إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الثاني الطيب ، فليجتنب كل ما يعده العقلاء طيبا فإن تطيب ، أو لبس فعليه دم شاة .


(الثاني) من المحظورات (الطيب ، فليجتنب كل ما يعده العقلاء طيبا فإن تطيب ، أو لبس) شيئا مسه طيب (فعليه دم شاة) الكلام على هذا الفصل مما تتعلق به الفدية في ثلاثة أمور الطيب ، والاستعمال ، والقصد أما الطيب ، فالمعتبر فيه أن يكون معظم الغرض التطيب ، واتخاذ الطيب فيه ، أو يظهر منه الغرض كالمسك ، والعود ، والعنبر ، والكافور ، والصندل ، ثم ما له رائحة طيبة من نبات الأرض أنواع منها ما يطلب للطيب ، واتخاذ الطيب منه كالورد ، والياسمين ، والخيزي ، وكذا الزعفران وإن كان يطلب للصبغ ، والتداوي أيضا كالورس ، وهو كما يقال أشهر طيب بلاد اليمن ، ومنها ما يطالب للأكل ، والتداوي به غالبا فلا تتعلق به الفدية كالقرنفل ، والدارصيني ، والسنبل ، وسائر الأبازير الطيبة ، وكذا السفرجل ، والتفاح ، والبطيخ ، والأترج ، والنارنج ، ومنها ما يتطيب به ، ولا يتخذ منه الطيب كالنرجس ، والريحان الفارسي والمرزنجوش ، ونحوها ففيه قولان القديم أنه تتعلق به الفدية ؛ لأن هذه الأشياء لا تبقى لها رائحة إذا جفت ، وقد روي أن عثمان - رضي الله عنه - سئل عن المحرم هل يدخل البستان قال نعم ويشم الريحان رويناه في مسلسلات ابن ناصر الدين الدمشقي من طريق الطبراني ، وهو في المعجم الصغير بسنده إلى جعفر بن برقان ، عن ميمون بن مهران ، عن أبان بن عثمان ، عن عثمان ، وأورده المنذري في تخريج أحاديث المهذب مسندا أيضا ، وقال النووي في شرح المهذب : إنه غريب يعني أنه لم يقف على إسناده ، والجديد التعلق لظهور قصد التطيب فما كالورد ، والزعفران ، وأما البنفسج فأصح الطرق فيه أنه طيب كالورد ، والياسمين ، وأما ما نقلوا عن نصه أنه ليس بطيب ، فإنهم حملوه على الجاف منه ، أو على بنفسج الشام ، والعراق ، والمري بالكسر المستهلك فيه ، وفي اللينوفر قولا النرجس ، والريحان ، ومنهم من قطع بأنه طيب ، ومنها ما ينبت بنفسه ، ولا يستنبت كالشيح ، والقيصوم ، والشقائق ، فلا تتعلق بالفدية [ ص: 316 ] أيضا ، وكذا العصفر ، وبه قال أحمد ، وقال أبو حنيفة : تتعلق به الفدية ، والحناء ليس بطيب ، وقال أبو حنيفة : هو طيب ، وفي دهن الورد وجهان ؛ أصحهما : أنه تتعلق به الفدية ، وفي دهن البنفسج وجهان : أظهرهما أنه ليس بطيب ، وأما اللبان ودهنه ، فنقل الإمام عن النص أنهما ليسا بطيب ، وأطلق الأكثرون القول بأن كلا منهما طيب ، وفي كون دهن الأترج طيبا وجهان : حكاهما الماوردي ، والروياني ، وقطع الروياني بأنه طيب .

الأمر الثاني : الاستعمال ، وهو إلصاق الطيب بالبدن على الوجه المعتاد من ذلك الطيب ، فلو طيب جزءا من بدنه بغالية ، أو مسك مسحوق ، أو ماء ورد لزمته الفدية ، وعن أبي حنيفة أن الفدية التامة إنما تلزم إذا طيب عضوا ، أو ربع عضو ، فإن طيب أقل منه لم تلزمه ، ولا فرق بين أن يتفق الإلصاق بظاهر البدن ، أو داخله كما لو أكله ، أو احتقن به ، أو تسعط به ، وقيل : لا فدية في الحقنة ، والسعوط ، ولو جلس في حانوت عطار أو عند الكعبة وهي تجمر ، أو في بيت تجمر ساكنوه فعبق به الريح دون العين ، فلا فدية ؛ لأن ذلك لا يسمى متطيبا ، ثم إن قصد الموضع لا لاشتمام الرائحة لم يكره ، وإلا كره على الأصح .

وعن القاضي الحسين أن الكراهة ثابتة لا محالة ، والخلاف في وجوب الفدية ، ولو احتوى على مجمرة فتبخر بالعود بدنه وثيابه لزمته الفدية ؛ لأن هذا هو طريق التطيب ، وعن أبي حنيفة أنه لا فدية عليه ، ولو مس طيبا ، ولم يعلق ببدنه شيء من عينه ، ولكن عبقت به الرائحة ، فهل تلزمه الفدية فيه قولان ؛ أحدهما : لا ، وهو منقول المزني ، والثاني : نعم ، وهو المروي عن الإملاء .

وذكر صاحب العدة أن هذا أصح القولين ، وكلام الأكثرين يميل إلى الأول ، ولو شد المسك ، أو العنبر ، أو الكافور في طرف ثوبه ، أو جيبه ، وجبت الفدية ، وفي العود لا ، وإن حمل مسكا في فارة غير مشقوقة ، فوجهان : أصحهما ، وبه قال القفال أنه تجب ، وأصحهما ، وبه قال الشيخ أبو حامد لا ، ولو جلس على فراش مطيب ، ونام عليه مفضيا ببدنه ، أو ملبوسه إليها لزمته الفدية ، فلو فرش فوقه ثوبا ، ثم جلس عليه ، أو نام لم تجب ، ولو داس بنعله طيبا لزمته الفدية ؛ لأنها ملبوسة له .

الأمر الثالث : كون الاستعمال عن قصد ، فلو تطيب ناسيا لإحرامه ، أو جاهلا بتحريم الطيب لم تلزمه الفدية ، وعند مالك ، وأبي حنيفة ، والمزني تجب الفدية على الناسي ، والجاهل ، وعن أحمد روايتان ، وإن علم بتحريم الاستعمال ، وجهل وجوب الفدية لزمته الفدية ، ولو علم تحريم الطيب ، وجهل كون الممسوس طيبا فجواب الأكثرين أنه لا فدية ، وحكى الإمام وجها آخر أنها تجب ، ولو مس رطبا وهو يظن أنه يابس لا يعلق به شيء منه ، ففي وجوب الفدية قولان ؛ أحدهما : أنها تجب ، والثاني : لا ، وبالقول الأول أجاب صاحب الكتاب ، ورجحه الإمام ، وقطع به في الشامل ، ولكن طائفة من الأصحاب رجحوا الثاني . وذكر صاحب التقريب أنه القول الجديد ، ومتى لصق الطيب ببدنه ، أو ثوبه على وجه لا يوجب الفدية ، وإن كان ناسيا ، أو ألقته الريح عليه فعليه أن يبادر إلى غسله ، أو معالجته بما يقطع رائحته ، والأولى أن يأمر غيره به ، وإن باشره بنفسه لم يضره ؛ لأن قصده الإزالة ، فإن توانى فيه ، ولم يزله مع الإمكان فعليه الفدية ، فإن كان زمنا لا يقدر على الإزالة ، فلا فدية عليه كما لو أكره على الطيب قاله في التهذيب .

(فصل)

وأما اعتبار الطيب للمحرم ، فاعلم أن رائحة الطيب يستلذ بها صاحب الطبع السليم ، ولا تستخبثها نفسه ، وهو الثناء على العبد بالنعوت الإلهية الذي هو التخلق بالأسماء الحسنى لا بمطلق الأسماء ، وهو في هذه العبادة الأغلب عليه مقام العبودية لما فيها من التحجر ، ومن الأفعال التي يجهل حكمتها النظر العقلي ، فكأنها مجرد عبادة ، فلا تقوم إلا بأوصاف العبودية ، فالمحرم في حالة إحرامه تحت قهر اسم العبودية ، فليس له أن يحدث طيبا ، أي : ثناء إلهيا فيزيل عنه حكم ما يعطيه الاسم الحاكم لتلك العبادة ؛ فإنها لا تتصور عبادة إلا بحكم هذا الاسم ، فإذا زال لم يكن ثم من يقيمها إلا النائب الذي هو للفدية لا غير ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية