إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وقد قال الله تعالى : إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب والصوم نصف الصبر فقد جاوز ثوابه قانون التقدير والحساب وناهيك في معرفة فضله قوله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك يقول الله عز وجل إنما يذر شهوته وطعامه وشرابه لأجلي فالصوم لي وأنا أجزي به
ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: (وقد قال الله تعالى: إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ) أي: الكافرون عن شهوات نفوسهم يوفى لهم الأجر ما لا يحيطه العد والحسبان، (والصوم نصف الصبر) على ما تقدم تقريره، (فقد جاوز ثوابه قانون التقدير والحساب) أي: التضعيف في جزائه غير مقدر بقانون، فمعنى "لي" أي: أنا المفرد بعلم مقدار ثوابه وتضعيف حسناته كما قال: وأنا أجزي به، وغيره من الحسنات اطلعت على مقادير أجورها، كما قال: كل حسنة بعشر أمثالها إلخ. والصوم موكول إلى سعة جوده وغيب عمله كما قال: إنما يوفى الصابرون الآية. وعلى هذا الوجه الاستثناء فيه من التضعيف، وهو القول الخامس: نقله القاضي عياض عن أبي عبيد، واعترض أبو العباس القرطبي على هذا الوجه، بأن في الحديث: إن صوم اليوم بعشرة، وإن صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر. فهذه نصوص في إظهار التضعيف، فبطل هذا الوجه، (وناهيك في معرفة فضل قوله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، يقول) الله (تعالى: إنما يذر شهوته وطعامه وشرابه من أجلي، والصوم لي وأنا أجزي به) .

أخرجه الشيخان، وهو بعض [ ص: 190 ] حديث من الذي تقدم، وفي رواية لهما: والذي نفس محمد بيده، وفي لفظ لمسلم والنسائي: أطيب عند الله يوم القيامة، وليس في شيء من طرق البخاري: يوم القيامة، ولمسلم بعد قوله: وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، يذر شهوته وطعامه. وفي رواية همام عن أبي هريرة: والذي نفس محمد بيده، إن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، يذر شهوته وطعامه وشرابه من جراي؛ فالصيام لي وأنا أجزي به.

وفي الحديث فوائد:

الأولى: لخلوف بالضم المعروف في كتب أهل العربية، وهي بالوجهين، ضبطناه عن القابسي، وقال في الإكمال: هكذا الرواية الصحيحة بالضم، وكثير من الشيوخ يروونه بالفتح، وهو خطأ، وحكى عن القابسي الوجهين ونسبه إلى أهل المشرق، وصوب النووي في شرح مسلم الضم، وهو الذي ذكره الخطابي وغيره، وهو ما يخلف بعد الطعام في الفم من ريح كريهة بخلاء المعدة من الطعام .

الثانية: فيه رد على أبي علي الفارسي في قوله: إن ثبوت الميم في الفم خاص بضرورة الشعر؛ فإنها تثبت في قوله: فم الصائم في الاختيار، ومن ثبوتها مع الإضافة أيضا قول الشاعر:


يصبح عطشانا وفي البحر فمه

الثالثة: اختلف في معنى كون هذا الخلوف أطيب من ريح المسك بعد الاتفاق على أنه سبحانه منزه عن استطابة الروائح الطيبة واستقذار الروائح الكريهة، فإن ذلك من صفات الحيوان الذي له طبائع يميل إلى شيء يستطيبه وينفر من شيء فيستقذره، على أقوال؛ أحدها: أنه مجاز واستعارة؛ لأنه جرت عادتنا بتقريب الروائح الطيبة منا، فاستعير ذلك في الصوم لتقريبه من الله تعالى، قال المازري: فيكون المعنى أن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. أي عندكم، أي: يقرب إليه أكثر من تقريب المسك إليكم، وذكر ابن عبد البر نحوه .

الثاني: أن معناه أن الله تعالى يجزيه في الآخرة حتى تكون نكهته أطيب من ريح المسك، كما قال في المكلوم في سبيل الله: الريح ريح مسك. حكاه القاضي عياض.

الثالث: أن المعنى صاحب الخلوف ينال من الثواب ما هو أفضل من ريح المسك عندنا، لا سيما بالإضافة إلى الخلوف، هما ضدان. حكاه القاضي عياض أيضا .

الرابع: أن المعنى أنه يعتد براحة الخلوف ويدخر على ما هي عليه أكثر مما يعتد بريح المسك، وإن كانت عندنا نحن بخلافه. حكاه القاضي أيضا .

الخامس: أن الخلوف أكثر ثوابا من المسك؛ حيث ندب إليه في الجمع والأعياد ومجالس الحديث وسائر مجامع الخير. قاله الداودي وأبو بكر بن العربي والقرطبي، وقال النووي: وهو الأصح .

السادس: قال صاحب المفهم: يحتمل أن يكون ذلك في حق الملائكة، يستطيبون ريح خلوف الصائم أكثر مما يستطيبون ريح المسك، وقال الشيخ الأكبر -قدس سره- في كتاب الشريعة: خلوف فم الصائم رائحة فمه التي لا توجد لا مع التنفس، وكل نفس الصائم أطيب عند الله، جاء بالاسم الجامع المنعوت بالأسماء كلها، وقوله: من ريح المسك، فإن ريح المسك أمر وجودي تدركه المشام وتلذ به، فجعل الخلوف عند الله أطيب منه؛ لأن نسبة إدراك الروائح إلى الله لا يشبه إدراك الروائح بالمشام فهو خلوف عندنا، وعنده هذا الخلوف فوق طيب المسك؛ فإنه روح موصوف لا مثل لما وصف به ولا تشبه الرائحة الرائحة، فإن رائحة الصائم عن تنفس ورائحة المسك لا عن تنفس من المسك، ولما كانت الروائح الكريهة تنفر عنها الأمزجة الطبيعية من إنسان وملك؛ لما يجدونه من التأذي في ذلك، وذلك لعدم المناسبة؛ فإن وجه الحق في الروائح الكريهة لا يدركه إلا الله خاصة لا ملك ولا غيره؛ ولهذا قال: عند الله. فإن الصائم أيضا في كونه إنسانا يكره خلوف الصائم من غيره، وهل يتحقق أحد من المخلوقين وقتا ما أو في مشهد ما فيدرك الروائح الخبيثة طيبة على الإطلاق؟ فما سمعنا بهذا! وقولي: على الإطلاق، من أجل أن بعض الأمزجة يتأذى بريح المسك ولا سيما المحرور المزاج، وما يتأذى منه فليس بطيب عند صاحب ذلك المزاج؛ فلهذا قلنا: على الإطلاق؛ إذ الغالب على الأمزجة طيب المسك والورد وأمثالهما، والمتأذي من هذه الروائح الطيبة مزاج غريب، أي: غير معتاد، ولا أدري هل أعطى الله أحدا إدراك ذلك؟ بل المنقول عن الكمل من [ ص: 191 ] الناس ومن الملائكة التأذي بهذه الروائح الخبيثة، وما انفرد بإدراك ذلك طيبا إلا الحق، هذا هو المنقول، ولا أدري أيضا شأن الحيوان من غير الإنسان في ذلك ما هو لا فيما أقامني الحق في صورة حيوان غير إنسان كما أقامني في صورة ملكية، والله أعلم. اهـ .

الرابعة: قوله في رواية مسلم والنسائي: أطيب عند الله يوم القيامة. يقتضي أن طيب رائحة الخلوف إنما هو في الآخرة، وقد وقع خلاف بين ابن الصلاح والعز بن عبد السلام في أن طيب رائحة الخلوف، هل هو في الدنيا والآخرة أو في الآخرة فقط؟ فذهب ابن الصلاح إلى الأول وابن عبد السلام إلى الثاني، وقد استدل ابن الصلاح بأقوال العلماء، وليس في قول واحد منهم تخصيص الآخرة، بل جزموا بأنه عبارة عن الرضا والقبول ونحوهما مما هو ثابت في الدنيا والآخرة، وأما ما ذكرتم يوم القيامة في الرواية فلأنه يوم الجزاء، وفيه يظهر رجحان الخلوف في الميزان على المسك المستعمل لدفع الرائحة الكريهة؛ طلبا لرضا الله حيث يؤمر باجتنابها واجتلاب الرائحة الطيبة، فخص يوم القيامة بالذكر في رواية لذلك كما خص في قوله تعالى: إن ربهم بهم يومئذ لخبير وأطلق في باقي الروايات؛ نظرا إلى أن الأفضلية ثابتة في الدارين .

الخامسة: قوله: إنما يذر شهوته.. إلخ. هو من كلام الله تعالى، حكاه عنه نبيه صلى الله عليه وسلم، وقد وقع في بعض الروايات عدم التصريح بنسبته إلى الله تعالى للعلم بذلك وعدم الإشكال فيه، وهذه التي وقع التصريح فيها هي رواية أبي صالح عن أبي هريرة.

السادسة: ذكر الطعام والشراب بعد ذكر الشهوة من عطف الخاص على العام؛ لدخولهما فيها، وذلك للاهتمام بشأنهما؛ فإن الابتلاء بهما أعم وأكثر تكرارا من غيرهما من الشهوات .

السابعة: قد يشير الإتيان بصيغة الحصر في قوله: إنما يذر، إلى أنه إذا أشرك مع ذلك غيره من مراعاة ترك الأكل لتخمة ونحوهما لا يكون الصوم صحيحا، وقد يقال: إنما أشير بذلك إلى الصوم الكامل .

التالي السابق


الخدمات العلمية