إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
والاغتسالات المستحبة المسنونة في الحج تسعة :

الأول للإحرام من الميقات ثم لدخول مكة ثم لطواف القدوم ثم للوقوف بعرفة ثم للوقوف بمزدلفة ثم ثلاثة أغسال لرمي الجمار الثلاث ولا غسل لرمي جمرة العقبة ثم لطواف الوداع ولم ير الشافعي رضي الله عنه في الجديد الغسل لطواف الزيارة ولطواف الوداع فتعود إلى سبعة .

الثاني أن يقول عند الدخول في أول الحرم وهو خارج مكة اللهم هذا حرمك وأمنك فحرم لحمي ودمي وشعري وبشري على النار وآمني من عذابك يوم تبعث عبادك واجعلني من أوليائك وأهل طاعتك .

الثالث : أن يدخل مكة من جانب الأبطح وهو ثنية كداء بفتح الكاف عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم من جادة الطريق إليها فالتأسي به أولى وإذا خرج خرج من ثنية كدى بضم الكاف وهي الثنية السفلى والأولى هي العليا .


(والأغسال المسنونة المستحبة في الحج تسعة : الأول للإحرام من الميقات) قال النووي : قال الشافعي في الأم : أكره ترك الغسل للإحرام ، وقد تقدم ما فيه (ثم لدخول مكة ) وهو الغسل المذكور بذي طوى ، وقد روي ذلك من فعله صلى الله عليه وسلم كما ذكر قريبا (ثم الوقوف بالمزدلفة ) زاد في الوجيز غداة يوم النحر ، وهكذا عبر به النووي في المنهاج ، إلا أنه لم يذكر الوقوف ، ولفظه : بمزدلفة غداة يوم النحر ، ومعناه : وبليلة غداة يوم النحر ، وتقديره : وبمزدلفة في غداة يوم النحر ، وإنما عبر بالمزدلفة ولم يقل بليلة النحر لاختصاص استحباب الغسل بالمزدلفة ، وغداة مخفوض إما بإضافة الليلة إليه ، أو بإضافة المزدلفة إليه ، والتقدير : وبمزدلفة غداة النحر . استغناء بالمضاف عن المضاف إليه ، وتقدير قول المصنف في الوجيز : ويستحب الغسل بالمزدلفة في ليلة غداة النحر ، أي : لا في غيرها . وهذا التحقيق هكذا وجدته بخط بعض المقيدين على طرة كتاب الرافعي ، وفي زيادات الروضة ، وهذا الغسل هو للوقوف بالمزدلفة هو الذي ذكره الجمهور ، ونص عليه في الأم ، وجعل المحاملي في كتبه وسليم الرازي والشيخ نصر المقدسي هذا الغسل للمبيت بالمزدلفة ، ولم يذكروا غسل الوقوف بها والله أعلم .

(ثم لطواف القدوم) هكذا هو في سائر النسخ ، ولم يذكره الرافعي والنووي ، والظاهر أن الغسل الذي لدخول مكة ينوب عنه (ثم للوقوف بعرفة) عشية عرفة ، وفي صحيح البخاري عن سالم عام نزل بابن الزبير سأل عبد الله بن عمر كيف أصنع في الموقف ؟ قال سالم : إن كنت تريد السنة فهجر بالصلاة يوم عرفة .

قال عبد الله : صدق . وفيه قول الحجاج : أنظرني حتى أفيض على رأسي . وفي ذلك دلالة على أنه في ذلك تابع للسنة ، ولذلك أجابه ابن عمر إليه ، وأقره عليه ، فالحجة في تقرير ابن عمر لا في فعل الحجاج ، ولو كان خلاف السنة لأنكره عليه .

وروى مالك عن ابن عمر أنه كان يغتسل لإحرامه قبل أن يحرم ، ولدخوله مكة ولوقوفه عشية عرفة .

وأخرج سعيد بن منصور عنه أنه اغتسل حين راح إلى الموقف .

وأخرج عنه أيضا أنه كان يغتسل إذا راح إلى عرفة وإذا أتى بالجمار .

وأخرج أيضا عن عبد الرحمن بن يزيد أن ابن مسعود اغتسل تحت الأراك حين راح إلى عرفة (ثم ثلاثة أغسال لرمي الجمرات الثلاث) أيام التشريق قال الرافعي : وسببها أن هذه مواطن يجتمع لها الناس ، فاستحب فيها قطعا للروائح الكريهة ، وأغسال أيام التشريق في حق من لم ينفر في النفر الأول ، فإن نفر سقط عنه غسل اليوم الثالث ، وهذه الأغسال قد نص عليها الشافعي -رضي [ ص: 341 ] الله عنه- قديما وجديدا ، أعني سوى غسل طواف القدوم ، ويستوي في استحبابه الرجل والمرأة ، وحكم الحائض ومن لم يجد الماء فيها على ما ذكرناه في غسل الإحرام .

قال الأئمة : (ولا غسل لرمي جمرة العقبة ) يوم النحر ، ولم يستحبه الشافعي لأمرين : أحدهما اتساع وقته ، فإن وقته من انتصاف ليلة النحر إلى الزوال ، ووقت رمي الجمرات من الزوال إلى الغروب ، والتقريب بعد هذا من وجهين : أحدهما : أن اتساع الوقت مما يقلل الزحمة . والثاني : أن ما بعد الزوال وقت شدة الحر وانصباب العرق ، فتكون الحاجة إلى دفع ما يؤذي الغير أكثر . والثالث : أن في غسل يوم العيد يوم النحر والوقوف بعرفة غنية عن الغسل لرمي جمرة العقبة لقرب وقتها منه . . أهـ .

قلت : ووجدت بخط بعض المقيدين على طرة كتاب الرافعي ما نصه غسل عرفة يدخل الزوال ويستمر إلى طلوع الفجر فهو مزاحم لغسل مزدلفة في الوقت دون المكان لاختصاص غسلها بها ومزاحم لغسل العيد فيما بين نصف الليل الأخير إلى فجر يوم النحر وإنما لم يستحب الغسل للرمي يوم النحر لمزاحمة غسل العيد له في الوقت ولقربه من غسل عرفة والتعليل بمزاحمة غسل العيد هو الأولى لانتفاء الاستحباب مع انتفاء غسل عرفة فإنه لو لم يغتسل لعرفة ولا للمبيت بمزدلفة لم يستحب الغسل للرمي أيضا لأن في الاغتسال للعيد غنية فالأولى الاقتصار عليه فلو لم يغتسل للعيد استحب الغسل للرمي على مقتضى تعليلهم ، والله أعلم .

ثم إن المصنف ذكر في سياقه ثمانية أغسال وأشار إلى التاسع بقوله : (ثم لطواف الوداع) وهو قول قديم للشافعي وكذا الطواف للزيارة وقال لأن الناس يجتمعون لهما (ولم ير الشافعي) رضي الله عنه (في) القول (الجديد) الغسل (لطواف الزيارة) وهو طواف الإفاضة (ولا لطواف الوداع) قال : لأن وقتهما متسع فلا تغلب الزحمة فيهما غلبتهما في سائر المواطن (فتعود إلى سبعة) وعن القاضي أبي الطيب حكاية غسل آخر عن القديم وهو عند الحلق نقله الرافعي (الثاني أن يقول عند الدخول في أول الحرم) من أي جهة كانت (وهو خارج مكة) قبل دخوله بها وحدود الحرم معلومة (اللهم هذا حرمك وأمنك فحرم لحمي ودمي وبشري) أي ظاهر جلدي (على النار وأمني من عذابك يوم تبعث عبادك) سأل تحريم النار عليه من لفظ الحرم والأمان من العذاب من لفظ الأمن (واجعلني من أوليائك وأهل طاعتك الثالث : أن يدخل مكة من جانب الأبطح) وهو كل ميل يجتمع فيه دق الحصى والأباطيح جمعه والبطحاء بمعناه (وهو من ثنية كداء بفتح الكاف والمد) غير مصروف ، وهي من أعلى مكة مما يلي مقابر مكة عند الحجون وفي كداء هذه خمسة أوجه : أحدها : ما ذكرناه ، والثاني : كذلك ويصرف ، والثالث : بالفتح مع القصر ، والرابع : الضم مع القصر ، والخامس : بالضم مع التشديد ، وفي المصباح : كداء بالفتح والمد الثنية العليا بأعلى مكة عند المقبرة ولا ينصرف للعلمية والتأنيث وتسمى تلك الناحية المعلى (عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم من جادة الطريق إليها فالتأسي به صلى الله عليه وسلم أولى وإذا خرج خرج من كدا بضم الكاف) مع القصر (وهي الثنية السفلى) مما يلي باب العمرة يشير إلى ما رواه الشيخان من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج من طريق الشجرة ويدخل من طريق المغرس وإذا دخل مكة دخل من الثنية العليا ويخرج من الثنية السفلى ، وفي وراية من كداء من الثنية العليا التي بالبطحاء وخرج من الثنية السفلى ، وعن عائشة -رضي الله تعالى عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل عام الفتح من كدى وخرج من كداء من أعلى مكة ، وفي رواية دخل عام الفتح من كداء من أعلى مكة زاد أبو داود ودخل في العمرة من كدى قال هشام : وكان عروة يدخل على كليهما من كداء وكدى وأكثر ما يدخل من كدى وكان أقربهما من منزله وقال مسلم : أكثر ما يدخل من كداء قال الرافعي : وهذه السنة في حق من جاء من طريق المدينة والشام وأما الجاءون من سائر الأقطار فلا يؤمرون بأن يدوروا حول مكة ليدخلوا من ثنية كداء وكذلك القول في إيقاع الغسل بذي طوى وقالوا إنما دخل النبي صلى الله عليه وسلم من تلك الثنية اتفاقا لا قصدا لأنها على طريق المدينة وههنا [ ص: 342 ] شيئان : أحدهما : أن قضية هذا الكلام أن لا يتعلق نسك واستحباب بالدخول من تلك الثنية في حق الجائين من طريق المدينة أيضا وهكذا أطلق الإمام نقله عن الصيدلاني ، والثاني : أن الشيخ أبا محمد نازع فيما ذكروه من موضع الثنية وقال : ليست هي على طريق المدينة بل هي في جهة المعلى وهو في أعلى مكة والمرور فيه يفضي إلى باب بني شيبة ورأس الردم وطريق المدينة تفضي إلى باب إبراهيم ، ثم ذهب الشيخ إلى استحباب الدخول منها لكل جاء تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم وساعد الجمهور في الحكم الذي ذكروه وشهد للشيخ بأن الحق في موضع الثنية ما ذكره .

(تنبيه) :

قال الطبري في المناسك : ثنية كداء كسحاب إحدى الكدايا التي بمكة وهذه هي التي يستحب الدخول منها مما يلي الحجون وكدى بالضم والقصر والتنوين هي الثنية السفلى وهي التي يستحب الخروج منها وكدى مصغرا موضع بأسفل مكة ومن هذه يخرج من يخرج إلى جهة اليمين والأوليان هما المشهورتان هكذا ضبط عن المحققين منهم أبو العباس أحمد بن عمر العذري فإنه كان يرويه عن أهل المعرفة بمواضع مكة من أهلها حكاه عنه الحميدي . . أهـ .

وفي المصباح : الكدية بالضم الأرض الصلبة والجمع كدى كمدية ومدى وبالجمع سمي موضع بأسفل مكة بقرب شعب الشافعيين وقيل فيه : ثنية كدى فأضيف للتخصيص ويكتب بالياء ويجوز بالألف لأن المقصور إن كانت لامه ياء نحو كدى ومدى جازت الياء تنبيها على الأصل وجاز الألف اعتبارا باللفظ إذ الأصل كدى بإعراب الياء لكن قلبت ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها وإن كانت لامه واوا فإن كان مفتوح الأول نحو عصا كتبت بالألف بلا خلاف ولا يجوز إمالته إلا إذا انقلب واوه ياء نحو الأسى فإنها قلبت ياء في الفعل فقيل أسى فكتبت بالياء جوازا ويمال وإن كان الأول مضموما نحو الضحى أو مكسورا نحو الصبى فاختلف العلماء فيه فمنهم من يكتبه بالياء ويميله وهو مذهب الكوفيين لأن الضمة عندهم من الواو والكسرة من الياء ولا تكون عندهم لام الكلمة واوا وفاؤها واوا أو ياء فيجعلون اللام ياء فرارا مما لا يرونه ولعدم نظيره في الأصل ومنهم من يكتبه بالألف وهو مذهب البصريين اعتبارا بالأصل ومنه والشمس وضحاها و يمحق الله الربا قرئ في السبعة بالفتح والإمالة وقد ذكر الشاعر الموضعين في قوله :

أقفرت بعد عبد شمس كداء وكدى فالركن فالبطحاء

. . أهـ .

(فائدة)

قيل في وجه المناسبة : أن الداخل يقصد موضعا عالي المقدار فناسب الدخول من العلياء والخارج عكسه فناسب السفل وذكر السهيلي عن ابن عباس أن إبراهيم -عليه السلام- حين قال : فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم كان على كداء الممدود فلذلك استحب الدخول منه .

التالي السابق


الخدمات العلمية