إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الجملة الثانية في آداب الإحرام من الميقات إلى دخول مكة وهي خمسة :

الأول : أن يغتسل ، وينوي به غسل الإحرام ؛ أعني إذا انتهى إلى الميقات المشهور الذي يحرم الناس منه
(الجملة الثانية في آداب الإحرام من الميقات )

المكاني (إلى) حين (دخول مكة) شرفها الله تعالى ، وهي خمسة (الأول : أن يغتسل ، وينوي به غسل الإحرام ؛ أعني إذا انتهى إلى الميقات المشهور الذي يحرم الناس منه) ، وهذا الغسل من الأغسال المسنونة المستحبة ، وهي تسعة ، هذا أحدها ، ويأتي بيان البقية في شرح الجملة الثالثة قريبا .

اعلم أن من سنن الإحرام أن يغتسل إذا أراد الإحرام ، فقد روى الترمذي ، والدارقطني ، والبيهقي ، والطبراني من حديث زيد بن ثابت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تجرد لإهلاله ، واغتسل . حسنه الترمذي ، وضعفه العقيلي ، وروى الحاكم ، والبيهقي من طريق يعقوب بن عطاء ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : اغتسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم لبس ثيابه ، فلما أتى ذا الحليفة صلى ركعتين ، ثم قعد على بعيره ، فلما استوى به على البيداء أحرم بالحج ، ويعقوب ضعيف ، ويستوي في استحبابه الرجل ، والمرأة ، والصبي ، وإن كانت حائضا ، أو نفساء ؛ لأن المقصود من هذا الغسل التنظيف ، وقطع الروائح الكريهة لدفع أذاها عن الناس عند اجتماعهم ، فقد روى مالك في الموطأ عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن أسماء بنت عميس امرأة أبي بكر أنها نفست بذي الحليفة ، فأمرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تغتسل للإحرام . ولو كانت يمكنها المقام بالميقات حتى تطهر ، فالأولى أن تؤخر الإحرام حتى تطهر ، وتغتسل ليقع إحرامها على أكمل حالها ، وإذا لم يجد المحرم ماء ، أو لم يقدر على استعماله تيمم ؛ لأن التيمم عن الغسل الواجب ، ففي المندوب أولى . نص عليه في الأم ، واختار إمام الحرمين أنه لا يتيمم ، وجعله وجها في المذهب ، وإن لم يجد من الماء ما يكفيه للغسل توضأ . قاله صاحب التهذيب . قال النووي : وكذا المحاملي ، فإن أراد أنه يتوضأ ، ثم يتيمم فحسن ، وإن أراد الاقتصار فليس بجيد ؛ لأن المطلوب هو الغسل ، والتيمم يقوم مقامه دون الوضوء ، والله أعلم .

وحكى إبراهيم المروزي قولا أنه لا يسن للحائض ، والنفساء الاغتسال ، وإذا اغتسلتا فهل تنويان ؟ فيه نظر لإمام الحرمين ، والظاهر أنهما ينويان ؛ لأنهما يقيمان مسنونا .

[ ص: 333 ] (فصل)

وقال صاحب الهداية من أصحابنا : وإذا أراد الإحرام اغتسل ، أو توضأ ، والغسل أفضل لما روي فيه ، إلا أنه للتنظيف حتى تؤمر به الحائض ، وإن لم يقع فرضا عنها ، فيقوم الوضوء مقامه كما في الجمعة ، ولكن الغسل أفضل ؛ لأن معنى التنظيف به أتم ، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - اختاره . أهـ .

والحاصل أن من أراد أن يحرم يستحب له أن يغتسل ، فقد أخرج ابن أبي شيبة ، والبزار ، والدارقطني ، والحاكم من حديث ابن عمر أنه قال : السنة أن يغتسل إذا أراد أن يحرم ، والمراد بهذا الغسل تحصيل النظافة ، وإزالة الرائحة حتى تؤمر به الحائض ، والنفساء ، ولا يتصور حصول الطهارة لها بهذا الغسل ، ولذا قالوا : لا يعتبر التيمم عند العجز عن الماء بخلاف الجمعة ، والعيدين ، وسوى في الكافي بين الإحرام ، والجمعة ، والعيدين . قال عمر بن نجيم في شرح الكنز ، وهو التحقيق ؛ لأن التراب لا أثر له في تحصيل النظافة ؛ لأنه ملوث ، ويغبر . أهـ .

فالتيمم لا ينوب عن غسل الإحرام اتفاقا ، والوضوء ينوب عنه ، وهل ينوب عن غسل الجمعة ، والعيدين ، فالمشهور أنه ينوب ، والتحقيق أنه لا ينوب .

(فصل)

وأما اعتبار هذا الغسل ، فاعلم أن الطهارة الباطنة في كل عبادة واجبة عند أهل الله إلا من يرى أن المكلف إنما هو الظاهر في مظهر ما عن أعيان الممكنات ، فإنه يراه سنة لا وجوبا ، ومن يرى من أهل الله أن الاستعداد الذي هو عليه عين المظهر كما أثر في الظاهر فيه أن يتميز عن ظهور آخر بأمر ما ، وباسم ما من حيوان ، أو إنسان ، أو مضطر ، أو بالغ ، أو عاقل ، أو مجنون ، فذلك الاستعداد عينه أوجب عليه الحكم بأمر ما ، كما أوجبه الاسم ، فقال له : اغتسل لإحرامك ، أي : تطهر بجمعك حتى تعم الطهارة ذاتك لكونك تريد أن تحرم عليك أفعالا مخصوصة لا يقتضي فعلها هذه العبادة الخاصة المسماة حجا ، أو عمرة ، فاستقبالها بصفة تقديس أولى ؛ لأنك تريد بها الدخول على الاسم القدوس ، فلا تدخل عليه إلا بصفة ، وهي الطهارة ، كما لم تدخل عليه إلا بأمره ، إذ المناسبة شرط في التواصل ، والصحبة ، فوجب الغسل ، ومن رأى أنه إنما تحرم على المحرم أفعال مخصوصة لا جميع الأفعال قال : فلا يجب عليه الغسل الذي هو عموم الطهارة ؛ ، فإنه لم يحرم عليه جميع أفعاله ، فيجزئ الوضوء ؛ فإنه غسل أعضاء مخصوصة من البدن ، كما أنه ما يحرم عليه إلا أفعال مخصوصة في أفعاله ، وإن اغتسل فهو أفضل ، وكذلك إن عمم الطهارة الباطنة فهو أولى ، وأفضل ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية