إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الوظيفة الثانية أن يقتدي بصاحب الشرع صلوات الله عليه وسلامه فلا يطلب على إفادة العلم أجرا ولا يقصد به جزاء ولا شكرا بل يعلم لوجه الله تعالى وطلبا للتقرب إليه ولا يرى لنفسه منة عليهم وإن كانت المنة لازمة عليهم بل يرى الفضل لهم إذ هذبوا قلوبهم لأن تتقرب إلى الله تعالى بزراعة العلوم فيها كالذي يعيرك الأرض لتزرع فيها لنفسك زراعة فمنفعتك بها تزيد على منفعة صاحب الأرض فكيف تقلده منة وثوابك في التعليم أكثر من ثواب المتعلم عند الله تعالى ولولا المتعلم ما نلت : هذا الثواب فلا تطلب الأجر إلا من الله تعالى كما قال عز وجل: ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله فإن المال وما في الدنيا خادم البدن والبدن مركب النفس ومطيتها والمخدوم هو العلم إذ به شرف النفس .

فمن طلب بالعلم المال كان كمن مسح أسفل مداسه بوجهه لينظفه فجعل المخدوم خادما والخادم مخدوما وذلك هو الانتكاس على أم الرأس ومثله هو الذي يقوم في العرض الأكبر مع المجرمين ناكسو رءوسهم عند ربهم .

وعلى الجملة فالفضل والمنة للمعلم فانظر كيف انتهى أمر الدين إلى قوم يزعمون أن مقصودهم التقرب إلى الله تعالى بما هم فيه من علم الفقه والكلام والتدريس فيهما وفي غيرهما فإنهم يبذلون المال والجاه ويتحملون أصناف الذل في خدمة السلاطين لاستطلاق الجرايات ولو تركوا ذلك لتركوا ولم يختلف إليهم ثم يتوقع المعلم من المتعلم أن يقوم له في كل نائبة وينصر وليه ويعادي عدوه وينتهض جهارا له في حاجاته ومسخرا بين يديه في أوطاره فإن قصر في حقه ثار عليه وصار من أعدى أعدائه فأخسس بعالم يرضى لنفسه بهذه المنزلة ثم يفرح بها ثم لا يستحي من أن يقول غرضي من التدريس نشر العلم تقربا إلى الله تعالى ونصرة لدينه فانظر إلى الأمارات حتى ترى ضروب الاغترارات .


( الوظيفة الثانية) من الوظائف السبعة:

( أن يقتدي) المعلم ( بصاحب الشرع صلوات الله عليه) وسلامه في تبليغه وإفادته ( فلا يطلب على إفادة العلم أجرا) أي: عوضا لما ورد في النهي عن أخذ الأجرة على التعليم أحاديث، منها ما أخرجه الحسين بن محمد التفليسي في كتاب الأعداد بسند فيه مجاهيل، عن أنس رفعه: "ألا أحدثكم عن أجر ثلاثة فقيل من هم يا رسول الله؟ قال: أجر المعلمين، والمؤذنين والأئمة حرام"، وقد ذكره ابن الجوزي في الموضوعات وسكت عليه الحافظ السيوطي ( ولا يقصد به جزاء) يصل إليه من قبل المتعلم، وهذا أعم مما قبله ( ولا شكرا) أي: ثناء بلسانه في مقابلة تلك النعمة التي هي الإفادة .

وقال الراغب: الجزاء ما فيه الكفاية من المقابلة إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وفيه إشارة إلى قول الله تعالى: لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ، ( بل يعلم) وقصده في تعليمه ( لوجه الله) تعالى أي لذاته ( وطلبا) لمرضاته وحسن مثوبته و ( للتقرب إليه) بهذه الوسيلة العظيمة، ( ولا يرى لنفسه) في نفسه ( منة عليهم) يمتن بها، ( وإن كانت المنة لازمة عليهم) لزوم الأطواق على الأعناق; لأنه السبب الأكبر لهدايتهم إلى الحق، ( بل يرى الفضل) والمنة ( لهم إذ هدفوا) أي: رموا ( قلوبهم) إليه بكمال الانقياد; ( لأن تتقرب إلى الله) تعالى ( بزراعة العلوم فيها) أي: في تلك القلوب المشبهة بالأراضي وأراد بزراعة العلوم، وضعها فيها كما توضع الحبة في الأرض ( كالذي يعيرك الأرض) أي: يعطيكها على سبيل العارية ( لتزرع فيها لنفسك) والأرض له ( زراعة) تنتفع بها، ولا ريب أن ( منفعتك بها) أي: بالقلوب بوضع العلم فيها ( تزيد على منفعة صاحب الأرض) التي أعارها لغيره، وشتان بينهما ( وكيف تقلد به) أي: بالتعليم ( منة) تمنن بها ( وثوابك في التعليم أكثر من ثواب المتعلم عند الله) تعالى لما ورد في ذلك أحاديث تقوي بعضها ( ولولا المتعلم) [ ص: 338 ] وجلوسه بين يديك ( ما قلت: هذا الثواب) الموعود به وفي الذريعة: وأي عالم لم يكن له من يفيده العلم صار كعقيم لا نسل له فيموت ذكره بموته ومتى استفيد علمه كان في الدنيا موجودا وإن فقد شخصه كما قال علي: العلماء باقون ما بقي الدهر أعيانهم مفقودة وآثارهم في القلوب موجودة، وقال بعض الحكماء في قوله تعالى: فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب أنه سأله نسلا يرث علمه لا من يرث ماله; فأعراض الدنيا أهون عند الأنبياء أن يشفقوا عليها، وكذا قوله تعالى: وإني خفت الموالي من ورائي ، أي خفت أن لا يراعوا العلم وعلى هذا قال عليه السلام: العلماء ورثة الأنبياء اهـ .

( ولا تطلب الأجر إلا من الله) تعالى فإنه الذي وعدك به الذي يثيبك عليه ( قال الله تعالى) في كتابه العزيز ( قل) يا محمد ( لا أسألكم عليه) أي: على تبليغ الرسالة وأداء الأمانة ( أجرا) أي: عوضا، وفي الذريعة ومن حق المعلم مع من يفيد العلم أن يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم فيما علمه الله تعالى حيث قال: قل لا أسألكم عليه أجرا فلا يطمع في فائدة من جهة من يفيده علما ثوابا لما يوليه اهـ .

( فإن المال) بأجناسه وأنواعه، بل ( وما في الدنيا خادم البدن) وتابعه في مصالحه ( و) قد تقدم أن ( البدن مركب النفس) الروحاني ( ومطيته) التي بها يبلغ إلى الوصول ( والمخدوم هو العلم إذ به شرف النفس) وكماله وقد ثبتت مخدومية العلم على المال وما في الدنيا بمرتبتين; لأنه مخدوم النفس والنفس مخدوم البدن، والبدن مخدوم المال ( من طلب العلم بالمال) فقد قلب الموضوع و ( كان كمن مسح أسفل مداسه ونعله) عطف مرادف واختلف في ميم المداس فقيل زائدة وهو الأشبه، وقيل: أصلية ( بمحاسنه) هكذا في سائر النسخ وفي بعضها بوجهه وإليه يعود معنى المحاسن ( لينظفه) عما تكون به ( فجعل المخدوم) الذي هو الوجه ( خادما والخادم) الذي هو النعل ( مخدوما) ، وفي الذريعة وليعلم أن من باع علما بعرض دنيوي فقد صادم الله تعالى في ذلك أن الله تعالى جعل المال خادما للمطاعم والملابس، وجعل المطاعم والملابس خادما للبدن وجعل البدن خادما للنفس، وجعل النفس خادمة للعلم والعلم مخدوم غير خادم، والمال خادم غير مخدوم فمن جعل العلم ذريعة إلى اكتساب المال فقد جعل ما هو مخدوم غير خادم لما هو خادم غير مخدوم اهـ .

( وذلك) إذا تأملت ( هو الانتكاس) أي: السقوط منكوسا ( على أم الرأس) أي: الدماغ ( ومثله) أي: الذي يفعل ذلك ( هو الذي يقوم) يوم الحشر ( في العرض الأكبر مع المجرمين) أي: المذنبين حالة كونهم ( ناكسو رءوسهم ) وهو إشارة إلى قول الله تعالى، ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم ( عند ربهم) قال السمين: أي مميلوها مطرقين بها ذلا وخجلا، وأصل النكس القلب، وهو أن تجعل أعلى رجل الإنسان إلى فوق ورأسه إلى تحت فبولغ في وصف المجرمين بذلك، ويجوز أن يكونوا كذلك حقيقة، ( وعلى الجملة) مع قطع النظر عن التفصيل ( فالفضل) الأوفى ( والمنة) الكبرى ( للمعلم وانظر كيف انتهى أمر الذين يزعمون) في أنفسهم ( أن مقصدهم التقرب إلى الله) ورفع الدرجات ( بما هم فيه من علم الفقه والكلام) بالإكباب على كل منهما باختلاف أنظارهم ( والتدريس فيهما وفي غيرهما) كالمنطق والمعاني والبيان، وربما تجد اشتغالهم بالكلام في بعض البلاد كالمغرب ومصر أكثر من اشتغالهم بالفقه وغيره ( فإنهم يبذلون) أي: يصرفون ( المال) بأنواعه ( والجاه ويتحملون أصناف الذل) والترمي على الأبواب ( في خدمة السلاطين) وفي معنى ذلك الأمراء ومن دونهم من ذوي الجاه ( لاستطلاق الجرايات) لخلوصها على اسمه طلقا من غير مشاركة، والجراية بالكسر ما يجري من الرواتب المعلومة على الإنسان من نقد وغلة وغير ذلك .

( ولو تركوا ذلك) أي: الدخول إلى بيوت الأمراء ( لتركوا) أي: تركهم الناس ( ولم يختلف إليهم) كما هو مشاهد ( ثم) من البلايا الموقعة في الهلاك أن ( يتوقع المعلم) أي: يرجو الوقوع ( من المتعلم أن يقوم له) ومعه ( في كل نائبة) أي: واقعة شديدة وقعت له دنيوية ( وينصر) فيها ( وليه) الذي يواليه ولو على غير الحق ( ويعادي) فيها ( عدوه) ولو على الحق [ ص: 339 ] ( و) يطلب منه في حالاته كلها أن ( ينتهض) أي: يقوم ( حمارا له) أي: بمنزلة الحمار ( في) التردد إلى ( حاجاته) الواقعة ( ومسخرا) أي: مذللا ( بين يديه في أوطاره) وسائر شؤونه ( فإن قصر منه) وفي بعض النسخ فيه: ولو في حاجة واحدة ( ثار عليه) أي: قام عليه منكرا ومشددا ومفشيا عيوبه في المجالس ( وصار) بذلك ( من أعدى أعدائه) أي: أكبر مبغضيه ( فاخسس بعالم يرضى لنفسه بهذه المنزلة) الخسيسة ويطمئن إليها، ( ثم يفرح بها) مفتخرا على أقرانه ( ثم لا يستحيي) من الله ورسوله ( من أن يقول) مصرحا إنما ( غرضي من التدريس) والتعليم ( نشر العلم) وإفادته ( تقربا إلى الله تعالى ونصرة لدينه) وطلبا لمرضاته ( فانظر) أيها المتأمل ( إلى الأمارات) الدالة على قبح سيرتهم وفساد النيات ( كيف ترى) فيها ( صنوف الاغترارات) الشيطانية المهلكات أعاذنا الله منها .

التالي السابق


الخدمات العلمية