إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الوظيفة الثامنة: أن يعرف السبب الذي به يدرك أشرف العلوم وأن ذلك يراد به شيئان أحدهما شرف الثمرة والثاني : وثاقة الدليل وقوته وذلك كعلم الدين وعلم الطب فإن ثمرة أحدهما الحياة الأبدية وثمرة الآخر الحياة الفانية فيكون علم الدين أشرف .

ومثل علم الحساب وعلم النجوم فإن علم الحساب أشرف لوثاقة أدلته وقوتها وإن نسب الحساب إلى الطب كان الطب أشرف باعتبار ثمرته والحساب أشرف باعتبار أدلته وملاحظة الثمرة أولى ولذلك كان الطب أشرف وإن كان أكثره بالتخمين .

وبهذا تبين أن أشرف العلوم العلم بالله عز وجل وملائكته وكتبه ورسله والعلم بالطريق الموصل إلى هذه العلوم فإياك أن ترغب إلا فيه وأن تحرص إلا عليه .


( الوظيفة السابعة) : من وظائف المتعلم التسعة:

( أن تعرف السبب الذي به) أي: بتحصيله ( يدرك شرف العلوم) وكمالها ومزيتها ( وإن ذلك يراد به شيآن) لا غير ( أحدهما) وهو أفضلهما ( شرف الثمرة) ، والنتيجة ( والثاني: وثاقة الدليل) ، أي متانته ( وقوته) عطف تفسير، قال الحراني: الوثاقة شد الربط وقوة ما به يربط، ( وذلك كعلم الدين) ، وعلوم الدين ثلاثة: التفسير، والحديث، والفقه ( وكعلم الطب) بأنواعه ( فإن ثمرة أحدهما) الوصول إلى ( الحياة) الأبدية، وهو علم الدين ( وثمرة الآخر) الوصول إلى الحياة الدنيوية المنقطعة ( الفانية) وهو علم الطب; لأنه به يحصل تعديل المزاج وتقويمه ليجري على مجاري الصحة وينقطع ذلك بالموت، الذي يراد به وثاقة الدليل ( مثل علم الحساب) بأنواعه ( وعلم النجوم) بقسميه المأذون في الاشتغال بهما دون باقي الأقسام على ما تقدم، وفي نسخة: وعلم النحو ( فإن) علم ( الحساب أشرف) نظرا ( لوثاقة أدلته وقوتها) وترتيبها على قواعد مضبوطة ( وإذا نسب) علم ( الحساب إلى) علم ( الطب كان) علم ( الطب أشرف من) علم ( الحساب باعتبار ثمرته) التي هي الحياة ( و) علم ( الحساب أشرف) من علم الطب ( باعتبار) وثاقة ( أدلته) ومتانتها، ( و) لا يخفى أن ( ملاحظة الثمرة أولى) من النظر إلى وثاقة الدليل، ( ولذلك كان) علم ( الطب أشرف وإن كان أكثره بالتخمين) والحدس والتجارب قد تخطئ مع اختلاف الأمزجة والأهوية في الذريعة، ورب علم يوفي على غيره في أحد وجهين، وذلك الغفير يوفي عليه بالوجه الآخر كالطب، مع الحساب فالطب شريف الثمرة إذ هو يفيد الصحة، والحساب وثاقة الدلالة إذ كان العلم به ضروريا غير مفتقر إلى التجربة اهـ .

( وبهذا يتبين) ويتضح ( أن أشرف العلوم) مطلقا علم الدين بأنواعه أجلها ( العلم بالله) تعالى أي بوحدانيته وقيوميته، وإنه موجد الأشياء كلها ومسبب الأسباب بأسرها ( وملائكته) بأنهم عباد الله المعصومون لا يتصفون بذكورة ولا أنوثة وأنهم الوسائط في الإفاضات، ( وكتبه) بتصديق ما أنزل فيها من الأحكام والقصص والأمثال ( ورسله) بأنهم أمناء الله على خلقه في تبليغ ما أمروا به ( والعلم بالطريق الموصل إلى هذه العلوم) فإن حكم ذلك كحكم أصله ( فإياك وأن ترغب إلا فيه) وأن تميل إلا إليه ( و) أن ( تحرص إلا عليه) وأن تحوم إلا حول حماه؛ فهو رأس مالك، وإليه مآلك، وأورد ابن القيم هذا البحث في كتابه مفتاح دار السعادة بأبسط من ذلك فقال: شرف العلم تابع لشرف معلومه، ولا ريب أن العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله أجل العلوم وأشرفها، ونسبته لسائر العلوم كنسبة معلومه إلى سائر المعلومات، فكما أن العلم به أجل العلوم وأشرفها فهو أصلها كلها، كما أن كل موجود فهو مستند في وجوده إلى الملك الحق ومفتقر [ ص: 326 ] إليه في تحقق ذاته إليه فالعلم به أصل كل علم، كما أنه سبحانه رب كل شيء ومليكه وموجده، ولا ريب أن كمال العلم بالسبب التام وكونه سببا يستلزم العلم بمسببه، كما أن العلم بالعلة التامة ومعرفة كونها علة مستلزم العلم بمعلولها، وكل موجود سوى الله فهو مستند في وجوده إليه استناد المصنوع إلى صانعه والمفعول إلى فاعله، فالعلم بذاته سبحانه وصفاته وأفعاله يستلزم العلم بما سواه، فمن عرف الله عرف ما سواه، ومن جهل ربه فهو لما سواه أجهل اهـ .

التالي السابق


الخدمات العلمية