إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الثالث الحلق ، والقلم ، وفيهما الفدية أعني دم شاة
(الثالث) من المحظورات (الحلق ، والقلم ، وفيهما الفدية أعني دم شاة) اعلم أن حلق الشعر قبل أوان التحلل محظور ، فإن الله تعالى قال : ولا تحلقوا رءوسكم الآية ، وأوجب الفدية على المعذور ، والحلق حيث قال : فمن كان [ ص: 317 ] منكم مريضا أو به أذى من رأسه الآية ، وإذا وجبت الفدية على المعذور ، فعلى غير المعذور أولى ، ولا فرق بين شعر الرأس والبدن ، أما شعر الرأس فمنصوص عليه ، وأما غيره ، فالتنظيف ، والترفه ، في إزالته أكثر .

وذكر المحاملي أن في رواية عن مالك لا تتعلق الفدية بشعر البدن ، والتقصير كالحلق ، كما أنه في معناه عند التحلل ، وقلم الأظفار كحلق الشعر فإنها تراد للتنظيف ، والترفه ، وليس الحكم في الشعر منوطا بخصوص الحلق ، بل بالإزالة ، والإبانة فيلحق به النتف ، والإحراق ، وغيرهما ، وكذلك يلحق بالقلم الكسر ، والقلع ، فلو كشط جلدة الرأس ، فلا فدية عليه ، ولو امتشط لحيته ، فانتتفت شعرات فعليه الفدية ، وإن شك في أنه كان منسلا فانفصل ، أو انتتف بالمشط ، فقد حكى الإمام ، والمصنف في وجوب الفدية قولين ، وقال الأكثرون فيه وجهان ؛ أحدهما : تجب ؛ لأن الأصل بقاؤه نابتا إلى وقت الامتشاط ، وأصحهما أنه لا تجب ؛ لأن النتف لا يتحقق ، والأصل براءة الذمة عن الفدية .

(فصل)

ولا يعتبر في وجوبها حلق جميع الرأس ، ولا قلم جميع الأظفار بالإجماع ، ولكن يكمل الدم في حلق ثلاث شعرات ، وقلم ثلاث أظفار من أظفار اليد ، والرجل ، سواء كانت من طرف واحد ، أو طرفين خلافا لأبي حنيفة حيث قال : لا يكمل بحلق ثلاث شعرات ، وإنما يكمل إذا حلق من رأسه القدر الذي يحصل به إماطة الأذى ، ولا حد حيث قدر في رواية بأربع شعرات ، والرواية الثانية مثل قول الشافعي .

قال الرافعي : لنا أن المفسرين ذكروا في قوله تعالى : أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أن المعنى فحلق ففدية ، ومن حلق ثلاث شعرات ، فقد حلق ، قلت : وهذا الاستدلال ناقص ؛ لأنه جمع مضاف ، فيفيد العموم ، فينبغي تتميم الاستدلال بأن يقال : الاستيعاب متروك بالإجماع فحملناه على أقل الجمع ، والله أعلم .

وإن اقتصر على شعرة أو شعرتين ، ففيه أقوال أظهرها أن في شعرة مدا من طعام ، وفي شعرتين مدين ؛ لأن تبعيض الدم عسير ، والشرع قد عدل الجبران بالطعام في جزاء الصيد ، وغيره ، والشعرة الواحدة هي النهاية في القلة ، والمد أقل ما وجب في الكفارات ، فقوبلت به ، والثاني : في شعرة درهم ، وفي شعرتين درهمان ، ويحكى ذلك عن مذهب عطاء ، والثالث رواه الحميدي عن الشافعي في شعرة ثلث دم ، وفي شعرتين ثلثا دم ، وهنالك قول رابع حكاه صاحب التقريب أن الشعرة الواحدة تقابل بدم كامل ، وهو اختيار الأستاذ أبي طاهر ، وأما أبو حنيفة ، فلا يوجب فيما دون الربع شيئا مقدرا ، وإنما يوجب صدقة ، ثم إن الخلاف في الشعرة ، والشعرتين جار في الظفر ، والظفرين ، ولو قلم دون القدر المعتاد كان كما لو قصر الشعر ، ولو أخذ من بعض جوانب ، ولم يأت على رأس الظفر كله ، فقد قال الأئمة : إن قلنا يجب في الظفر الواحد ثلث دم ، أو درهم ، فالواجب فيه ما يقتضيه الحساب ، وإن قلنا يجب فيه مد ، فلا سبيل إلى تبعيضه .

(فصل)

وإذا حلق شعر غيره ، فإما أن يكون الحالق حراما ، والمحلوق حلالا ، أو بالعكس ، أو يكونا حرامين ، أو حلالين . أما الحالة الأخيرة ، فلا يخفى حكمها ، وأما إذا كان الحالق حراما ، والمحلوق حلالا ، فلا منع منها ، ولا يجب على الحالق شيء ، وبه قال مالك ، وأحمد . وقال أبو حنيفة : ليس للمحرم أن يحلق شعر غيره ، ولو فعل فعليه صدقة ، أما إذا حلق الحلال ، والحرام شعر الحرام ، فقد أساء ، ثم ينظر إن حلق بأمره ، فالفدية على المحلوق ؛ لأن فعل الحالق بأمره مضاف إليه ، وإن حلق لا بأمره ، فينظر إن كان نائما ، أو مكرها ، أو مغمى عليه ففيه قولان ؛ أصحهما : إن الفدية على الحالق ، وبه قال مالك ، وأحمد . والثاني ، وبه قال أبو حنيفة ، واختاره المزني : إنها على المحلوق ؛ لأنه المرتفق به ، وقد ذكر المزني أن الشافعي - رضي الله عنه - قد خط على هذا القول ، لكن الأصحاب نقلوه عن البويطي ، ووجدوه غير مخطوط عليه ، وبنوا القولين على أن استحفاظ الشعر في يد المحرم جار مجرى الوديعة ، أو مجرى العارية ، وفيه جوابان إن قلنا بالأول ، فالفدية على الحالق كما أن ضمان الوديعة على المتلف دون المودع ، وإن قلنا بالثاني وجب على المحلوق وجوب الضمان على المستعير . قالوا : والأول أظهر ، وإن لم يكن نائما ، ولا مغمى عليه ، ولا مكرها لكنه سكت عن الحلق ففيه قولان ، وقال المعظم ، وجهان ؛ أحدهما : إن الحكم كما لو [ ص: 318 ] كان نائما ؛ لأن السكوت ليس بأمر ، وأصحهما أنه كما لو حلق بأمره ؛ لأن الشعر عنده إما كالوديعة ، أو كالعارية ، وعلى التقديرين يجب الدفع عنه ، ولو أمر حلال حلالا بحلق شعر حرام وهو نائم فالفدية على الآمر إن لم يعرف المحلوق الحال ، وإن عرف فعليه في أصح الوجهين ، ولو طارت نار إلى شعره ، فأحرقته ، قال الروياني : إن لم يمكنه إطفاؤها ، فلا شيء عليه ، وإلا فهو كمن حلق رأسه وهو ساكت .

التالي السابق


الخدمات العلمية