إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ومنها الغيبة وقد شبهها الله بأكل الميتة ولا يزال المناظر مثابرا على أكل الميتة فإنه لا ينفك عن حكاية كلام خصمه ومذمته وغاية تحفظه أن يصدق فيما يحكيه عليه ولا يكذب في الحكاية عنه فيحكي عنه لا محالة ما يدل على قصور كلامه وعجزه ونقصان فضله وهو الغيبة فأما الكذب فبهتان وكذلك لا يقدر على أن يحفظ لسانه عن التعرض لعرض من يعرض عن كلامه ويصغي إلى خصمه ويقبل عليه حتى ينسبه إلى الجهل والحماقة وقلة الفهم والبلادة .

ومنها تزكية النفس قال الله سبحانه وتعالى فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى وقيل لحكيم ما الصدق القبيح فقال ثناء المرء على نفسه .

ولا يخلو المناظر من الثناء على نفسه بالقوة والغلبة والتقدم على الأقران ولا ينفك في أثناء المناظرة عن قوله لست ممن يخفى عليه أمثال هذه الأمور وأنا المتفنن في العلوم والمستقل بالأصول وحفظ الأحاديث وغير ذلك مما يتمدح به تارة على سبيل الصلف وتارة للحاجة إلى ترويج كلامه ومعلوم أن الصلف والتمدح مذمومان شرعا وعقلا .


(ومنها) أي: ومن آفات المناظرة (الغيبة) أن تذكر أخاك بما يكرهه أو ذكر العيب بظهر الغيب (وقد شبهها الله تعالى) في كتابه العزيز (بأكل الميتة) فقال: أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه وقال تعالى: هماز مشاء بنميم ، وسيأتي ما يتعلق بذلك في الربع الثالث (ولا يزال المناظر) في المجالس (مثابرا) أي: مجتهدا صابرا (على) هذا الوصف الذميم الذي هو (أكل الميتة) واستذواق الجيفة (فإنه لا ينفك عن حكاية كلام خصمه) وإيراده إياه في المجلس (ومذمته) إياه (وغاية تحفظه) وتماسكه أن يصدق عليه فيما ينقله عنه ويحكيه ( ولا يكذب في الحقيقة فيحكي عنه لا محالة ما يدل على قصور) فهمه وفتور (كلامه وعجزه) في تقريره (ونقصان فضله و) هذا (هو الغيبة) التي مر تعريفها (فأما الكذب فبهتان) أي: إن كان فيه ذلك الوصف الذي ذكره فقد اغتابه وإلا فقد بهته أي: قال عليه ما لم يفعله (وكذلك لا يقدر) المناظر (على أن يحفظ لسانه عن التعرض لعرض من يعرض عن كلامه) ولا يميل إليه (ويصغي إلى خصمه ويقبل عليه) بأنواع الوقيعة بلسانه والمذام (حتى ينسبه إلى الجهل والحماقة) أي: ومن آفات المناظرة (تزكية النفس) وهو نماؤها بمدحها (قال الله تعالى) في كتابه العزيز ( فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى ) أي لا تنسبوها إلى التطهير المقتضي لأن تكونوا [ ص: 298 ] عدولا أتقياء، ولذلك قال: بل الله يزكي من يشاء أي: نسب من يشاء من عباده إلى ذلك ومن هذا قال تعالى: وكذلك جعلناكم أمة وسطا ، كنتم خير أمة أخرجت للناس ، فهذه والله التزكية قاله السمين: (وقيل لحكيم) من الحكماء ( ما الصدق القبيح) مع أن الصدق لا يوصف بالقبح ولكن قد يكون ذلك (فقال ثناء المرء على نفسه) فإنه في الجملة صدق مطابق لما هو الواقع إلا أنه لنفسه قبيح وفي الذريعة: وأما ثناء المرء على نفسه فشناعة وفظاعة فقد قيل لحكيم: ما الذي لا يحسن وإن كان حقا فقال: مدح الرجل نفسه، وقال معاوية -رضي الله عنه- لرجل: من سيد قومك قال: أنا، قال: لو كنته لما قلته، ولقد أحسن ابن الرومي حيث اعتذر عن مدح نفسه قصدا إلى الدلالة على مكانه فقال:

وعزيز علي مدحي لنفسي غير أني حسمته للدلالة     وهو عيب يكاد يسقط فيه
كل حر يريد إظهار آله

(ولا يخلو المناظر من الثناء على نفسه) بحسن أوصافه وكثرة كمالاته (بالقوة) في العلم (والغلبة) على الخصم (والتقدم على الأقران) والأمثال أبدا (بالفضل ولا ينفك في أثناء المناظرة من قوله) إذا قال له خصمه قولا ينهيه عليه أو دليلا لم يخطر بباله (لست ممن يخفى عليه هذه الأمور) ينسب بذلك إلى نفسه الكمال والإجلال (ويقول) في أثناء كلامه (أنا المتفنن في العلوم) العقلية والنقلية (وأنا المستقل بالأصول) الدينية أي: حامل أعبائها على جهة الاستقلال (و) أنا المتوحد في (حفظ الأحاديث) النبوية (وغير ذلك مما يتمدح به تارة على سبيل الصلف) والتكبر (وتارة للحاجة) الداعية (إلى ترويج) أي: تزيين (كلامه ومعلوم أن) كلا (من الصلف والتمدح) وفي نسخة: البذخ (مذموم شرعا وعقلا) فينبغي التجنب عن ذلك نسأل الله الإغاثة والتوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية