إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وقال سهل رحمه الله العلم كله دنيا والآخرة منه العمل به والعمل كله هباء إلا الإخلاص .

وقال الناس كلهم موتى إلا العلماء والعلماء سكارى إلا العاملين والعاملون كلهم مغرورون إلا المخلصين والمخلص على وجل حتى يدري ماذا يختم له به .

وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله إذا طلب الرجل الحديث أو تزوج أو سافر في طلب المعاش فقد ركن إلى الدنيا وإنما أراد به طلب الأسانيد العالية أو طلب الحديث الذي لا يحتاج إليه في طلب الآخرة وقال عيسى عليه السلام كيف يكون من أهل العلم من مسيره إلى آخرته وهو مقبل على طريق دنياه وكيف يكون من أهل العلم من يطلب الكلام ليخبر به لا ليعمل به وقال صالح بن كيسان البصري أدركت الشيوخ وهم يتعوذون بالله من الفاجر العالم بالسنة .

وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من طلب علما مما يبتغي به وجه الله تعالى ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة وقد وصف الله علماء السوء بأكل الدنيا بالعلم ووصف علماء الآخرة بالخشوع والزهد فقال عز وجل في علماء الدنيا : وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا وقال تعالى في علماء الآخرة وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم وقال بعض السلف العلماء يحشرون في زمرة الأنبياء والقضاة يحشرون في زمرة السلاطين
( وقال) الإمام أبو محمد ( سهل) بن عبد الله بن يونس التستري سكن البصرة صاحب كرامات صحب ذا النون المصري بمكة سنة خروجه وجه للحج توفي سنة ثلاث وثمانين ومائتين وقيل: ثلاث وسبعين ( العلم كله دنيا إلا ما أريد به الآخرة) ، كذا في نسختنا وفي بعضها والآخرة منه العمل. وهكذا أخرجه الخطيب في كتاب الاقتضاء فقال: أخبرنا محمد بن الحسن الأهوازي، سمعت ابن دينار الصوفي يقول: سمعت محمد بن المنذر يقول سمعت [ ص: 362 ] سهل بن عبد الله يقول العلم كله دنيا الآخرة منه العمل به، وهكذا هو في القوت أيضا لكن من غير إسناد ويروى عنه أيضا فيما أخرجه الخطيب بالسند إلى بشر بن حسن الصابوني قال: قال سهل العلم أحد لذات الدنيا فإذا عمل به صار للآخرة وزاد صاحب القوت بعد قوله السابق ( والعمل كله هباء إلا الإخلاص) وهذه الزيادة لم أجدها في قول سهل وإنما هي في قوله الآتي فيما بعد والمصنف تابع في إيراده صاحب القوت إلا أنه يدون لفظه كله ( وقال) سهل أيضا ( الناس كلهم موتى إلا العلماء والعلماء سكارى إلا العاملين والعاملون مغرورون إلا المخلصين والمخلصون على وجل حتى يعلم بما يختم لهم به) هكذا أورده صاحب القوت إلا أنه قال والمخلص على وجل حتى يختم له به .

وقال الخطيب في كتاب الاقتضاء: أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد الخلال أخبرنا أبو المفضل الشيباني قال: سمعت عبد الكريم بن كامل الصواف يقول سمعت سهل بن عبد الله التستري، يقول: الناس كلهم سكارى إلا العلماء والعلماء كلهم حيارى إلا من عمل بعلمه ثم قال: أخبرنا أبو علي عبد الرحمن بن محمد النيسابوري بالري، أخبرنا أبو أحمد الغطريفي، حدثنا أبو سعيد العبدي بالبصرة قال: قال سهل بن عبد الله الدنيا جهل وموات إلا العلم والعلم كله حجة إلا العمل به، والعمل كله هباء إلا الإخلاص ( وقال) الإمام الزاهد ( أبو سليمان) عبد الرحمن بن أحمد بن عطية ( الداراني) منسوب إلى داريا قريبة بغوطة دمشق من رجال الرسالة واسطي سكن دمشق، وروى عن الربيع بن صبيح وأهل العراق وعنه صاحبه أحمد بن أبي الحواري والقاسم الجويحي مات سنة خمسة عشر ومائتين قلت: وهو غير أبي سليمان الداراني الكبير، فإن هذا اسمه عبد الرحمن بن سليمان بن أبي الجون العنسي الدمشقي له رحلة في الحديث روى عن الأعمش وليث بن أبي سليم ويحيى بن سعيد الأنصاري وإسماعيل بن أبي خالد وعنه هشام بن عمار وعبد الله بن يوسف التنيسي وصفوان بن صالح وجماعة وثقه رحيم.

قال الذهبي: بقي إلى قرب التسعين ومائة ( إذا طلب الرجل الحديث أو تزوج أو سافر في طلب المعاش فقد ركن إلى الدنيا) هكذا أورده صاحب القوت ولفظه من تزوج أو طلب الحديث أو طلب معاشا وفي موضع آخر أو سافر كما للمصنف ولم يذكر في طلب المعاش والباقي سواء، زاد المصنف في تفسيره ( وإنما أراد به الأسانيد العالية) أي: إنما أراد بطلبه للحديث طلب أسانيده العالية الغريبة والاستكثار من الطرق المستنكرة كأسانيد حديث الطائر، وحديث المغفر وغسل الجمعة، وقبض العلم ومن كذب ولا نكاح إلا بولي، وغير ذلك، مما يتتبع أصحاب الحديث طرقه، ويعتنون بجمعه، والصحيح من طرقه أقلها وأكثر من يجمع ذلك الأحداث منهم فيتحفظون بها ويتذاكرون ولعل أحدهم لا يعرف من الصحاح حديثا وتراه يذكر من الطرق الغريبة والأسانيد العجيبة التي أكثرها موضوع وجلها مصنوع، مما لا ينتفع به وهذه العلة هي التي قطعت أكثر العلماء عن التفقه واستنباط الأحكام كفعل من رغب عن سماع السنن من المحدثين وشغلوا أنفسهم بتصانيف المتكلمين فكلا الطائفتين ضيع ما يعنيه، وأقبل على ما لا فائدة فيه، ثم إن علو الإسناد عند حذاق المحدثين إنما يعتبر بعدالة رجال الإسناد لا القرب مطلقا وإلا فقد يكون نزولا ففي مشيخةعبد الرحمن بن علي الثعلبي تخريج الحافظ العراقي بسنده إلى ابن المبارك قال: ليس جودة الحديث قرب الإسناد جودة الحديث صحة الرجال وأنشد الحافظ أبو طاهر السلفي لنفسه:


ليس حسن الحديث قرب رجال عند أرباب علمه النقاد     بل علو الحديث بين أولي الحفـ
ظ والإتقان صحة الإسناد     وإذا ما تجمعا في حديث
فاغتنمه فذاك أقصى المراد

( وتطلب الحديث) الشاذ المنكر وإليه يشير قول عبد الله بن إدريس كنا نقول الإكثار من الحديث جنون قال الطنافسي الراوي عنه صدق وكذا تطلب ( الذي لا يحتاج إليه في طريق الآخرة) قال ابن وهب يذكر عن مالك قال ما أكثر أحد من الحديث فاحتج وقال عبد الرزاق كنا نظن أن كثرة الحديث خير فإذا [ ص: 363 ] هو شر كله وقال المروزي: سمعت أحمد بن حنبل يقول: تركوا الحديث وأقبلوا على الغرائب ما أقل الفقه فيهم وقد سبق إنكار ابن القيم قول الداراني هذا وتقرير المصنف إياه وسبق أيضا الجواب عنه في خلال فصول المقدمة ( وقال) أبو نعيم في الحلية حدثنا أبي حدثنا محمد بن إبراهيم بن الحكم حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي، حدثنا سعيد بن عامر، حدثنا هشام صاحب الدستوائي قال: قرأت في كتاب بلغني أنه من كلام ( عيسى) ابن مريم ( عليه السلام) تعملون للدنيا وأنتم ترزقون فيها بغير العمل ولا تعملون للآخرة وأنتم لا ترزقون فيها إلا بالعمل ويلكم علماء السوء الأجر تأخذون والعلم تضيعون يوشك رب العمل أن يطلب عمله ( كيف يكون من أهل العلم من سيره إلى آخرته وهو مقبل على دنياه) وما يضره أشهى إليه أو قال أحب إليه مما ينفعه .

( و) قال أبو نعيم أيضا حدثنا أبي حدثنا إبراهيم بن محجن بن الحسن حدثنا الفضل بن الصباح حدثنا أبو عبيدة الحداد عن هشام الدستوائي قال كان عيسى عليه السلام يقول معشر العلماء ( كيف يكون من أهل العلم من يطلب الكلام ليخبر به) و ( لا) يطلبه ( ليعمل به) والعلم فوق رؤوسكم والعمل تحت أقدامكم فلا أحرار كرام ولا عبيد أتقياء ( وقال صالح بن حسان) أبو الحارث ( البصري) كذا في النسخ والصواب النضري بفتح النون والضاد المعجمة المحركة منسوب إلى بني النضير قاله ابن أبي حاتم وهو مدني نزيل البصرة، روى عن أبيه وغيره، ومحمد بن كعب، وهشام بن عبدة وغيرهم، وعنه سعيد بن محمد الوراق، وعابد بن حبيب، وعبد الحميد الحماني، وأبو داود الحفري، قال ابن عدي: بعض أحاديثه فيها إنكار وهو إلى الضعف أقرب، وقال الحافظ ابن حجر: له ذكر في مقدمة مسلم ونقل عن ابن حبان أنه كان صاحب قينات وسماع وممن يروي الموضوعات عن الأثبات ( أدركت الشيوخ) أي: بالمدينة وغيرها ( وهم يتعوذون بالله من الفاجر العالم بالسنة) .

هكذا أورده صاحب القوت إلا أنه قال أدركت المشيخة والفجور كما تقدم خرق ستر الديانة، وهو مثل قول سيدنا عمر رضي الله عنه السابق أخاف على هذه الأمة كل منافق عليم اللسان ( وروى أبو هريرة) رضي الله عنه واسمه عبد الرحمن بن صخر في أشهر الأقوال وهو من مكثري الصحابة رواية وزهدا وورعا وترجمته واسعة ( أنه صلى الله عليه وسلم قال: من طلب علما مما يبتغي به وجه الله ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة) قال العراقي: رواه أبو داود وابن ماجه من رواية سعيد بن يسار عن أبي هريرة بلفظ: من تعلم وقال: لا يتعلمه إلا ليصيب وإسناده صحيح، رجاله رجال البخاري اهـ .

قلت: وقد رواه كذلك الإمام أحمد والحاكم والبيهقي وأخرج الديلمي في مسند الفردوس عن أبي سعيد رفعه من تعلم الأحاديث ليحدث بها الناس لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها لتوجد من مسيرة خمسمائة عام، قال العراقي: وفي الباب عن ابن عمر رواه الترمذي وابن ماجه وقول المنذري في مختصر السنن أن الترمذي روى حديث أبي هريرة وهو إنا روى حديث ابن عمر ولفظهما مختلف فيه اهـ .

قلت: الذي عن ابن عمر في هذا المعنى من تعلم علما لغير الله أو أراد به غير الله فليتبوأ مقعده من النار، رواه الترمذي وقال: حسن غريب ولعل هذا الحديث الذي أشار له العراقي ( و) في القوت ما نصه: ( قد وصف الله تعالى) في كتابه ( علماء السوء بأكل الدنيا بالعلم) أي: بأكلهم إياها به وطلبهم بتحصيله إياها ( ووصف علماء الآخرة بالخشوع والزهد) قال الليث الخشوع قريب المعنى من الخضوع إلا أن الخضوع في البدن والخشوع في القلب والبصر والصوت اهـ .

والزهد في الشيء قلة الرغبة فيه والقناعة بقليله ( فقال في) حق ( علماء الدنيا: وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه إلى قوله ثمنا قليلا ) إلى قوله: فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون فقوله فنبذوه أي تركوه ورموه وراء ظهورهم ولم يعملوا به وطلبوا به متاع الدنيا الفانية فهذا أكلهم الدنيا بالعلم ( وقال في) وصف ( علماء الآخرة وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم ) أي: من الأحكام وغيرها ( خاشعين لله إلى قوله أجرهم عند ربهم ) أي: قوله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم [ ص: 364 ] وأخرج أبو نعيم في الحلية بسنده إلى الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا قال: لا تأخذ على ما علمته أجرا فإنما أجر العلماء والحكماء والحلماء على الله وهم يجدونه مكتوبا عندهم يا ابن آدم علم مجانا كما علمت مجانا وقال صاحب القوت: ومما يدلك على الفرق بين علماء الدنيا وعلماء الآخرة أن كل عالم بعلم إذا رآه من لا يعرفه لم يتبين عليه أثر علمه ولا عرف أنه عالم إلا العلماء بالله عز وجل، فإنما يعرفون بسيماهم للخشوع والسكينة والتواضع والذلة فهذه صبغة الله لأوليائه ولبسة للعلماء به ومن أحسن من الله صبغة كما قال ما ألبس الله عز وجل لبسة أحسن من خشوع في سكينة هي لبسة الأنبياء وسيما العلماء، فمثلهم في ذلك كمثل الصناع إذ كل صانع لو ظهر لمن لا يعرفه لم يعرف صنعته دون سائر الصنائع ولم يفرق بينه وبين الصناع إلا الصناع فإنه يعرف بصنعته; لأنها ظاهرة عليه إذ صارت له لبسة وصفة لالتباسها بمعاملته فكانت سيماه .

( وقال بعض السلف) أي: من العلماء المتقدمين ( العلماء يحشرون في زمرة الأنبياء) أي: لكونهم ورثتهم ( والقضاة يحشرون في زمرة السلاطين) لكونهم حكاما بين الناس فسبيلهم سبيل الملوك والسلاطين، هكذا أخرج هذا القول صاحب القوت .

التالي السابق


الخدمات العلمية