إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وللمرأة أن تلبس كل مخيط بعد أن لا تستر وجهها بما يماسه فإن إحرامها في وجهها .


(وللمرأة أن تلبس كل مخيط ) من القميص ، والسراويل ، والخف (بعد أن لا تستر وجهها بما يماسه فإن إحرامها في وجهها) ، أي : أن الوجه في حق المرأة كالرأس في حق الرجل ، ويعبر عن ذلك بأن إحرام الرجل في رأسه ، وإحرام المرأة في وجهها الأصل في ذلك ما روى البخاري من حديث نافع عن ابن عمر مرفوعا : لا تنتقب المرأة ، ولا تلبس القفازين ، ونقل البيهقي عن الحاكم عن أبي علي الحافظ أن لا تنتقب المرأة من قول ابن عمر أدرج في الخبر ، وقال صاحب الإمام هذا يحتاج إلى دليل ، وقد حكى ابن المنذر أيضا الخلاف هل هو من قول ابن عمر ، أو من حديثه ، وقد رواه مالك في الموطأ عن نافع ، عن ابن عمر موقوفا وله طرق في البخاري موصولة ، ومعلقة .

ثم إن قوله : فإن إحرامها في وجهها هو لفظ حديث أخرجه البيهقي في المعرفة عن ابن عمر قال : إحرام المرأة في وجهها ، وإحرام الرجل في رأسه . وأخرج الدارقطني ، والطبراني ، والعقيلي ، وابن عدي من حديثه بلفظ : ليس [ ص: 314 ] على المرأة إحرام إلا في وجهها . وإسناده ضعيف ، وقال العقيلي : لا يتابع على رفعه إنما يروى موقوفا ، وقال الدارقطني في العلل : الصواب وقفه ، وليس للرجل لبس القفازين ، كما ليس له لبس الخفين ، وهل للمرأة فيه قولان ؛ أحدهما لا يجوز . قاله في الأم ، والإملاء ، وبه قال مالك ، وأحمد ، والثاني : وهو منقول المزني : نعم ، وبه قال أبو حنيفة ، وفي الوجيز أنه أصح القولين لكن أكثر النقلة على ترجيح القول الأول ، منهم صاحب التهذيب ، والقاضي الروياني ، فإن جوزنا لها لبسهما فلا فدية إذا لبست ، وإلا وجبت الفدية ، ولو اختضبت بالحناء ، وألقت على يدها خرقة فوقها ، أو ألقتها على اليد من غير حناء ، فعن الشيخ أبي حامد أنها إن لم تشد الخرقة ، فلا فدية ، وإن شدت فعلى قولي القفازين ، ورتب الأكثرون ، فقالوا : إن قلنا : لها لبس القفازين ، فلا فدية عليها ، وإن منعنا ففي وجوب الفدية هنا قولان ؛ أحدهما يجب ، ويروى هذا عن الأم ، والثاني : لا يجب ، ويروى عن الإملاء ، والقولان على ما ذكر القاضي أبو الطيب ، وغيره مبنيان على المعنى المحرم لبس القفازين فيه ، ولأن مستخرجان ؛ أحدهما أن المحرم تعلق الإحرام بيدها كتعلقه بوجهها ؛ لأن كل واحد منهما ليس بعورة ، وإنما جاز الستر بالكمين للضرورة ، فعلى هذا تجب الفدية في صورة الخرقة ، والثاني : إن المحرم كون القفازين ملبوسين معمولين لما ليس بعورة من الأعضاء ، فألحقتا بالخفين في حق الرجل ، فعلى هذا لا فدية في الخرقة ، وهذا أصح القولين .

وإذا أوجبنا الفدية تعليلا بالمعنى الأول ، فهل تجب الفدية بمجرد الحناء ؟ فيه ما سبق من القولين في الرجل إذا خضب رأسه بالحناء ، ولو اتخذ الرجل لساعده ، أو لعضو آخر شيئا مخيطا ، أو للحية خريطة يقلبها إذا اختضب ، فهل يلتحق بالقفازين ؟ فيه تردد عن الشيخ أبي محمد ، والأصح الالتحاق ، وبه أجاب كثيرون ، ووجه المنع أن المقصود اجتناب الملابس المعتادة ، وهذا ليس بمعتاد ، والله أعلم .

(تنبيه)

وإذا ستر الخنثى المشكل رأسه ، أو وجهه ، فلا فدية لاحتمال أنه امرأة في الصورة الأولى رجل في الثانية ، وإن سترهما معا وجبت . قاله الرافعي . قلت ليس في هذا الكلام تعرض للمقدار الذي يجب عليه ستره ، وقال القاضي أبو الطيب في التعليق لا خلاف أنا نأمره بالتستر ، ولبس المخيط كما نأمره في صلاته أن يستتر كالمرأة . قال : والأصل فيه عدم الفدية على الأصح ؛ لأن الأصل براءة ذمته ، وقيل : تلزمه للاحتياط ، وفي البيان عن العجلي : إنه يمنع من كشف الرأس ، والوجه ، والله أعلم .

(فصل)

في المسارعة إلى البيان عند الحاجة ، واعتبار احتزام المحرم ، أخرج أبو داود عن صالح بن حسان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا محرما محتزما بحبل أبرق ، فقال : يا صاحب الحبل ألقه فيحتجون بمثل هذا الحديث أن المحرم لا يحتزم ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - ما قال ألقه ؛ لأنك محرم ، فما علل الإلقاء بشيء ، فيحتمل أن يكون لكونه محرما ، ويحتمل أن يكون لأمر آخر ، وهو أن يكون ذلك الحبل إما مغصوبا عنده ، وإما للتشبيه بالزنار الذي جعل علامة للنصارى ، فاعلم أن الاحتزام مأخوذ من الحزم ، وهو الاجتهاد في الأخذ بالأمور التي يكون في الأخذ بها حصول السعادة للإنسان ، ومرضاة الرب إذا كان الحزم على الوجه المشروع ، والحبل إذا كان حبل الله ، وهو السبب الموصل إلى إدراك السعادة ، فإن كان ذلك المحتزم احتزم بحبل الله معلما بأخذ الشدائد ، والأمور المهمة ، وقال له ألقه فإنما ذلك مثل قوله : من يشاد هذا الدين يغلبه ، وإن هذا الدين متين ، فأوغل فيه برفق ، وكان كثيرا ما يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالرفق ، وقال إن الله يحب الرفق في الأمر كله ، والحزم ضد الرفق ، فإن الحزم سوء الظن ، وقد نهينا عن سوء الظن ، والأمر أيسر مما يتخيله الحازم ، وهو يناقض المعرفة ؛ فإنه لا يؤثر في القدر الكائن ، والأمر الشديد إذا تقسم على الجماعة هان هذا اعتباره الذي يحتاج إليه ، ولا سيما المحرم ؛ فإنه محجور عليه فزاد بالحبل احتجارا على احتجار فكأنه قال له يكفيك ما أنت عليه من الاحتجار فلا تزد ، فما كان أرفقه بأمته - صلى الله عليه وسلم - وإنما رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الهميان للمحرم لأن نفقته فيه الذي أمره الله أن يتزود بها إذا أراد الحج ، فقال : وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ، فالتقوى هنا ما يتخذه الحاج من الزاد ليقي به وجهه من السؤال ، ويتفرغ [ ص: 315 ] لعبادة ربه ، هذا هو التقوى المعروف ، ولهذا ألحقه ، بقوله : عقيب ذلك ، واتقون يا أولي الألباب ، فأوصاه أيضا مع تقوى الزاد بالتقوى فيه ، وهو أن لا يكون إلا من وجه طيب ولما كان الهميان محلا له وظرفا ووعاء ، وهو مأمور به في الاستحباب رخص له في الاحتزام به فإنه من الحزم أن تكون نفقة الرجل صحبته ، فإن ذلك أبعد من الآفات التي يمكن أن تطرأ عليه فتتلفه .

ذكر ابن عدي الجرجاني من حديث ابن عباس قال : رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الهميان للمحرم . وإن كان هذا الحديث لا يصح عند أهل الحديث ، وهو صحيح عند أهل الكشف .

(فصل)

في اعتبار إحرام المرأة في وجهها هو رجوع إلى الأصل ، فإن الأصل أن لا حجاب ، ولا ستر ، والأصل ثبوت المعنى لا وجودها ولم تزل بهذا النعت موصوفة ، وبقبولها لسماع الكلام إذا خوطبت صفوته ، فهي مستعدة لقبول نعت الوجود مسارعة لمشاهدة المعبود ، فلما قال لها كن ، فكانت ، فبانت لنفسها ، وما بانت ، فوجدت غير محجور عليها في صورة موجدها ذليلة في عين مشهدها لا تدري ما الحجاب ، ولا تعرفه ، فلما بانت للأعيان ، وأثرت الطبيعة الشح في الحيوان ووفره في حقيقة الإنسان لما ركبه الله عليه في نشأته من وفور العقل ، وتحكيم القوى الروحانية ، والحسية منه انجرت الغيرة المصاحبة للشح ، والوهم أقوى فيه مما سواه ، والعقل ليس بينه وبين الغيرة مناسبة في الحقيقة ، ولهذا خلقه الله في الإنسان لدفع سلطان الشهوة ، والهوى الموجبين لحكم الغيرة فيه ، فإن الغيرة من مشاهدة الغير المماثل المزاحم له فيما يروم تحصيله ، أو هو حاصل له من الأمور التي إذا ظفر به واحد لم يكن عند غيره ، وهو مجبول على الحرص ، والطمع أن يكون كل شيء له ، وتحت حكمه لإظهار حكم سلطان الصورة التي خلق عليها ، وللغيرة موطن مخصوص شرعه له لا يتعداه ، فكل غيرة تتعدى ذلك الحد ، فهي خارجة عن حكم العقل منبعثة عن شح الطبيعة ، وحكم الهوى ، فمن غار الغيرة الإيمانية في زعمه ، فحكمه أن لا يظهر منه ، ولا يقوم به ذلك الأمر الذي غار عليه حين رآه في غيره ، فإن قام به فما تلك غيرة الإيمان وذلك من شح الطبيعة ، فوقاه الله منه ، فليس بمفلح في غيرته ، وما أكثر وقوع هذا من المحجوبين حين غلبت أهواؤهم ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية