إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه ويل لمن لا يعلم مرة وويل لمن يعلم ولا يعمل سبع مرات .

وقال الشعبي يطلع يوم القيامة قوم من أهل الجنة على قوم من أهل النار فيقولون لهم ما أدخلكم النار وإنما أدخلنا الله الجنة بفضل تأديبكم وتعليمكم فيقولون إنا كنا نأمر بالخير ولا نفعله وننهى عن الشر ونفعله .

وقال حاتم الأصم رحمه الله ليس في القيامة أشد حسرة من رجل علم الناس علما فعملوا به ولم يعمل هو به ففازوا بسببه وهلك هو .

وقال مالك بن دينار إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب كما يزل القطر عن الصفا وأنشدوا .

يا :

واعظ الناس قد أصبحت متهما إذ عبت منهم أمورا أنت تأتيها     أصبحت تنصحهم بالوعظ مجتهدا
فالموبقات لعمري أنت جانيها     تعيب دنيا وناسا راغبين لها
وأنت أكثر منهم رغبة فيها

وقال آخر .


لا تنه عن خلق وتأتي مثله     عار عليك إذا فعلت عظيم

وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله مررت بحجر بمكة مكتوب عليه اقلبني تعتبر فقلبته فإذا عليه مكتوب أنت بما تعلم لا تعمل فكيف تطلب علم ما لم تعلم وقال ابن السماك رحمه الله كم من مذكر بالله ناس لله وكم من مخوف بالله جريء على الله ، وكم من مقرب إلى الله بعيد من الله وكم من داع إلى الله فار من الله ، وكم من تال كتاب الله منسلخ عن آيات الله وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله لقد أعربنا في كلامنا فلم نلحن ولحنا في أعمالنا فلم نعرب .


( وقال أبو الدرداء) رضي الله عنه ( ويل لمن لا يعلم مرة وويل لمن يعلم ولا يعمل سبع مرات) قال الخطيب في كتاب الاقتضاء: حدثنا محمد بن أحمد أخبرنا عثمان بن أحمد الدقاق، حدثنا حسين بن أبي معشر، أخبرنا وكيع عن جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران قال أبو الدرداء فذكره إلا أنه قال: ويل للذي بدل لمن في الموضعين وأخرج من طريق عبد الله بن داود الخريبي قال: حدثنا جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران قال: قال أبو الدرداء ويل لمن لا يعلم ولا يعمل مرة وويل لمن علم ولم يعمل سبع مرات، وقد يروى ذلك أيضا عن عبد الله بن مسعود موقوفا عليه، أخرج أبو نعيم في ترجمته من طريق معاوية بن صالح عن عدي بن عدي قال: قال ابن مسعود ويل لمن لا يعلم ولو شاء الله لعلمه وويل لمن يعلم ثم لا يعمل سبع مرات وقد يروى هذا القول مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رفعه حذيفة بن اليمان فيما أخرجه الخطيب في كتابه المذكور من طريق أبي أحمد الزبيري قال حدثنا [ ص: 371 ] قيس بن الربيع عن الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة بن اليمان فيما أعلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويل لمن لا يعلم وويل لمن يعلم ثم لا يعمل ثلاثا، وكذا رفعه سليمان بن الربيع مولى العباس روى الخطيب بسنده إلى إسماعيل بن عمرو البجلي قال حدثنا عوج ابن فضالة عن سليمان بن الربيع مولى العباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ويل لمن لا يعلم ولو شاء الله لعلمه وويل لمن يعلم ولا يعمل سبع مرات.

وأخرج أبو نعيم في الحلية من طريق سفيان بن عيينة قال: سمعت الفضيل بن عياض يقول يغفر للجاهل سبعون ذنبا ما لم يغفر للعالم ذنب واحد ( وقال) أبو عمرو عامر بن شراحيل ( الشعبي) الفقيه الفاضل المشهور قال مكحول: ما رأيت أفقه منه مات بعد المائة وله نحو من ثمانين ( يطلع قوم من أهل الجنة إلى قوم من أهل النار فيقولون ما أدخلكم النار وإنما أدخلنا الله الجنة بفضل تأديبكم وتعليمكم فيقولون إنا كنا نأمر بالخير ولا نفعله) أورد المصنف هذا القول موقوفا على الشعبي وهكذا أورده صاحب الحلية في ترجمته من طريق ابن حنبل قال: حدثنا علي بن حفص، حدثنا سفيان عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال يشرف قوم دخلوا الجنة على قوم دخلوا النار فيقولون ما لكم في النار؟ وإنما كنا نعمل بما تعلموننا فيقولون إنا كنا نعلمكم ولا نعمل به اهـ .

وقد جاء مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريقه قال الخطيب في كتاب الاقتضاء حدثنا أبو الحسين عبد الرحمن بن محمد الأصبهاني قال حدثنا أبو القاسم الطبراني حدثنا أحمد بن يحيى بن جبلة الرقي، حدثنا زهير بن عباد حدثنا أبو بكر الداهري، عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن الوليد بن عقبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن أناسا من أهل الجنة يتطلعون إلى أناس من أهل النار فيقولون: لم دخلتم النار فوالله ما دخلنا الجنة إلا بما تعلمنا منكم فيقولون إنا كنا نقول ولا نفعل قال الطبراني لم يروه عن ابن أبي خالد إلا الداهري تفرد به زهير.

قلت: والوليد بن عقبة هو ابن أبي معيط القرشي أخو عثمان لأمه له صحبة وعاش إلى خلافة معاوية، وأخرج من طريق أبي الضياء قال: حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن ابن الزبير عن جابر رفعه اطلع قوم من أهل الجنة على قوم من أهل النار فقالوا: بم دخلتم النار، وإنما دخلنا الجنة بتعليمكم قالوا: إنا كنا نأمركم ولا نفعل قلت: وأخرجه أبو علي بن شاذان من هذا الطريق وقال فيه غريب تفرد به أبو الضياء عن أبي عاصم والحديث في أول المشيخة الصغرى له، وهذا السياق أقرب إلى سياق المصنف الذي عزاه للشعبي ( وقال) أبو عبد الرحمن ( حاتم) بن علوان ويقال: ابن يوسف ( الأصم) قال القشيري في رسالته من أكابر مشايخ خراسان كان تلميذا لشقيق وأستاذ أحمد بن خضرويه قيل لم يكن أصم إنما تصامم مرة فسمي به وقال أبو نعيم في الحلية هو مولى للمثنى بن يحيى المحاربي قليل الحديث ( ليس في القيامة أشد حسرة من رجل علم الناس علما فعملوا به ولم يعمل هو به ففازوا بسببه وهلك) .

ويشهد له ما أخرجه ابن عساكر في علم علما فانتفع به من سمعه منه دونه ( وقال مالك بن دينار) فيما أخرجه الخطيب في كتاب الاقتضاء أخبرنا أبو عبد الله أحمد بن عبد الله المحاملي، حدثنا عبد الرحمن بن العباس البزاز من لفظه وأصله حدثنا محمد بن إبراهيم الخزاز، حدثنا عبد الله يعني ابن أبي زياد حدثنا سيار عن جعفر عن مالك قال: قرأت في التوراة ( إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب كما يزل القطر عن الصفا) ثم قال: وأخبرنا أبو سعيد الحسن بن محمد الأصبهاني حدثنا أحمد بن جعفر السمسار، حدثنا أبو بكر بن النعمان حدثنا زيد بن عمرو حدثنا جعفر بن سليمان عن مالك بن دينار قال العالم الذي لا يعمل بمنزلة الصفا إذا وقع عليها القطر زل عنه ( ولذلك قيل:


يا واعظ الناس قد أصبحت متهما إذ عبت منهم أمورا أنت تأتيها)

أي: أصبحت متهما في دينك إذ نهيت الناس بما أتيت به فخالف قولك العمل ( وقال آخر: [ ص: 372 ] :


لا تنه عن خلق وتأتي مثله     عار عليك إذا فعلت عظيم)

وقد تقدم للمصنف إنشاد هذا البيت في الباب الذي قبله أعاده هنا لشدة المناسبة ولا ضرر فيه إذا كان المقصود الإفادة وقال محمد بن العباس اليزيدي أنشدنا أبو الفضل الرقاشي:


ما من روى علما ولم يعمل به     فكيف عن وقع الهوى بأريب
حتى يكون بما تعلم عاملا     من صالح فيكون غير معيب
ولقلما تجدي إصابة صائب     أعماله أعمال غير مصيب

( وقال) الإمام الزاهد أبو إسحاق ( إبراهيم بن أدهم) بن منصور العجلي، وقيل: التميمي البلخي صدوق مات سنة اثنتين وستين ومائة ( مررت بحجر مكتوب عليه اقلبني تعتبر فقلبته فإذا عليه أنت بما تعلم لا تعمل فكيف تطلب علم ما لا تعلم) والذي في كتاب الاقتضاء للخطيب أنبأنا القاضي أبو العلاء الواسطي أخبرنا أبو الفتح الموصلي أنبأنا عبد الله بن علي العمر أنبأنا الفتح بن شنجرف حدثنا عبد الله بن خبيب، قال: أنبأنا عبد الله بن السفري السندي عن إبراهيم بن أدهم، قال: خرج رجل يطلب العلم فاستقبل حجرا في الطريق فإذا فيه منقوض اقلبني ترى العجب وتعتبر، قال: فأقلبت الحجر فإذا فيه مكتوب أنت بما تعلم لا تعمل، كيف تطلب ما لا تعلم قال: فرجع الرجل انتهى .

وأخرج أبو نعيم في الحلية بسنده إلى إبراهيم بن بشار خادم إبراهيم بن أدهم، قال: وحدثني إبراهيم بن أدهم قال مررت في بعض بلاد الشام فإذا حجر مكتوب عليه نقش بين بالعربية والحجر عظيم: كل حي وإن بقي، فمن العيش يستقي فاعمل اليوم واجتهد، واحذر الموت يا شقي، قال فبينا أنا واقف أقرؤه وأبكي فإذا أنا برجل أشعث أغبر عليه مدرعة من شعر فسلم علي فرددت عليه السلام، ورأى بكائي فقال: ما يبكيك؟ فقلت: قرأت هذا النقش فأبكاني قال: وأنت لا تتعظ وتبكي حتى توعظ ثم قال: سر معي حتى أقرئك غيره فمضيت معه غير بعيد فإذا بصخرة عظيمة شبيهة بالمحراب، فقال اقرأ وابك، ولا تعص، ثم قام يصلي وتركني وإذا في أعلاه نقش بين عربي:


لا تبغين جاها وجاهك ساقط     عند المليك وكن لجاهك مصلحا

وفي الجانب الآخر:


ما أزين التقى وما أقبح الخنا     وكل مأخوذ بما جنى

وعند الله الجزاء، وفي أسفل المحراب فوق الأرض بذراع أو أكثر، إنما العز والغنى، في تقى الله والعمل، فلما تدبرته وفهمته التفت إلى صاحبي فلم أره فلا أدري مضى أو حجب عني ( وقال) أبو العباس محمد بن صبيح مولى بني عجل ( ابن السماك) المذكر زاهد حسن الكلام روى عن إسماعيل بن أبي خالد وهشام والأعمش، وعنه أحمد وحسين بن علي الحنفي، مات سنة ثلاث وثمانين ومائة ( كم من مذكر بالله ناس لله وكم من مخوف بالله جريء على الله، وكم من مقرب إلى الله بعيد من الله كم من داع إلى الله فار من الله، وكم من تال لكتاب الله منسلخ عن آيات الله) أي: فلا ينفع التذكير والتخويف والتقريب والدعاء إلا بالتحلي بالأعمال الصالحة كما أن تلاوة الكتاب لا تصلح للمنسلخ من آيات الله تعالى وحججه فيكون مثل بلعام بن باعوراء.

وأخرج البخاري في تاريخه في ترجمة عمر بن الحسن المناطقي بسنده إليه، قال حدثنا جعفر بن محمد الخلدي حدثنا الحارث بن أبي أسامة حدثنا داود، حدثنا عباد عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر رفعه: كم من عاقل عقل عن أمر الله وهو حقير عند الناس ذميم المنظر ينجو غدا وكم من ظريف جميل المنظر عند الناس يهلك غدا في القيامة ( وقال إبراهيم بن أدهم) فيما أخرجه الخطيب في الاقتضاء فقال حدثنا أبو القاسم الأزهري حدثنا محمد بن العباس الخزاز حدثنا ابن أبي داود حدثنا عبد الله بن حنيف قال: سمعت شيخا من أهل دمشق يقول قال إبراهيم بن أدهم ( لقد) هكذا هو في القوت وليس هو عند الخطيب ( أعربنا في كلامنا فلم نلحن) وعند الخطيب في الكلام فما نلحن ( ولحنا في [ ص: 373 ] أعمالنا فلم نعرب) وعند الخطيب في الأعمال فما نعرب، وأخرج أبو نعيم في الحلية قال حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر حدثنا أحمد بن الحسين حدثنا أحمد بن إبراهيم حدثنا الحكم بن موسى حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا بعض إخواننا قال: دخلنا على إبراهيم بن أدهم فسلمنا عليه فرفع رأسه إلينا فقال اللهم لا تمقتنا فأطرق رأسه ساعة ثم رفع رأسه فقال: إنه إذا لم يمقتنا أحبنا ثم قال تكلمنا أو نطقنا بالعربية فما نكاد نلحن ولحنا بالعمل فما نكاد نعرب وسياق المصنف أخرجه الخطيب بعينه لبعض الزهاد فقال: بسنده إلى المرزباني قال أخبرني الصولي قال: قال بعض الزهاد: أعربنا في كلامنا فما نلحن ولحنا في أعمالنا فما نعرب، وأخرج أيضا من طريق سلمة بن كلثوم قال سمعت إبراهيم بن أدهم عن مالك بن دينار قال تلقى الرجل وما يلحن حرفا، وعمله لحن كله وأنشد الخطيب:


لم نؤت من جهل ولكننا     نستر وجه العلم بالجهل
نكره أن نلحن في قولنا     ولا نبالي اللحن في الفعل

وأنشد لهلال بن العلاء الباهلي:


سبيلي سلان كان يعرب لفظه     فيا ليته في وقعة العرض يسلم

وأخرج أبو نعيم في الحلية يسنده إلى أحمد بن أبي الحواري، قال حدثنا مروان بن محمد قال: قيل لإبراهيم بن أدهم إن فلانا يتعلم النحو قال هو إلى أن يتعلم الصمت أحوج، وأخرج الخطيب بسنده إلى الضحاك بن أبي حوشب قال سمعت القاسم بن مخيمرة يقول: تعلم النحو أوله شغل وآخره بغي .

التالي السابق


الخدمات العلمية