إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الآثار .

قال عروة بن الزبير لقد تصدقت عائشة رضي الله عنها بخمسين ألفا وإن درعها لمرقع وقال مجاهد في قول الله عز وجل : ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا فقال : وهم يشتهونه وكان عمر رضي الله عنه يقول اللهم اجعل الفضل عند خيارنا لعلهم يعودون به على ذوي الحاجة منا وقال عبد العزيز الصلاة تبلغك نصف الطريق ، والصوم يبلغك باب الملك ، والصدقة تدخلك عليه وقال ابن أبي الجعد إن الصدقة لتدفع سبعين بابا من السوء ، وفضل سرها على علانيتها بسبعين ضعفا ، وإنها لتفك لحيي سبعين شيطانا .

وقال ابن مسعود إن رجلا عبد الله سبعين سنة ، ثم أصاب فاحشة فأحبط عمله ثم مر ، بمسكين فتصدق عليه برغيف ؛ فغفر الله له ذنبه ورد عليه عمل السبعين سنة .

وقال لقمان لابنه إذا أخطأت خطيئة فأعط الصدقة وقال يحيى بن معاذ ما أعرف حبة تزن جبال الدنيا إلا الحبة من الصدقة .

وقال عبد العزيز بن أبي رواد كان يقال : ثلاثة من كنوز الجنة : كتمان المرض ، وكتمان الصدقة ، وكتمان المصائب .

وروي مسندا وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه إن : الأعمال تباهت فقالت الصدقة : أنا أفضلكن .

وكان عبد الله بن عمر يتصدق بالسكر ويقول سمعت الله يقول لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون والله يعلم أني أحب السكر .

وقال النخعي إذا كان الشيء لله عز وجل لا يسرني أن يكون فيه عيب .

وقال عبيد بن عمير يحشر الناس يوم القيامة أجوع ما كانوا قط ، وأعطش ما كانوا قط ، وأعرى ما كانوا قط ، فمن أطعم لله عز وجل أشبعه الله ومن سقى لله عز وجل سقاه الله ومن كسا لله عز وجل كساه الله وقال الحسن لو شاء الله لجعلكم أغنياء لا فقير فيكم ، ولكنه ابتلى بعضكم ببعض .

وقال الشعبي من لم ير نفسه إلى ثواب الصدقة أحوج من الفقير إلى صدقته ، فقد أبطل صدقته وضرب بها وجهه .

وقال مالك لا نرى بأسا بشرب المؤمن من الماء الذي يتصدق به ويسقى في المسجد لأنه إنما جعل للعطشان من كان ، ولم يرد به أهل الحاجة والمسكنة على الخصوص ويقال : إن الحسن مر به نخاس ومعه جارية فقال للنخاس : أترضى في ثمنها الدرهم والدرهمين قال لا ؟ قال : فاذهب فإن الله عز وجل رضي في الحور العين بالفلس واللقمة .


ولما فرغ من ذكر الأخبار المسندة في فضيلة الصدقة، شرع في الآثار الواردة عن الصحابة والتابعين ومن دونهم، فقال: (الآثار) أي: الدالة على فضيلة الصدقة (قال عروة بن الزبير) : أبو عبد الله، كان فقيها عالما كثير الحديث، روى عن أبويه وخاليه وعلي وعنه أولاده، والزهري، مات وهو صائم .

(لقد تصدقت عائشة) رضي الله عنها للفقراء (بخمسين ألفا) درهما (وإن درعها) أي: خمارها (لمرقع) أي: قديم فيه رقع، (وقال مجاهد) التابعي الجليل (في) تفسير (قول الله عز وجل: ويطعمون الطعام على حبه ) أي: لأجل حب الله عز وجل (مسكينا) ويتيما وأسيرا (فقال: وهم يشتهونه) أي: الطعام، أي: ينفقون من أحب الأشياء إليهم، وهذا من باب الإيثار، (وكان عمر) ابن الخطاب (رضي الله عنه يقول) في دعائه: (اللهم اجعل الفضل) أي: زيادة المال عن الحاجة (عند خيارنا لعلهم يعودون) بالبذل منه (على أولي الحاجة) والافتقار (منا) أي: من المسلمين، والخيار إذا زاد عندهم مما لا يحتاجون بذلوا للفقراء والمساكين، (وقال عبد العزيز بن عمير) هكذا هو بالتصغير، في سائر نسخ الكتاب وفي بعضها: عبد العزيز بن عمرو، وهو حفيد عمر بن عبد العزيز، الخليفة، روى عن أبيه ومجاهد وعنه [ ص: 173 ] القطان، وأبو نعيم ثقة، توفي قبل الخمسين ومائة .

وروى له الجماعة (الصلاة تبلغك نصف الطريق، والصوم يبلغك باب الملك، والصدقة تدخلك عليه) وكل من الثلاثة لا بد للسالك منها، (وقال ابن أبي الجعد) سالم الأشجعي مولاهم الكوفي، واسم أبيه رافع روى عن عمر وعائشة مرسلا، وعن ابن عباس وابن عمر، وعنه منصور والأعمش، توفي سنة مائة وواحد: (إن الصدقة لتدفع سبعين بابا من السوء، وفضل سرها على علانيتها بسبعين ضعفا، وإنها لتفك لحي سبعين شيطانا) الجملة الأولى رواها الطبراني في الكبير عن رافع بن خديج مرفوعا بلفظ: إن الصدقة تدفع سبعين بابا من السوء. وقد تقدم قريبا .

وروى الخطيب عن أنس: الصدقة تمنع سبعين نوعا من أنواع البلاء. والجملة الثانية: ففي القوت وفي الخبر: صدقة السر تفضل على صدقة العلانية سبعين ضعفا، ولحيي مثنى لحى بالكسر، وهو عظم الحنك، وهو الذي ينبت عليه الشعر، (وقال) عبد الله (بن مسعود) رضي الله عنه (أن رجلا) فيما مضى من الزمان (عبد الله سبعين سنة، ثم أصاب فاحشة فأحبط عمله، فمر بمسكين فتصدق عليه برغيف؛ فغفر الله له ذنبه ورد عليه عمل السبعين سنة) ، وظهر مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: إن الصدقة لتطفئ غضب الرب كما يطفئ الماء النار. وهذا من جملة آثار الصدقة المقبولة، ويقرب من ذلك ما أخرجه ابن عساكر في التاريخ عن أبي هريرة قال: كان فيمن قبلكم رجل يأتي وكر طائر إذا أفرخ فيأخذ فرخه؛ فشكا ذلك الطير إلى الله عز وجل ما يصنع ذلك الرجل، فأوحى الله: إن هو عاد فسأهلكه؛ فلما فرخ خرج ذلك الرجل كما كان يخرج وأسند سلما؛ فلما كان في طرق القرية لقيه سائل فأعطاه رغيفا من زاده ومضى، حتى أتى ذلك الوكر فوضع سلمه فتسور؛ فأخذ الفرخين وأبواهما ينظران، فقالا: يا رب إنك وعدتنا أن تهلكه إن عاد، وقد عاد فأخذهما ولم تهلكه! فأوحى الله إليهما: أو لم تعلما أني لا أهلك أحدا تصدق بصدقة ذلك اليوم بميتة سوء؟! أورده السيوطي في الجامع الكبير، وبه يظهر مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: إن الصدقة تمنع ميتة السوء. وقد تقدم شيء من ذلك قريبا (وقال لقمان لابنه) يعظه: يا بني (إذا أخطأت خطيئة فأعط الصدقة) أي: فإنها تمحوها وتغطي عليها .

وروى الديلمي عن أنس رفعه: الصدقات بالغدوات يذهبن العاهات.

وروى أبو نعيم في الحلية عن علي: الصدقة على وجهها تحول الشقاء سعادة، وتزيد في العمر، وتقي مصارع السوء. (وقال يحيى بن معاذ) الرازي من رجال الحلية: (ما أعرف حبة تزن جبال الدنيا إلا الحبة من الصدقة) أي: فإنها تقع في كف الرحمن قبل وقوعها في يد السائل فيربيها له حتى تكون مثل جبل أحد في ميزان عمل المتصدق في يوم القيامة، وقد تقدم ذلك، (وقال عبد العزيز ابن أبي رواد) مولى المهلب بن أبي صفرة، روى عن عكرمة وسالم وعنه ابنه عبد المجيد والقطان، وخلاد ابن يحيى ثقة عابد، توفي سنة 159 (كان يقال: ثلاثة من كنوز الجنة أو من كنوز البر: كتمان المرض، وكتمان الصدقة، وكتمان المصائب) وتقدم له قريبا بلفظ: ثلاثة من كنوز البر؛ منها: كتمان الصدقة. وعزاه لبعض العلماء، فالمراد به هو عبد العزيز هذا، (و) قد (روي) ذلك (مسندا) مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أخرجه أبو نعيم في الحلية، فقال: حدثنا القاضي أبو أحمد وعبد الرحمن بن محمد المذكر وأبو محمد بن حيان في جماعة، قالوا: حدثنا الحسن بن هارون، حدثنا محمد بن بكار، حدثنا زافر بن سليمان عن عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كنوز البر: كتمان المصائب والأمراض والصدقة. قال: غريب من حديث نافع، وعبد العزيز تفرد به عنه زافر، (وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن الأعمال تباهت) أي: تفاخرت (فقالت الصدقة: أنا أفضلكن) أي: لوقوعها في يد الرحمن قبل يد السائل، وكف الآخذ فيها نائب عن كف الرحمن، وهذا لا يوجد في غيرها من الأعمال، (وكان عبد الله بن عمر) بن الخطاب رضي الله عنهما (يتصدق بالسكر) على الفقراء (ويقول) في تأويل ذلك: (سمعت الله عز وجل يقول) في كتابه العزيز: ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون والله يعلم أني أحب السكر) ، وليس المراد به السكر المعروف فيما يظهر؛ إذ لم يكن إذ ذاك فاشيا عندهم كثيرا، وإنما المراد به نوع من الرطب [ ص: 174 ] شديد الحلاوة، قال أبو حاتم في كتاب النخلة: نخل السكر، الواحدة سكرة، وقال الأزهري في كتاب العين: التمر نخل السكر، وهو معروف عند أهل البحرين، فافهم ذلك. (وقال) إبراهيم بن يزيد (النخعي) رحمه الله تعالى: (إذا كان الشيء لله عز وجل) أي: ينفقه لله وفي سبيل الله (لا يسرني أن يكون فيه عيب) أي: فلا يقدم إلى الله إلا الطيب، والذي فيه عيب أو نقص فهو مردود على صاحبه، (وقال عبيد بن عمير) بن قتادة بن مسعد بن عامر بن جندع بن ليث الليثي ثم الجندعي أبو عاصم المكي قاضي أهل مكة قال مسلم بن الحجاج، ولد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال غيره: له رواية وأبوه له صحبة، قال ابن معين: وأبو زرعة ثقة، وقال العوام بن حوشب: رؤي ابن عمر في حلقة عبيد بن عمير يبكي حتى بل الحصى بدموعه، وكان من أبلغ الناس في الوعظ، روى عن أبي وعمر وطائفة وعنه ابنه وابن أبي مليكة وعمرو بن دينار وآخرون. وفي الكاشف: وذكر ثابت البنائي أنه قص على عهد عمر، وهذا بعيد، مات سنة 74 قبل ابن عمر، روى له الجماعة: (يحشر الناس يوم القيامة أجوع ما كانوا قط، وأعطش ما كانوا قط، وأعرى ما كانوا قط، فمن أطعم لله عز وجل) في الدنيا (أشبعه الله) يوم القيامة، (ومن سقى لله عز وجل) في الدنيا (سقاه الله) يوم القيامة، (ومن كسا لله عز وجل) في الدنيا (كساه الله) يوم القيامة. ومعنى هذا القول قد روي مسندا أخرجه ابن عساكر في تاريخه عن ابن عباس: من كسا وليا لله ثوبا كساه الله من خضر الجنة، ومن أطعمه على جوع أطعمه الله من ثمار الجنة، ومن سقاه على ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم يوم القيامة.

وروى أبو الشيخ في الثواب وأبو نعيم في الحلية من حديث أبي سعيد: من أطعم مسلما جائعا أطعمه الله من ثمار الجنة، ومن سقى مسلما على ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم يوم القيامة.

وروى الديلمي عن عبد الله بن جراد رفعه: من أطعم كبدا جائعة أطعمه الله من أطيب طعام الجنة، ومن برد كبدا عطشانة سقاه الله وأرواه من شراب الجنة.

وأما حديث: من كسا لله. فقد تقدم قريبا، (وقال الحسن) البصري رحمه الله تعالى: (لو شاء الله لجعلكم) كلكم (أغنياء لا فقير فيكم، ولكنه ابتلى بعضكم ببعض) فجعل بعضكم غنيا وبعضكم فقيرا؛ ليبلوكم في حسن سياسة النعمة وصنيعها، والتعاون بها على أسباب الآخرة في حسن الصبر على فقدها، والقناعة بأقلها، (وقال) عامر بن شراحيل (الشعبي) رحمه الله تعالى: (من لم ير نفسه إلى ثواب الصدقة) التي تصدق بها (أحوج) أي: أكثر افتقارا (من الفقير إلى) أخذ (صدقته، فقد أبطل صدقته وضرب بها وجهه) أي: أبطل ثوابها وما ادخره الله له؛ فالمنة للآخذ أكثر من المعطي، (وكان مالك) بن أنس، الإمام، رحمه الله تعالى (لا يرى بأسا بشرب الموسر) أي: الغني (من الماء الذي يتصدق به) في سبيل الله، (ويسقى في المسجد) في يوم الجمعة وغيره؛ (لأنه إنما جعل للعطشان) أي: الغني (من كان، ولم يرد به أهل الحاجة والمسكنة على الخصوص) ، وقد ذكره النووي في الروضة عن بعض الأصحاب في آخر باب الجمعة، وتقدمت الإشارة إليه هناك، (ويقال: إن الحسن) البصري (مر به نخاس) ، وهو في الأصل لمن ينخس الدابة، ثم قيل ذلك لدلال الدواب خاصة، ثم استعمل فيما هو أعم، دلال الرقيق والدواب وغير ذلك، (ومعه جارية) للبيع (فقال للنخاس: أترضى ثمنها الدرهم والدرهمين؟ قال: لا، قال: فاذهب فإن الله عز وجل رضي في الحور العين) نساء أهل الجنة ذكرهن الله تعالى في كتابه في قوله: وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون ثم قال: جزاء بما كانوا يعملون (بالفلس) يتصدق به على الفقير، (واللقمة) يطعم بها الجائع، وورد أيضا: لقاطة المائدة مهور الحور العين.

وروى العقيلي في الضعفاء من حديث ابن عمر: كم من حوراء عيناء ما كان مهرها إلا قبضة من حنطة أو مثلها من تمر! وفيه تنبيه على أن العمل إذا صدر بالإخلاص فإنه وإن كان قليلا يربو عند الله، ويعوضه الله به ما هو أعظم منه بأضعاف مضاعفة، وبهذه المناسبة أورد المصنف ذلك هنا .

ولنختم هذا الباب بفصلين من كتاب الشريعة .

الأول: إن المال يقبل أنواع العطاء، وهو ثمانية أنواع لها ثمانية أسماء، فنوع يسمى الأنعام، ونوع يسمى الوهب، ونوع يسمى الصدقة، ونوع يسمى الكرم، ونوع يسمى الهدية، ونوع يسمى الجود، ونوع [ ص: 175 ] يسمى السخاء، ونوع يسمى الإيثار، وهذه الأنواع كلها يعطى بها الإنسان، ويعطى بسبعة منها الحق وهي ما عدا الإيثار؛ لأنه غني عن الحاجة، والإيثار إعطاء ما أنت محتاج إليه إما في الحال وإما بالمال، وهو أن تعطى مع حصول التوهم في النفس أنك محتاج إليه فتعطيه مع هذا التوهم، فيكون عطاؤك إيثارا، وهذا في حق الحق محال، فقد ظهر في الوجود أمر لا ترتبط به حقيقة إلهية .

فنقول: قد قدمنا أن الغنى المطلق إنما هو للحق من حيث ذاته، تعرف عن نسبة العالم إليه، فإذا نسبت العالم إليه لم تعتبر الذات، فلم تعتبر الغنى، وإنما اعتبرت كونها إلها فاعتبرت المرتبة، فالذي ينبغي للمرتبة هو ما تسمت به الأسماء، وهي الصورة الإلهية لا الذات من حيث عينها، بل من كونها الهائم أنه أعطاك الصورة وسماك بالأسماء كلها على طريق المحمدة، فقد أعطاك ما هي المرتبة موقوفة بسبها إليه، وهي الأسماء الحسنى؛ فمن هذه الحقيقة صدر الإيثار في العالم، فالإنعام إعطاء ما هو نعمة في حق المعطي، مما يلائم مزاجه ويوافق غرضه، والوهب الإعطاء لينعم خاصة، والهدية الإعطاء لاستجلاب المحبسة، فإنها عن محبة، والصدقة إعطاء عن شدة وقهر وإباية، فأما في الإنسان لكونه جبل على الشح، فإذا أعطى بهذه المثابة فلا يكون عطاؤه إلا عن قهر منه لما جبلت النفس عليه، وفي حق الحق هذه النسبة حقيقة ما ورد في التردد الإلهي في قبض نسمة المؤمن، ولا بد له من اللقاء مع التردد كما سبق في العلم من ذلك، فهو في حق الحق كأنه وفى حق العبد لا كأنه أدب إلهي، ودليل العقل يرمي مثل هذا لقصوره وعدم معرفته بما يستحقه الإله المعبود، والحق عرف عباده بهذه الحقيقة التي هو عليها فقبلتها العقول السليمة من حكم أفكارها عليها بصفة القبول التي هي عليه حين ردتها العقول التي تحت حكم أفكارها في ذلك، وهذه هي المعرفة التي طلب منا الشرع أن نعرف بها ربنا، ونصفه بها لا المعرفة التي أثبتناه بها، فإن تلك مما يستقل العقل بإدراكها، وهي بالنسبة إلى هذه المعرفة نازلة، فإنها تثبت بحكم العقل، وهذه تثبت بالإخبار الإلهي، وهو بكل وجه أعلم بنفسه منا، والكرم العطاء بعد السؤال حقا وخلقا، والجود العطاء قبل السؤال حقا لا خلقا، فإذا نسب إلى الخلق فمن حيث إنه ما طلب منه الحق هذا الأمر الذي عينه الخلق على التعيين، وإنما طلب منه الحق أن يتطوع بصدقة وما عين، فإذا عين العبد ثوبا أو درهما أو دينارا أو ما كان من غير أن يسأل في ذلك فهو الجود خلقا، وإنما قلنا: لا خلقا في ذلك؛ لأنه لا يعطى على جهة القربة إلا بتعريف إلهي؛ فلهذا قلنا: حقا لا خلقا، وإذا لم يعتبر الشرع في ذلك، فالعطاء قبل السؤال لا على جهة القربة موجود في العالم بلا شك، ولكن غرض الصوفي أن لا يتصرف إلا في أمر يكون قربة ولا بد، فلا مندوحة له في مراعاة حكم الشرع في ذلك، والسخاء العطاء على قدر الحاجة من غير مزيد لمصلحة يراها المعطي؛ إذ لو زاد على ذلك ربما كان فيه هلاك المعطى له؛ قال تعالى: ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض والإيثار إعطاء ما أنت محتاج إليه في الوقت أو توهم الحاجة إليه؛ قال تعالى: ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة وكل ما ذكرناه من العطاء، فأمه الصدقة في حق العبد؛ لكونه مجبولا على الشح والبخل، كما أن الأم في الأعطيات الإلهية من هذه الأقسام الثمانية إنما هو الوهب، وهو الإعطاء لينعم لا لأمر آخر، فهو الوهاب على الحقيقة في جميع أنواع عطائه كما هو عليه العبد متصدق في جميع إعطائه؛ لأنه غير مجرد عن الغرض وطلب العوض لفقره الذاتي، فما ينسب إلى الله بحكم العرض ينسب إلى المخلوق بالذات، وما ينسب إلى الحق بالذات كالغنى ينسب إلى المخلوق بالعرض النسبي الإضافي خاصة .

قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: خذ من أموالهم صدقة أي: ما يشتد عليهم في نفوسهم إعطاؤها، فالصدقة أصل كوني، والوهب أصل إلهي؛ فما فرض الله الزكاة وأوجبها وطهر بها النفوس من الشح والبخل إلا لهذا الأمر المحقق، فالفرض منها أشد على النفوس من صدقة التطوع للجبر الذي في الفرض، والاختيار الذي في التطوع، والله أعلم الثاني: صدقة التطوع صدقة عبودية اختيار مشوبة بسيادة، وإن لم تكن هكذا وإلا فما هي صدقة تطوع، فإنه أوجبها على نفسه إيجاب الحق الرحمة على نفسه لمن تاب وأصلح من العاملين السوء بجهالة، فهذه ربوبية مشوبة بحكم عليها، فإن [ ص: 176 ] الله لا يجب عليه شيء إلا ما أوجبه على نفسه من حيث ما هو موجب، فمن أعطى بهذا الوجوب من هذه المنزلة، فلو فرضنا أن هذه المرتبة الإلهية إذا فعلت مثل هذا ما يكون ثوابها ذلك الثواب بعينه يكون للعبد المصدق بالتطوع فإنه من ذلك المقام بعطية الحق إذا كان هذا شر به، وهذه مسألة ما رأيت أحدا قبلي نبه عليها، وإن كان قد أدركها فإنه لا بد لأهل الله أن يدركوا مثل هذا، ولكن قد لا يجريه الله على أنفسهم أو يتعذر على بعضهم العبارة عن ذلك، وبهذا الاعتبار تعلو صدقة التطوع على صدقة الفرض ابتداء، فإن هذا التطوع أيضا قد يكون واجبا بإيجاب الله؛ حيث أوجبه العبد على نفسه فأوجبه الله عليه كالنذر؛ فإن الله أوجبه بإيجاب العبد .

قال الأعرابي لرسول الله صلى الله عليه وسلم في فرض الزكاة: هل علي غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع. فقوله: إلا أن تطوع، يحتمل أن الله أوجب عليه ذلك إذا تطوع به فيلحقه بدرجة الفرض، فيكون في الثواب على السواء، مع زيادة معنى التطوع في ذلك، فيعلو على الفرض الأصلي بهذا القدر، وقد نهى الشرع عن إبطال العمل وإن كان تطوعا إذا شرع فيه؛ ولهذا قال بعضهم: الشروع ملزم. وقال تعالى: ولا تبطلوا أعمالكم فسوى بين المفروض وغير المفروض، وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم النافلة وأصبح صائما متطوعا فأفطر، وقال: نقضي يوما مكانه، وأمر بذلك لمن أفطر في التطوع فأقامه مقام الفرض الأصلي في القضاء، وليس معنى التطوع في ذلك كله إلا أن العبد عبد بالأصالة ومحل لما يوجبه عليه سيده، فهو بالذات قابل للوجوب، فالمتطوع إنما هو الراجع إلى أصله، والخروج عن الأصل إنما هو بحكم العرض؛ فمن لازم الأصل دائما فلا يرى إلا الوجوب دائما؛ لأنه مصرف مجبور في اختياره تشبيها بالأصل الذي عنه صدر، وليس في الأصل إلا أمر واحد، فليس في الكون إلا أمر واحد علمه من علمه وجهله من جهله، فما ثم إلا واجب هذا تعطيه الحقائق بالإمكان لا عين له؛ فانظر ما تعطيه صدقة التطوع، وما أشرف هذه الإضافة! والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية