إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وما بعد هذه البقاع الثلاث فالمواضع فيها متساوية إلا الثغور فإن المقام بها للمرابطة فيها فيه فضل عظيم .

ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى
(وما بعد هذه البقاع الثلاثة) المذكورة (المواضع فيها متساوية) أي : لا يبقى مندوب إليه مقصود لفضل دل الشرع عليه (إلا الثغور) التي بإزاء العدو (فإن المقام بها للمرابطة فيها فيه فضل) دل الشرع عليه ، وللصلاة في مسجدها فضل كذلك لما تقدم من حديث أنس : "الصلاة في مسجد الرباطات بألف صلاة " (ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لا تشد) بصيغة المجهول ، نفي بمعنى النهي ، لكنه أبلغ منه ؛ لأنه كالواقع بالامتثال لا محالة ، (الرحال) جمع رحل وهو للبعير بقدر سنامه أصغر من القتب كي يشدها عن السفر ؛ إذ لا فرق بين كونه براحلة أو فرس أو حمار أو ماشيا ، فذكر شدها أعلى (إلا إلى ثلاثة مساجد) الاستثناء مفرغ ، والمراد : لا يسافر لمسجد للصلاة فيه إلا لهذه الثلاثة ، لا أنه لا يسافر أصلا إلا لها ، والنهي للتنزيه عند الجمهور خلا من خالف كما سيأتي (مسجد الحرام) بالجر بدل من ثلاثة وبالرفع خبر لمبتدأ محذوف ، وتالياه معطوفان عليه ، والمراد به هنا نفس المسجد لا الكعبة ولا مكة ولا الحرم كله ، وإن كان يطلق على الكل ، [ ص: 286 ] والحرام بمعنى المحرم (ومسجدي هذا) أشار به إلى مسجد المدينة (والمسجد الأقصى) وهو بيت المقدس ، والمقتضي لشرف هذه المواضع الثلاثة لكونها أبنية الأنبياء أو متعبداتهم ، وقيل : لأن الأول إليه الحج والقبلة ، والثاني أسس على التقوى ، والثالث قبلة الأمم الماضية ، ومن ثم لو نذر إتيانها لزمه عند مالك وأحمد وبعض الشافعية ، والصحيح من مذهب الشافعي أن الأول يغني عن الآخر ، ومسجد المدينة يغني عن المسجد الأقصى دون مسجد مكة ، وقال أصحابنا : يلزمه إذا نذر المشي لا الإتيان ، وشدها لغير هذه الثلاثة لنحو علم أو زيارة ليس للمكان بل لمن فيه .

قال العراقي : الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة وأبي سعيد . . أهـ .

قلت : ورواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث أبي هريرة ، ورواه أحمد وعبيد بن حميد والترمذي وابن ماجه من حديث أبي سعيد ، ورواه ابن ماجه أيضا من حديث عبد الله بن عمرو ، ورواه الطبراني في الكبير من حديث أبي بصرة الغفاري ، ورواه ابن النجار في تاريخه من حديث عبادة بن الصامت ، ورواه البارودي والطبراني أيضا من حديث أبي الجعد الضمري ، وعند ابن عساكر في التاريخ من حديث ابن عمر بلفظ : "لا تشد المطي " وعند أحمد وأبي يعلى وابن خزيمة والطبراني والضياء من حديث أبي سعيد بلفظ : "لا تشد رحال المطي إلى مسجد يذكر الله فيه إلا إلى ثلاثة مساجد " .

(تنبيه)

قال عياض : أجمعوا على أن موضع قبره صلى الله عليه وسلم أفضل بقاع الأرض ، وأن مكة والمدينة أفضل بقاع الأرض بعده ، ثم اختلفوا في أيهما أفضل ، فذهب عمر وبعض الصحابة إلى تفضيل المدينة ، وهو قول مالك وأكثر المدنيين ، وذهب أهل الكوفة إلى تفضيل مكة ، وبه قال ابن حبيب وابن وهب من أصحاب مالك ، وإليه ذهب الشافعي ، ولكل دليل ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية