جهة الكمية أن ينفق دون ما يحتمله حاله، ومن حيث الكيفية أن يمنع من حيث يجب ويضع حيث لا يجب، والتبذير عند الناس أحمد؛ لأنه جود لكنه أكثر مما يجب، والتقتير بخل، والجود على كل حال أحمد من البخل؛ لأن رجوع المبذر إلى السخاء سهل وارتقاء البخيل إليه صعب، ولأن المبذر قد ينفع غيره وإن أضر بنفسه، والمقتر لا ينفع غيره ولا نفسه، على أن التبذير في الحقيقة هو من وجه أقبح؛ إذ لا إسراف إلا وبجنبه حق مضيع، ولأن التبذير يؤدي بصاحبه إلى أن يظلم غيره؛ ولهذا قيل: إن الشحيح أغدر من الظالم؛ لأنه جاهل بقدر المال الذي هو سبب استبقاء النفس، والجهل رأس كل شر، والمتلاف ظالم من وجهين: لأخذه من غير موضعه، ووضعه في غير موضعه .

وسيأتي إلمام لهذا البحث في كلام المصنف، فليكن ذلك على ذكر منك .

التالي السابق


الخدمات العلمية