إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
أما بعد ، فإن الصوم ربع الإيمان بمقتضى قوله صلى الله عليه وسلم : الصوم نصف الصبر وبمقتضى قوله صلى الله عليه وسلم : الصبر نصف الإيمان ثم هو متميز بخاصية النسبة إلى الله تعالى من بين سائر الأركان إذ قال الله تعالى فيما حكاه عنه نبيه صلى الله عليه وسلم : كل حسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به
قال المصنف رحمه الله: (أما بعد، فإن الصوم) ثالث أركان الإسلام بعد لا إله إلا الله محمد رسول الله، شرعه سبحانه لفوائد أعظمها كونه موجبا سكون النفس الأمارة، وكسر سورتها في الفضول المتعلقة بجميع الجوارح من العين واللسان والأذن والفرج، فإن به تضعف حركتها في محسوساته؛ ولذا قيل: إذا جاعت النفس شبعت جميع الأعضاء، فإذا شبعت جاعت كلها. وعن هذا صفاء القلب من الكدر، فإن الموجب لكدراته فضول اللسان والعين وباقيها، وبصفائه تناط المصالح والدرجات، ومنها كونه موجبا للرحمة والعطف على المساكين، فإنه لما ذاق ألم الجوع في بعض الأوقات ذكر من هذا حاله في جميع الأوقات، فتسارع إليه الرقة عليه، والرحمة حقيقتها في حق الإنسان نوع ألم باطن، فيسارع لدفعه عنه بالإحسان إليه، فينال بذلك ما عند الله تعالى من حسن الجزاء، ومنها موافقة الفقراء بتحمل ما يتحملون، وفي ذلك رفع حال عند الله تعالى، كما حكي عن بشر الحافي أنه دخل عليه رجل في الشتاء فوجده جالسا يرعد وثوبه معلق على المشجب، فقال له: في مثل هذا الوقت ينزع الثوب؟ أو معناه، فقال: يا أخي، الفقراء كثير وليس لي طاقة مواساتهم بالثياب فأواسيهم بتحمل البرد كما يتحملون. وبالنظر إلى ما ذكرناه، قيل: الصوم (ربع الإيمان) وذلك (بمقتضى قوله صلى الله عليه وسلم: الصوم نصف الصبر) .

قال العراقي: رواه الترمذي وحسنه من حديث رجل من بني سليم، وابن ماجه من حديث أبي هريرة اهـ .

قلت: ولفظ ابن ماجه: الصيام نصف الصبر، وعند البيهقي من حديث أبي هريرة هكذا، لكن بزيادة: وعلى كل شيء زكاة، وزكاة الجسد الصيام. (وبمقتضى قوله صلى الله عليه وسلم: الصبر نصف الإيمان) .

قال العراقي: رواه أبو نعيم في الحلية، والخطيب في التاريخ من حديث ابن مسعود بسند حسن. اهـ .

قلت: وأخرجه البيهقي من هذا الوجه بزيادة: واليقين الإيمان كله، وقال: تفرد به يعقوب بن حميد عن محمد بن خالد المخزومي، والمحفوظ عن ابن مسعود من قوله غير مرفوع. اهـ .

ويعقوب، قال الذهبي: ضعفه أبو حاتم وغير واحد، وقد ذكر المصنف فيما بعد في المنجيات تحقيق معنى هذا الحديث؛ حيث قال: والمراد بالصبر العمل بمقتضى اليقين؛ إذ اليقين معرفة أن المعصية ضارة والطاعة نافعة، ولا يمكن ترك المعصية والمواظبة على الطاعة إلا بالصبر، وهو استعمال باعث الدين في قهر باعث الهوى والكسل، فكان الصبر نصف الإيمان بهذا الاعتبار. اهـ .

ثم وجهوا في كون الصيام نصف الصبر، بأن الصبر حبس النفس عن إجابة داعي الشهوة والغضب، فالنفس تشتهي الشيء بحصول [ ص: 188 ] اللذة بإدراكه وتغضب لقوته وتنفر لنفرتها عن المؤلم، والصوم صبر عن مقتضى الشهوة فقط، وهي شهوة البطن والفرج دون مقتضى الغضب، لكن من كمال الصوم حبس النفس عنهما، وقال الحليمي: إنما كان الصيام نصف الصبر؛ لأن جميع العبادات فعل وكف، والصوم يقمع الشهوة فيسهل الكف، وهو شرط الصبر، فهما صبران: صبر عن أشياء، وصبر على أشياء. والصوم معين على أحدهما؛ فهو نصف الصبر. اهـ .

ثم ما ذكر المصنف هنا من أنه نصف الصبر يعارضه ما صار إليه بعض المفسرين من أن المراد بالصبر في قوله تعالى: واستعينوا بالصبر والصلاة أنه الصوم بدليل مقابلته بالصلاة، وأما ما ذهب إليه الأكثر منهم في تفسيره بالعبادة كلها فلا يعارضه، (ثم هو) أي: الصوم (متميز بخاصية النسبة إلى الله تعالى من بين سائر الأركان) الخمسة؛ (إذ قال الله تعالى فيما حكاه عنه نبيه صلى الله عليه وسلم: كل حسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به) .

قال العراقي: أخرجاه من حديث أبي هريرة ا ه .

قلت: لفظ مسلم عن أبي هريرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فهو لي وأنا أجزي به. وفي رواية أخرى له عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة. وفي رواية أخرى له عنه: كل عمل ابن آدم تضاعف له الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف .

قال الله عز وجل: إلا الصوم؛ فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي.
وهكذا هو عند ابن ماجه من رواية الأعمش عن أبي صالح عنه، زاد ابن ماجه بعد قوله: إلى سبعمائة ضعف، إلى ما يشاء الله.

وأخرج مسلم عن أبي هريرة وأبي سعيد قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل يقول: إن الصوم لي وأنا أجزي به، يدع شهوته. وعند البخاري من طريق الأعرج عن أبي هريرة في أثناء حديث: كل حسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به. وفي بعض طرقه: لكل عمل كفارة والصوم لي. وفي الحديث فوائد:

الأولى: ظاهره يقتضي أن أقل التضعيف عشرة أمثال وغايته سبعمائة ضعف، وقد اختلف المفسرون في قوله تعالى: والله يضاعف لمن يشاء ، فقيل: المراد يضاعف هذا التضعيف، وهو السبعمائة، وقيل: المراد يضاعف فوق السبعمائة لمن يشاء، وقد ورد التضعيف بأكثر من السبعمائة في أعمال كثيرة في أخبار صحيحة، أكثر ما جاء فيه ما رواه الحاكم في صحيحه من حديث ابن عباس مرفوعا: من حج من مكة ماشيا حتى يرجع إلى مكة، كتب الله له بكل خطوة سبعمائة حسنة، كل حسنة مثل حسنات الحرم، قيل: وما حسنات الحرم؟ قال: بكل حسنة مائة ألف حسنة.

وقد أخرجه أيضا الدارقطني في الإفراد، والطبراني في الكبير، والبيهقي، والجمع بينه وبين حديث أبي هريرة هذا: أنه لم يرد بحديث أبي هريرة انتهاء التضعيف بدليل أن في بعض طرقه بعد قوله: إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة، وفي أخرى: إلى ما يشاء الله، فهذه الزيادة تبين أن هذا التضعيف يزاد على السبعمائة، والزيادة من الثقة مقبولة على الصحيح .

الثانية: قال القاضي أبو بكر بن العربي في قوله: إلى سبعمائة ضعف، يعني بظاهره الجهاد في سبيل الله، ففيه ينتهي التضعيف إلى سبعمائة من العدد بنص القرآن، وقد جاء في الحديث الصحيح: إن العمل الصالح في أيام العشر أحب إلى الله من الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع. قال: فهذان عملان .

قال العراقي في شرح الترمذي: وعمل ثالث، روى أحمد في مسنده: النفقة في الحج تضاعف كالنفقة في سبيل الله، الدرهم بسبعمائة ضعف. قال: وعمل رابع، وهو كلمة حق عند سلطان جائر، ففي الحديث: أنه أفضل الجهاد. رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث أبي سعيد، قال: وعمل خالص، وهو ذكر الله؛ فإنه قد ورد أنه أفضل الجهاد، من حديث أبي الدرداء وأبي سعيد وعبد الله بن عمرو ومعاذ، فحديث أبي الدرداء رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم، وصححه بلفظ: ألا أخبركم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى، قال: ذكر الله، وحديث أبي [ ص: 189 ] سعيد رواه الترمذي بلفظ: سئل أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة؟ قال: الذاكرون الله كثيرا، قلت: يا رسول الله، ومن الغازي في سبيل الله؟ قال: لو ضرب بسيفه في الكفار والمشركين حتى ينكسر ويختضب دما، لكان الذاكرون الله عز وجل أفضل منه درجة. وحديث عبد الله بن عمرو رواه البيهقي في الدعوات وابن عبد البر في التمهيد، وفيه: وما من شيء أنجى من عذاب الله من ذكركم الله، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا أن يضرب بسيفه حتى ينقطع. وحديث معاذ رواه الطبراني الكبير، بلفظ: ما من عمل آدمي أنجى له من عذاب الله من ذكر الله، قالوا: ولا الجهاد في سبيل؟ قال: لا، إلا أن تضرب بسيفك حتى ينقطع ثلاث مرار.

الثالثة: اختلف في هذا الاستثناء، فقيل: من التضعيف كما يومئ إليه سياق المصنف الآتي بعد هذا، وقيل: من العمل، ويؤيده رواية أبي صالح عن أبي هريرة: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، وبه يظهر معنى قوله: لي، أي: ليس للصائم فيه حظ، وهو أحد الوجوه في تفسيره، نقله القاضي عن الخطابي.

الرابعة: اختلفوا في قوله: لي وأنا أجزي به، مع كون العبادات كلها له تعالى على أقوال منها ما أشار إليه المصنف في تضاعيف كلامه تلويحا وتصريحا كما ستأتي الإشارة إليه، ومنها ما تقدم عن الخطابي قريبا، ومنها أن الاستغناء عن الطعام والشراب من صفات الله تعالى، فكأنه يتقرب إلى الله بشبه صفة من صفاته، وإن كان تعالى لا شبه له في صفاته. نقله القاضي، وأشار إليه الشيخ الأكبر - قدس سره- بقوله: ولما كان العبد موصوفا بأنه ذو صوم وأنه الصائم، ثم بعد إثبات الصوم له سلبه الحق عنه وأضافه إلى نفسه، فقال: إلا الصيام فإنه لي، أي: صفة الصمدانية، وهي التنزيه عن الغذاء ليس إلا لي، وإن وصفتك به فإنما وصفتك باعتبار تقييد ما من تقييدات التنزيه لا بإطلاق التنزيه الذي ينبغي لجلالي، فقلت: وأنا أجزي به، فكان الحق جزاء الصوم للصائم، ومنها قيل: سبب إضافته إليه تعالى أنه لم يعبد به أحد سواه، فلم تعظم الكفار في عصر من الأعصار معبودا لهم بالصيام، وإن كانوا يعظمونه بصورة الصلاة والسجود والصدقة والذكر وغير ذلك. حكاه النووي في شرح مسلم، قال العراقي في شرح الترمذي: ونقضه بعضهم بأرباب الاستخدامات فإنهم يصومون للكواكب، قالوا: ليس هذا بنقض صحيح؛ لأن أرباب الاستخدامات لا يعتقدون أن الكواكب آلهة، وإنما يقولون: إنها فعالة بنفسها وإن كانت عندهم مخلوقة، ومنها أن معنى هذه الإضافة أن سائر العبادات يوفى منها ما على العبد من الحقوق إلا الصيام فإنه يبقى موفرا لصاحبه لا يوفى منه حق، وقد ورد ذلك في حديث، قال أبو العباس القرطبي: وقد كنت استحسنته إلى أن وجدت حديثا فيه ذكر الصوم في جملة الأعمال المذكورة للأخذ منها، فإنه قال فيه: المفلس الذي يأتي يوم القيامة بصلاة وصدقة وصيام، ويأتي وقد شتم هذا.. الحديث. قال: وهذا يدل على أن الصيام يؤخذ كسائر الأعمال. اهـ .

قال العراقي: قلت: إذا صحح ذلك الاستثناء فهو مقدم على هذا العموم، فيجب الأخذ به، والله أعلم .

فهذا أربعة أقوال مع قول الخطابي.

التالي السابق


الخدمات العلمية