إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وسبعة إذا رجع إلى الوطن وإن لم يصم الثلاثة حتى رجع إلى الوطن صام العشرة تتابعا أو متفرقا ، وبدل دم القران ، والتمتع سواء .

والأفضل الإفراد ، ثم التمتع ، ثم القران .


وأما السبعة فقد أشار إليه المصنف بقوله : (وسبعة إذا رجع إلى الموطن ) لقوله تعالى : وسبعة إذا رجعتم ، وما المراد من الرجوع أصحهما وهو نصه في المختصر ، وحرملة أن المراد منه الرجوع إلى الأهل ، والوطن ، والثاني : أن المراد منه الفراغ من الحج ، وبهذا قال أبو حنيفة ، وأحمد ؛ لأن قوله : وسبعة إذا رجعتم مسبوق بقوله : ثلاثة أيام في الحج فيصرف إليه وكأنه بالفراغ رجع عما كان مقبلا عليه من الأعمال .

فإن قلنا بالأول فلو توطن بمكة بعد فراغه من الحج صام بها ، وإن لم يتوطنها لم يجز صومه بها .

وهل يجوز في الطريق إذا توجه إلى وطنه ، وروى الصيدلاني ، وغيره فيه وجهين ؛ أحدهما : نعم ؛ لأن ابتداء السير أول الرجوع ، وأصحهما لا ، وبهذا قطع العراقيون تفريعا على القول الأصح ، وجعلوا الوجه قولا برأسه حملا للرجوع في الآية على الانصراف من مكة ، والوجه ما فعلوه ، فإنا إذا جوزنا الصوم في الطريق فقد تركنا التوقيت بالعود إلى الوطن ، وإذا فرعنا على أن المراد من الحج الانصراف من مكة ، فلو أخره حتى رجع إلى وطنه جاز ، وهل هو أفضل أم التقديم أفضل مبادرة إلى العبادة ؟ حكى العراقيون فيه قولين ، أصحهما ، وبه قال مالك ، أن التأخير أفضل تحرزا عن الخلاف ، وسواء قلنا : إن الرجوع هو الرجوع إلى الوطن ، أو الفراغ من الحج ، فلو أراد أن يوقع بعض الأيام السبعة في أيام التشريق لم يجز ، وإن حكمنا بأنها قابلة للصوم . أما على القول الأول فظاهر ، وأما على الثاني ، فلأنه بعد في أشغال الحج ، وإن حصل التحلل .

ونقل بعضهم عن الشافعي أن المراد من الرجوع هو الرجوع من منى إلى مكة ، والإمام ، والمصنف عدا هذا قولا وراء قول الرجوع إلى الوطن ، وقول الفراغ من الحج واحد ، وبأن الغرض منه بأن ما يتنزل عليه لفظ الرجوع في الآية ، وهذا الأشبه ، وبتقدير أن يكون قولا برأسه فعلى ذلك القول لو رجع من منى إلى مكة صح صومه ، وإن تأخر طوافه للوداع .

(وإن لم يصم الثلاثة) في الحج (حتى) فرغ و (رجع إلى الوطن صام العشرة) ، أي : لزمه صوم العشرة (متتابعة ، أو متفرقة) ، وإذا قلنا بالمذهب ، فهل يجب التفريق في القضاء بين الثلاثة ، والسبعة ؟ فيه قولان في رواية الحناطي ، والشيخ أبي محمد ، ووجهان في رواية غيرهما ؛ أحدهما ، وبه قال أحمد إنه لا يجب ؛ لأن التفريق في الأداء يتعلق بالوقت ، فلا يقع حكمه في القضاء . هذا أصح عند الإمام .

والثاني : وهو الأصح عند الأكثرين أنه يجب التفريق كما في الأداء . على هذا هل يجب التفريق بمثل ما يجب التفريق في الأداء ؟ فيه قولان ؛ أحدهما : لا ، بل يكفي التفريق بيوم ؛ لأن المقصود انفصال أحد قسمي الصوم عن الآخر ، وهذا حاصل باليوم الواحد ، وحكي هذا عن نصه في الإملاء ، وأصحهما أنه يجب التفريق في القضاء بمقدار ما يقع به التفريق في الأداء ليتم الأداء ، وقد تقدم ما فيه (وبدل دم القران ، والتمتع سواء) ، كما أن صفة دمهما سواء (والأفضل الإفراد ، ثم التمتع ، ثم القران) .

قال الرافعي : وأما الأفضل ، فإن قول الشافعي - رحمه الله - لا يختلف في تأخير القران عن الإفراد ، والتمتع ؛ لأن أفعال النسكين فيهما أكمل منهما في القران ، وقال أبو [ ص: 308 ] حنيفة : القران أفضل منهما ، ويحكى ذلك عن اختيار المزني ، وابن المنذر ، وأبي إسحاق المروزي ؛ لما روي عن أنس - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصرخ بهما صراخا يقول : لبيك حجة ، وعمرة ، ولكن هذه رواية معارضة بروايات أخر راجحة على ما سيأتي .

واختلف قوله في الإفراد ، والتمتع أيهما أفضل ؟ قال في اختلاف الحديث التمتع أفضل ، وبه قال أحمد ، وأبو حنيفة ؛ لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ، ولجعلتها عمرة . وجه الاستدلال أنه - صلى الله عليه وسلم - تمنى تقديم العمرة ، ولولا أنه أفضل لما تمنى ، وقال في عامة كتبه : الإفراد أفضل ، وهو الأصح ، وبه قال مالك ؛ لما روي عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أفرد ، وروي مثله عن ابن عباس ، وعائشة ورجح الشافعي رواية جابر على رواية رواة القران ، والتمتع ، فإن جابرا أقدم صحبة ، وأشد عناية بضبط المناسك ، وأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - من لدن خروجه من المدينة إلى أن تحلل ، وأما قوله : لو استقبلت من أمري ما استدبرت . . . إلخ ؛ فإنما ذكره تطييبا لقلوب أصحابه ، واعتذارا لهم ، وتمام الخبر ما روي عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحرم إحراما مبهما ، وكان ينتظر الوحي في اختيار الوجوه الثلاثة ، فنزل الوحي بأن من ساق الهدي ، فليجعله حجا ، ومن لم يسق ، فليجعله عمرة ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - وطلحة قد ساقا الهدي دون غيرهما ، فأمرهم أن يجعلوا إحرامهم عمرة ، ويتمتعوا ، وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - إحرامه حجا ، فشق عليهم ذلك ، ولأنهم كانوا يعتقدون من قبل أن العمرة في أشهر الحج من أكبر الكبائر ، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك ، وأظهر الرغبة في موافقتهم لو لم يسق الهدي ، فإن الموافقة الجالبة للقلوب أهم بالتحصيل من فضيلة ، ومزية .

واتفق الأصحاب على القولين على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مفردا عام حجة الوداع ، وحكى الإمام عن ابن سريج أنه كان متمتعا ، ونقل عن بعض التصانيف شيئا آخر في الفضل ، واستبعده ، وهو أن الإفراد مقدم على القران ، والتمتع جزما ، والقولان في التمتع ، والقران أيهما أفضل ؟ واعلم أن تقديم الإفراد على التمتع ، والقران مشروط بأن يعتمر في تلك السنة ، أما لو أخر ، فكل واحد من التمتع ، والقران أفضل منه ؛ لأن تأخير العمرة عن سنة الحج مكروه .

(فصل)

وحاصل ما قاله أصحابنا أن المحرمين أربعة : مفرد بالحج ، ومفرد بالعمرة ، وقارن بينهما في عام واحد بإحرام واحد ، ومتمتع ؛ أي جامع بينهما في عام بإحرامين ، والقران أفضل من التمتع ، والإفراد ، والتمتع أفضل من الإفراد ، والإفراد بالحج أفضل من الإفراد بالعمرة ، وهذا ظاهر الرواية .

وروى الحسن عن أبي حنيفة أن الإفراد أفضل من التمتع ، وقال مالك ، والشافعي : الإفراد أفضل ، ثم التمتع ، ثم القران ، وقال أحمد : التمتع أفضل ، ثم الإفراد ، ومنشأ الخلاف اختلاف روايات الصحابة في صفة حجه - صلى الله عليه وسلم - هل كان قارنا ، أو مفردا ، أو متمتعا ، ورجح أئمتنا أنه كان قارنا ؛ إذ بتقديره يمكن الجمع بين الروايات ، فمن أدلة القران ما في الصحيحين من حديث عمر ، واللفظ للبخاري قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوادي العقيق يقول : أتاني الليلة آت من عند ربي - عز وجل - فقال : صل في هذا الوادي المبارك ، وقل عمرة في حجة . وعندهم من حديث أنس : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلبي بالحج ، والعمرة جميعا . وفي لفظ : لبيك عمرة ، وحجا . وعند ابن ماجه من حديث أبي طلحة أنه قال : قرن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع ، وعند أحمد ، وأصحاب السنن عن السري بن معبد أنه قال : أحللت بهما معا ، فقال عمر : هديت لسنة نبيك . وعند النسائي من حديث علي برواة موثقين أنه جمع بين الحج ، والعمرة ؛ طاف طوافين ، وسعى سعيين ، وحدث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك .

ومما جمعوا به بين الروايات أن هذا الاختلاف مبني على اختلاف السماع ، فإن بعضهم سمع أنه يلبي بالحج وحده ، فروى أنه كان مفردا ، وأن بعضهم سمع أنه يلبي بالعمرة وحدها ، فروى أنه كان متمتعا ، وأن بعضهم سمع أنه يلبي بهما معا ، فروى أنه كان قارنا ، ومحل الاختلاف بيننا ، وبين الشافعي إنما هو إفراد كل نسك بإحرام في سنة واحدة أفضل ، أو الجمع بينهما بإحرام واحد أفضل ، ولم يقل أحد بتفضيل الحج وحده على القران ، وما روي عن محمد أنه قال : حجة كوفية ، وعمرة كوفية أفضل عندي من القران ، فليس بموافق [ ص: 309 ] لمذهب الشافعي في تفضيل الإفراد ؛ فإنه يفضل الإفراد ، سواء أتى بنسكين في سفرة واحدة ، أو سفرتين ، ومحمد إنما الأفضل الإفراد إذا اشتمل على سفرتين ، وما استدل به على أفضلية القران غير ما ذكر ما رواه ابن أبي شيبة ، والطحاوي من حديث أم سلمة رفعته : أهلوا يا آل محمد بعمرة في حجة . ولأن فيه جمعا بين العبادتين ، فأشبه الصوم ، والاعتكاف ، والحراسة في سبيل الله ، وصلاة الليل ، وعلى أفضلية التمتع على الإفراد ؛ لأن فيه جمعا بين العبادتين ، فأشبه القران ، والله أعلم .

(فصل في اعتبار المحرمين)

فالقارن من قرن بين صفات الربوبية وصفات العبودية في عمل من الأعمال ؛ كالصوم ، أو من قرن بين العبد والحق في أمر بحكم الاشتراك فيه على التساوي ، بأن يكون لكل واحد من ذلك الأمر حظ مثل ما للآخر ؛ كانقسام الصلاة بين الله وعبده ، فهذا أيضا قران .

وأما الإفراد ، فهو مثل قوله : ليس لك من الأمر شيء ، ومثل قوله : قل إن الأمر كله لله ، وقوله تعالى : وإليه يرجع الأمر كله ، وما جاء من مثل هذا مما انفرد به عبد دون رب ، أو انفرد به رب دون عبد قوله تعالى : أنتم الفقراء إلى الله ، وقال لأبي يزيد : تقرب إلي بما ليس لي الذلة ، والافتقار . فهذا معنى القران ، والإفراد .

واعلم أن أشهر الحج حضرة إلهية انفردت بهذا الحكم ، فأي عبد اتصف بصفة سيادة من تخلق إلهي ، ثم عاد إلى صفة حق عبودية ، ثم رجع إلى صفة سيادية في حضرة واحدة ، فذلك هو المتمتع ، فإن دخل في صفة عبودية بصفة ربانية في حال اتصافه بذلك ، فهو القادر ، وهو متمتع ، ومعنى التمتع أنه يلزمه حكم الهدي ، فإن كان له هدي ، وهو بهذه الحالة من الإفراد ، أو القران ، فذلك الهدي كاف ، ولا يلزمه هدي ، ولا يفسخ جملة واحدة ، وإن أفرد الحج ، ومعه ، فلا فسخ ، فإلى هنا بمعنى مع ؛ ولهذا يدخل القارن فيه ؛ لقوله تعالى : فمن تمتع بالعمرة إلى الحج أي مع الحج ، فيعم المفرد ، والقارن بالدلالة ، فإن العمرة الزيارة ، فإذا قصدت على التكرار ، وأقل التكرار مرة ثانية كانت الزيارة حجا ، فدخلت العمرة في الحج ، أي : يحرم بها في الوقت الذي يحرم بالحج ، فإذا أحل المتمتع لأداء حق نفسه ، ثم ينشئ الحج ، فقد يكون تمتعه بصفة ربانية ، ولا سيما إن كان من جعله الله نورا ، أو كان الحق سمعه ، وبصره ، فلا يتصرف فيما يتصرف فيه إلا بصفة ربانية .

والصفات الإلهية على قسمين : صفة إلهية تقتضي التنزيه كالكبير ، والعالي ، وصفة إلهية تقتضي التشبيه كالمتكبر والمتعالي ، وما وصف الحق به نفسه مما يتصف به العبد ، فمن جعل ذلك نزولا من الحق إلينا جعل ذلك صفة للعبد ، ومن جعل ذلك صفة للحق إلهية ؛ لا تعقل نسبتها إليه لجهلنا به كان العبد في اتصافه بها يوصف بصفة ربانية في حال عبوديته ، ويكون جميع صفات العبد التي نقول فيها لا تقتضي التنزيه هي صفات الحق تعالى لا غيرها، غير أنها لما تلبس بها العبد انطلق عليها لسان استحقاق للعبد ، والأمر على خلاف ذلك ، وهذا الذي يرتضيه المحققون من أهل الطريق ، وهو قريب إلى الأفهام إذا وقع الإنصاف .

واعلم أن المحرم لا يحرم كما أن الموجود لا يوجد ، وقد أحرم المردف قبل أن يردف ، ثم أردف على إحرام العمرة المتقدم ، وأجزأه بلا خلاف ، والإحرام ركن في كل من العملين ، وبالاتفاق جوازه ، فيترجح من يقول : يطوف لهما طوافا واحدا ، وسعيا واحدا ، وحلاقا واحدا ، أو تقصيرا على من لا يقول بذلك ، وقد عرفت حكم تداخل الأسماء الإلهية في الحكم ، وانفراد حكم الاسم الإلهي الذي لا يداخله حكم غيره في حكمه ، فمن أفرد قال : الأفعال كلها لله ، والعبد محل ظهورها ، ومن قرن قال : الأفعال لله بوجه ، وتنسب إلى من تظهر فيه بوجه يسمى ذلك كباقي مذهب قوم وخلقا في مذهب آخرين ، واتفق الكل على أن خلق القدرة المقارنة لظهور الفعل من العبد لله تعالى ، وأنها ليست من كسب العبد ، ولا من خلقه ، واختلفوا هل لها أثر في المقدور أم لا ؟ فمنهم من قال لها أثر في المقدور ، ولا يكون مقدورها إلا عنها وبه صح التكليف ، وتوجه على العبد إذ لو لم يكن قادرا على الفعل لما كلف ؛ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ، وهو ما تقدر على الإتيان به ، وقال في أن القدرة لله التي في العبد لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها والذي أعطاها إنما هو القدرة التي خلق فيه ، ومنهم من قال : ليس للقدرة الحادثة أثر خلق في المقدور الموجود من العبد ، وليس للعبد في الفعل الصادر منه إلا الكسب ، وهو اختياره لذلك إذ لم يكن [ ص: 310 ] مضطرا ، ولا محصورا فيه ، وأما عند أهل الله الذين هم أهله ، فأعيان الأفعال الظاهرة من أعيان الخلق في أعيان الممكنات ما ظهر من الأفعال ، والعطاء بطريق الاستعداد لا يقال فيه إنه فعل من أفعال المستعد ؛ لا أنه لذاته اقتضاء كما أعطى قيام العلم لمن قام به حكم العالم ، وكون العالم عالما ليس فعلا بالاقتضاءات الذاتية العلمية ليست أفعالا منسوبة لمن ظهرت عنه ، وإنما هي أحكام له ، فأفعال المكلفين فيما كلفوا به من الأفعال ، والتروك مع علمنا بأن الظاهر الموجود هو الحق لا غيره بمنزلة محاورة الأسماء الإلهية ومجاراتها في مجالس المناظرة ، وتوجهاتها على المحل الموصوف بصفة ما بأحكام مختلفة ، وقهر بعضه البعض كفاعل الفعل المسمى ذنبا ومعصية يتوجه عليه الاسم العفو ، والاسم الغفار ، والاسم المنتقم ، فلا بد أن ينفذ فيه أحد أحكام هذه الأسماء ؛ إذ لا يصح أن ينفذ فيه الجميع في وقت واحد ؛ لأن المحل لا يقبله للتقابل الذي بين هذه الأحكام ، فقد ظهر قهر بعض الأسماء في الحكم لبعض الحضرة الإلهية واحدة ، فإذا علمت هذا هان عليك أن تنسب الأفعال كلها لله تعالى كما تنسب الأسماء الحسنى كلها لله تعالى ، أو الرحمن مع أحدية العين ، واختلاف الحكم ، فاعلم ذلك وخذه في جميع ما يسمى فعلا ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية