إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
فإن وجد خمسة أصناف مثلا قسم بينهم زكاة ماله بخمسة أقسام متساوية أو متقاربة وعين لكل صنف قسما ، ثم قسم كل قسم ثلاثة أسهم فما فوقه ، إما متساوية أو متفاوتة ، وليس عليه التسوية بين آحاد الصنف فإن له أن يقسمه على عشرة وعشرين ، فينقص نصيب كل واحد .

وأما الأصناف فلا تقبل الزيادة والنقصان فلا ينبغي أن ينقص في كل صنف عن ثلاثة إن وجد
(فإن وجد خمسة أصناف) من الثمانية (مثلا قسم بينهم زكاة ماله) إن وفت، وإلا فمن الزكوات كما تقدم (بخمسة أقسام متساوية وعين لكل صنف قسما، ثم قسم كل قسم ثلاثة أسهم فما فوقها، إما متساوية أو متفاوتة، وليس عليه التسوية بين آحاد الصنف) سواء استوعبوا أو اقتصر على بعضهم فلا يجب (فله أن يقسمه على عشرة وعشرين، فينقص نصيب كل واحد) ، لكن إذا تساوت الحاجات يستحب التسوية (وأما الأصناف فلا تقبل الزيادة والنقصان) وإن كانت حاجة بعضهم أشد فالتسوية بينهم واجبة، إلا أن العامل لا يزاد على أجرة عمله كما سيأتي، ثم إن عدم وجوب التسوية بين آحاد الأصناف مقيد بما إذا قسم المالك، فأما إن قسم الإمام فلا يجوز تفضيل بعضهم على بعض عند تساوي الحاجات؛ لأن عليه التعميم فلزمه التسوية، والمالك لا تعميم عليه فلا تسوية، قاله صاحب التتمة .

قال النووي: وهذا التفصيل وإن كان قويا في الدليل فهو خلاف مقتضى إطلاق الجمهور استحباب التسوية، وحيث لا يجب الاستيعاب، قال الأصحاب: يجوز الدفع إلى المستحقين من المقيمين في البلاد والغرباء، ولكن المواطنون أفضل؛ لأنهم جيرانه، (ولا ينبغي أن ينقص في كل صنف من ثلاثة إن وجد) ؛ لأنه تعالى ذكرهم بلفظ الجمع، وأقل الجمع ثلاثة، فاقتضى أن يكون أقل ما يجزئ من كل صنف ثلاثة، قال الرافعي: وإن لم يمكن الاستيعاب سقط الوجوب والاستحباب، لكن لا ينقص الذين ذكرهم الله تعالى بلفظ الجمع من الفقراء وغيرهم عن ثلاثة إلا العامل، فيجوز أن يكون واحدا، وهل يكتفى في ابن السبيل بواحد؟ [ ص: 99 ] وجهان؛ أصحهما: المنع كالفقراء، قال بعضهم: ولا يبعد طرد الوجهين؛ أي: الوجوب والاستحباب في الغزاة؛ لقوله تعالى: وفي سبيل الله بغير لفظ الجمع .

(تنبيه)

إذا عدم في بلد جميع الأصناف وجب نقل الزكاة إلى أقرب البلاد إليه، فإن نقل إلى الأبعد فهو على الخلاف، وإن عدم بعضهم فإن كان العامل سقط سهمه، وإن كان غيره؛ فإن جوزنا نقل الزكاة نقل نصيب الباقي وإلا فوجهان؛ أحدهما: ينقل، وأصحهما: يرد على الباقين، فإن قلنا: ينقل، فينقل إلى أقرب البلاد، فإن نقل إلى غيره أو لم ينقل ورده على الباقين ضمن، وإن قلنا: لا ينقل فنقل ضمن ولو وجد الأصناف فقسم فنقص سهم بعضهم عن الكفاية زاد سهم بعضهم عليها، فهل يصرف ما زاد إلى من نقص نصيبه، أم ينتقل إلى ذلك النصف بأقرب البلاد فيه؟ هذا الخلاف، وإذا قلنا: يرد على من نقص سهمهم رد عليهم بالتسوية، فإن استغنى بعضهم ببعض للردود قسم الباقي بين الآخرين بالسوية، ولو زاد نصيب جميع الأصناف على الكفاية أو نصيب بعضهم ولم ينقص نصيب الآخرين نقل ما زاد إلى ذلك الصنف .

(فصل)

وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد: يجوز وضع الصدقات في صنف واحد من الأصناف الثمانية، وعبارة أصحابنا: صاحب المال مخير إن شاء أعطى جميعهم وإن شاء اقتصر على صنف واحد، وكذا يجوز أن يقتصر على شخص واحد من أي صنف شاء، وهو قول جماعة من الصحابة: عمر بن الخطاب، وعلي، وابن عباس، ومعاذ بن جبل، وحذيفة بن اليمان، وآخرين. ولم يرو عن غيرهم من الصحابة خلاف ذلك، فكان إجماعا .

كذا في شرح الكنز. ورواه البيهقي في السنن عن عمر وحذيفة وابن عباس من عدة طرق وأعلاها، ومن جملة تلك الطرق أنه أخرجه عن الحسن هو ابن عمارة عن الحكم عن مجاهد عن ابن عباس، قلت: قد جاء هذا من وجه آخر رواه عبد الرازق في مصنفه عن ابن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس قال: إذا وضعتها في صنف واحد من هذه الأصناف فحسبك، وقال الطحاوي وابن عبد البر: لا نعلم لابن عباس وحذيفة في ذلك مخالفا من الصحابة، وقال أبو بكر الرازي: روى ذلك عن عمر وحذيفة وابن عباس، ولا يروى عن أحد من الصحابة خلافه، ومما احتج به أصحاب الشافعي ما رواه أبو داود في سننه عن زياد بن الحارث العدائي، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعته.. وذكر حديثا طويلا، فأتاه رجل، فقال: أعطني من الصدقة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو، فجزأها ثمانية أجزاء؛ فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك. اهـ .

وقالوا: إنه نص فيه، وقد أخرجه البيهقي كذلك وسكت عنه، قال المنذري في مختصر السنن: في إسناده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي، وقد تكلم فيه غير واحد اهـ .

وكذا ذكره صاحب التمهيد أنه انفرد به، وهو ضعيف، وضعفه البيهقي أيضا في باب عتق أمهات الأولاد، وقال في باب فرض التشهد: ضعفه القطان وابن مهدي وابن معين وابن حنبل وغيرهم، ثم على التسليم بصحة هذا الحديث إنما جزأ الله ثمانية؛ لئلا تخرج الصدقة عن تلك الأجزاء، ومما احتج به أصحابنا قوله تعالى: وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم بعد قوله تعالى: إن تبدوا الصدقات فنعما هي وقد تناول جنس الصدقات وبين أن إتيانها في الفقراء لا غيرهم خير لنا، ولا يقال: أراد به نصيبهم؛ لأن الضمير عائد إلى الصدقات، وهو عام يتناول جميع الصدقات، وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين وجهه إلى اليمن: أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد إلى فقرائهم. رواه البخاري ومسلم.

وأخرج ابن جرير في التفسير عن عمران بن عيينة عن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: إنما الصدقات للفقراء والمساكين الآية. قال: في أي صنف وضعته أجزأك. وعن جرير عن ليث عن عطاء عن عمر بن الخطاب قال: أيما صنف أعطيته من هذا أجزأ عنك. وعن حفص عن ليث عن عطاء عن عمر أنه كان يأخذ الفرض من الصدقة، فيجعله في صنف واحد. وعن الحجاج بن أرطاة عن المنهال ابن عمر وعن زيد بن حبيش عن حذيفة أنه قال: إذا وضعتها في صنف واحد أجزأك .

وأخرج نحو ذلك عن [ ص: 100 ] سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح وإبراهيم النخعي وأبي العالية وميمون بن عمران بأسانيد حسنة، ولا يضرنا ضعف ليث هو ابن أبي سليم والحجاج في بعضها، فقد قوى بعض هذه الطرق بعضها، وقد استدل ابن الجوزي في التحقيق بحديث معاذ السابق، فقال: والفقراء صنف واحد، لكن رده الشيخ ابن الهمام وقال: هو غير صحيح، فإن ذلك المقام مقام إرسال البيان لأهل اليمن وتعليمهم، والمفهوم من فقرائهم من اتصف بصفة الفقر أعم من كونه غارما أو غازيا، وسيأتي لذلك بقية في الفصل الثالث، والجواب عما ذكره الشافعي أن اللام هنا للعاقبة، والمعنى عاقبة الصدقات للفقراء لا للتمليك بمعنى أنها ملكهم، وقد تكون للاختصاص وهو أصلها واستعمالها في الملك لما فيه من الاختصاص؛ ولهذا لم يذكر الزمخشري في المفصل غير الاختصاص، وجعلها للتمليك غير ممكن هنا؛ لأنهم غير معينين، ولا يعرف مالك غير معين في الشرع، وكذا الملك غير متعين حتى جاز له نقله إلى غير ذلك المال من جنسه بأن يشتري قدر الواجب من غيره فيدفعه إلى الفقراء، ولأنه لو كانت للملك لما جاز له أن يطأ جارية له للتجارة لمشاركة الفقراء فيها، وهو خلاف الإجماع، ولأن بعضهم ليس فيه لام، وهو قوله: وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب فلا يصح دعوى التمليك، وقولهم: وقد ذكرهم بلفظ الجمع.. إلخ. لا يستقيم؛ لأن الجمع المحلى بالألف واللام يراد به الجنس ويبطل معنى الجمع؛ كقوله تعالى: لا يحل لك النساء من بعد حتى حرمت عليه الواحدة، ولأن بعضهم ذكر باسم المفرد كابن السبيل، واشتراط الجمع فيه خلاف المنصوص، ولم يشترط هو في العامل أن يكون جمعا، والمذكور فيه بلفظ الجمع، وهذا خلف هذا ما قرره الزيلعي في شرح الكنز مع زيادات عليه، وقرره ابن الهمام بوجه آخر، فقال: حقيقة اللام الاختصاص الذي هو المعنى الكلي الثابت في ضمن الخصوصيات من الملك والاستحقاق، وقد يكون مجردا، فحاصل التركيب إضافة الصدقات العام الشامل لكل صدقة متصدق إلى الأصناف، العام كل منها، الشامل لكل فرد فرد، بمعنى أنهم أجمعين أخص بها كلها، وهذا لا يقتضي لزوم كون كل صدقة واحدة ينقسم إلى أفراد كل صنف، غير أنه استحال ذلك فلزم أقل الجمع منه، بل إن الصدقات كلها للجميع أعم من كون كل صدقة لكل فرد فرد، ولو أمكن، أو كل صدقة جزئية لطائفة أو لواحد، وأما على اعتبارات الجمع إذا قوبل بالجمع أفاد من حيث الاستعمال العربي انقسام الآحاد على الآحاد على نحو: جعلوا أصابعهم في آذانهم وركب القوم دوابهم، فالإشكال أبعد حينئذ؛ إذ يفيد أن كل صدقة لواحد، وعلى هذا الوجه فلا يفيد الجمع من كل صنف إلا أنهم صرحوا بأن المستحق هو الله سبحانه وتعالى، غير أنه أمر بصرف استحقاقه إليهم على إثبات الخيار للمالك في تعيين من يصرف إليه، فلا تثبت حقيقة الاستحقاق لواحد إلا بالصرف إليه؛ إذ قبله لا تعين له ولا استحقاق إلا لمعين، وجبر الإمام لقوم علم أنهم لا يؤدون على إعطاء الفقراء ليس إلا للخروج عن حق الله تعالى لا لحقهم، ثم رأينا المروي عن الصحابة نحو ما ذهبنا إليه، ثم ساق ما ذكرناه عن ابن جرير آنفا، ثم قال: وقال أبو عبيد في كتاب الأموال: ومما يدل على صحة ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه بعد ذلك مال فجعله في صنف واحد، وهم المؤلفة قلوبهم: الأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن، وعلقمة بن علاثة، وزيد الخيل. قسم فيهم الذهبية التي بعث بها معاذ من اليمن، وإنما تؤخذ من أهل اليمن الصدقة، ثم أتاه مال آخر، فجعله في صنف آخر وهم الغارمون، فقال لقبيصة بن المخارق حين أتاه وقد تحمل حمالة: يا قبيصة، أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها. وفي حديث سلمة بن صخر البياضي أنه أمر له بصدقة قومه، وأما الآية فالمراد بها بيان الأصناف التي يجوز الدفع إليهم، والله أعلم. اهـ .

التالي السابق


الخدمات العلمية