إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
في ذم تلاوة الغافلين .

قال أنس بن مالك رب تال للقرآن ، والقرآن يلعنه وقال ميسرة الغريب هو القرآن في جوف الفاجر وقال أبو سليمان الداراني الزبانية أسرع إلى حملة القرآن الذين يعصون الله عز وجل منهم إلى عبدة الأوثان حين عصوا الله سبحانه بعد القرآن .

وقال بعض العلماء : إذا قرأ ابن آدم القرآن ، ثم خلط ، ثم عاد فقرأ قيل له ما لك : ولكلامي وقال ابن الرماح ندمت على استظهاري القرآن لأنه بلغني أن أصحاب القرآن يسألون عما يسأل عنه الأنبياء يوم القيامة .

وقال ابن مسعود ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس ينامون وبنهاره إذا الناس يفطرون ، وبحزنه إذا الناس يفرحون ، وببكائه إذا الناس يضحكون وبصمته إذا الناس يخوضون وبخشوعه إذا الناس يختالون ، وينبغي لحامل القرآن أن يكون مستكينا لينا وينبغي له أن يكون جافيا ولا مماريا ولا صياحا ولا صخابا ولا حديدا .

وقال صلى الله عليه وسلم : أكثر منافقي هذه الأمة قراؤها وقال صلى الله عليه وسلم : اقرأ القرآن ما نهاك فإن لم ينهك فلست تقرؤه وقال صلى الله عليه وسلم : ما آمن بالقرآن من استحل محارمه .

وقال بعض السلف : إن العبد ليفتتح سورة فتصلي عليه الملائكة حتى يفرغ منها وإن العبد ليفتتح سورة فتلعنه حتى يفرغ منها فقيل له وكيف : ذلك فقال ؟ : إذا أحل حلالها ، وحرم حرامها صلت عليه وإلا لعنته .

وقال بعض العلماء : إن العبد ليتلو القرآن فيلعن نفسه وهو لا يعلم يقول ألا لعنة الله على الظالمين ، وهو ظالم نفسه ألا لعنة الله على الكاذبين وهو منهم .

وقال الحسن إنكم اتخذتم قراءة القرآن مراحل ، وجعلتم الليل جملا فأنتم تركبونه فتقطعون ، به مراحله وإن من كان قبلكم رأوه رسائل من ربهم فكانوا يتدبرونها بالليل وينفذونها بالنهار .

وقال ابن مسعود أنزل القرآن عليهم ليعملوا به فاتخذوا دراسته عملا ، إن أحدكم ليقرأ القرآن من فاتحته إلى خاتمته ما يسقط منه حرفا ، وقد أسقط العمل به .

وفي حديث ابن عمر وحديث جندب رضي الله عنهما لقد عشنا دهرا طويلا وأحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن ، فتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم فيتعلم حلالها وحرامها ، وآمرها وزاجرها ، وما ينبغي أن يقف عنده منها .

ثم لقد رأيت رجالا يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان فيقرأ ما بين فاتحة الكتاب إلى خاتمته لا يدري ما آمره ولا زاجره ولا ما ينبغي أن يقف عنده منه ينثره نثر الدقل وقد ورد في التوراة : يا عبدي أما تستحي مني يأتيك كتاب من بعض إخوانك ، وأنت في الطريق تمشي فتعدل عن الطريق ، وتقعد لأجله وتقرؤه وتتدبره حرفا حرفا حتى لا يفوتك شيء منه ، وهذا كتابي أنزلته إليك انظر كم فصلت لك فيه من القول ، وكم كررت عليك فيه لتتأمل طوله وعرضه ؟ ثم أنت معرض عنه أفكنت أهون عليك من بعض إخوانك يا عبدي يقعد إليك بعض إخوانك فتقبل عليه بكل وجهك وتصغي إلى حديثه بكل قلبك فإن تكلم متكلم ، أو شغلك شاغل عن حديثه ، أومأت إليه أن كف وها أنا ذا مقبل عليك ومحدث لك وأنت معرض بقلبك عني أفجعلتني أهون عندك من بعض إخوانك .


(ما قيل في ذكر تلاوة الغافلين )

(قال أنس بن مالك ) - رضي الله عنه -: (رب تال للقرآن، والقرآن يلعنه ) سيأتي معناه قريبا عند قوله، وقال بعض العلماء: (وقال ميسرة) الأشجعي روى عن أبي حازم، وابن المسيب وعنه سفيان وزائدة (الغريب هو القرآن في جوف الفاجر) أي: لكونه يحمله استظهارا، ولا يعمل بما فيه فهو كالغريب عنده .

وقد روي معناه من حديث أبي هريرة رفعه عند الديلمي بلفظ: الغرباء في الدنيا أربعة؛ قرآن في جوف ظالم فساقه، (وقال أبو سليمان الداراني ) تقدمت ترجمته في كتاب العلم (الزبانية أسرع إلى حملة القرآن الذين يعصون الله منهم إلى عبدة الأوثان حين عصوا الله بعد القرآن) .

وهذا قد روي مرفوعا من حديث أنس عند الطبراني في الكبير، وأبي نعيم في الحلية بلفظ: الزبانية أسرع إلى فسقة حملة القرآن منهم إلى عبدة الأوثان، فيقال لهم: ليس من يعلم كمن لا يعلم، وقد تقدم في كتاب العلم .

(وقال بعض العلماء: إذا قرأ ابن آدم القرآن، ثم خلط، ثم عاد يقرأ ناداه الله عز وجل: ما لك ولكلامي) ، ولفظ القوت: يقال للعبد إذا تلا القرآن، واستقام نظر الله إليه برحمته، فإذا قرأ القرآن وخلط ناداه الله عز وجل: ما لك ولكلامي وأنت معرض عني، دع عنك كلامي إن لم تتب إلي (وقال ابن الرماح) : هو عمير بن ميمون قاضي بلخ .

وقد تقدم ذكره قريبا (ندمت على استظهاري القرآن) ، أي حفظي له على ظهر الغيب، (لأنه بلغني أن أصحاب القرآن يسألون عما يسأل الأنبياء يوم القيامة) أي; لأن حامل القرآن في مقام النبوة إلا أنه لا يوحى إليه، كما تقدم قريبا، (وعن أبي مسعود ) - رضي الله عنه - فيما رواه صاحب الحلية، فقال: حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان، حدثنا عبد الله بن أحمد، حدثني أبي، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، حدثنا مالك بن مغول، حدثنا أبو يعفور، عن المسيب بن رافع، عن عبد الله بن مسعود، قال: (ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون ونهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون وبصمته إذا الناس يخوضون) ، كذا في النسخ، وفي الحلية يخلطون .

(وبخشوعه إذا الناس يختالون، وينبغي لحامل القرآن أن يكون) باكيا محزونا حكيما حليما (سكيتا) بكسر فتشديد الكاف، أي: كثير السكوت (لينا) ، وليس هذه في الحلية، (ولا ينبغي) لحامل القرآن (أن يكون جافيا) أي: غليظ الخلق (ولا مماريا) أي: مخاصما، وفي الحلية بعد قوله جافيا: ولا غافلا (ولا صياحا) كثير الصياح، (ولا صخابا) شديد الصوت في الأسواق (ولا حديدا) أي صاحب حدة في الخلق بأن يغضب سريعا .

وقد تقدم شيء من ذلك من حديث [ ص: 469 ] ابن عمر وقريبا (وقال صلى الله عليه وسلم: أكثر منافقي هذه الأمة قراؤها ) ، قال العراقي: رواه أحمد من حديث عقبة بن عامر، وعبد الله بن عمرو، وفيهما ابن لهيعة اهـ .

قلت: ورواه الطبراني في الكبير مثل رواية أحمد، ورواه كذلك البيهقي في السنن وفي الشعب عن ابن عمر، ورواه كذلك ابن عدي في ترجمة الفضل بن مختار والحاكم في تاريخ نيسابور في ترجمة عبد الله بن خالد التميمي عن عصمة بن مالك قال الهيتمي: أحد أسانيد أحمد ثقات أثبات، وسند الطبراني فيه الفضل بن المختار وهو ضعيف ولفظهم كلهم: أكثر منافقي أمتي .

وهكذا أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، قال: حدثنا زيد بن الحارث، قال: حدثني عبد الرحمن بن شريح، حدثنا شرحبيل بن يزيد بن يزيد العامري، قال: سمعت محمد بن صدقة الصوفي، يقول: سمعت عبد الله بن عمرو يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: فساقه، قال الزمخشري: أراد بالنفاق الرياء; لأن كليهما إراءة ما في الظاهر خلاف ما في الباطن، وقال غيره أراد نفاق العمل لا الاعتقاد; لأن المنافق أظهر الإيمان بالله لله، وأضمر عصمة دمه وماله، والمرائي أظهر بعمله الآخرة وأضمر ثناء الناس وعرض الدنيا، والقارئ أظهر أنه يريد الله وحده، وأضمر حظ نفسه وهو الثواب، ويرى نفسه أهلا له، وينظر إلى عمله بعين الإجلال فأشبه المنافق، واستويا في مخالفة الباطن الظاهر .

وقال صاحب القوت: هذا نفاق الوقوف مع سوى الله تعالى والنظر إلى غيره لإنفاق الشرك والإنكار لقدرة الله عز وجل فهو لا ينتقل من التوحيد، ولكن لا ينتقل إلى مقام المزيد، (وقال صلى الله عليه وسلم: اقرأ القرآن ما نهاك) عن المعصية، وأمرك بالطاعة أي ما دمت مؤتمرا بأمره منتهيا بنهيه وزجره (فإن لم ينهك فلست تقرؤه) بداية فلست تباري أي لإعراضك عن متابعته لم تظفر بفوائده وعوائده فيعود حجة عليك وخصما، فقراءته بدون ذلك لقلقة لسان، بل جار إلى النيران إذ من لم ينته بنهيه فقد جعله وراء ظهره، ومن جعله خلفه ساقه إلى النيران، فلابد لقارئه من الاهتمام بامتثال أوامره ونواهيه، قال العراقي: رواه الطبراني من حديث عبد الله بن عمر وبسند ضعيف اهـ .

قلت: وكذا أبو نعيم ومن طريقهما أخرجه الديلمي، وفيه إسماعيل بن عياش قال الذهبي في الضعفاء: ليس بقوي، وقال ابن عدي: لا يحتج به، ومما يؤيد معنى ما ذكرته في تفسير الحديث المذكور، ما رواه الطبراني في الأوسط من حديث أنس رفعه: من قرأ القرآن، يقوم به آناء الليل والنهار يحل حلاله ويحرم حرامه حرم الله لحمه ودمه على النار، وجعله رفيق السفرة الكرام حتى إذا كان يوم القيامة كان القرآن حجة له.

ورواه نحو ذلك البيهقي من حديث أبي هريرة، (وقال صلى الله عليه وسلم: ما آمن بالقرآن من استحل محارمه ) ، قال الطيبي: من استحل ما حرم الله فقد كفر مطلقا، وإنما خص القرآن لعظمه وجلالته، قال العراقي: رواه الترمذي من حديث صهيب، وقال: ليس إسناده بالقوي اهـ .

قلت: ورواه الطبراني في الكبير والبغوي والبيهقي، وقال البغوي: حديث ضعيف، ورواه عبد بن حميد، عن أبي سعيد، (وقال بعض السلف: إن العبد ليفتح سورة) من القرآن، (فتصلي عليه حتى يفرغ منها) ، أي: من قراءتها (وإن العبد ليفتح سورة) من القرآن (فتلعنه حتى يفرغ منها) قراءة (فقيل له: كيف ذلك ؟ قال: إذا أحل حلالها، وحرم حرامها) ، أي إذا ائتمر بأمرها وانتهى عن زجرها، (صلت عليه وإلا لعنته) ، نقله صاحب القوت هكذا .

(وقال بعض العلماء: إن العبد ليتلو القرآن فيلعن نفسه وهو لا يعلم) بذلك، (يقرأ ألا لعنة الله على الظالمين، وهو ظالم نفسه) ، أو غيره (ألا لعنة الله على الكاذبين وهو منهم) ، أي: من المتصفين بالكذب، نقله صاحب القوت هكذا، وفي هذين القولين تفسير لقول أنس السابق: رب تال للقرآن والقرآن يلعنه.

(وقال الحسن) البصري رحمه الله مخاطبا للقراء: (إنكم اتخذتم قراءة القرآن مراحل، وجعلتم الليل جملا فأنتم تركبونه، وتقطعون به مراحل وإن من كان قبلكم رأوه رسائل) أتتهم (من ربهم فكانوا يتدبرونها بالليل وينفذونها بالنهار) ، نقله صاحب القوت هكذا، ومعنى ينفذونها بالنهار أي يمضون العمل بما فيها إذا أصبحوا، (وقال ابن مسعود ) - رضي الله عنه - من قبله (أنزل [ ص: 470 ] القرآن عليهم ليعملوا به فاتخذوا دراسته عملا، إن أحدا ليقرأ القرآن من فاتحته إلى خاتمته ما يسقط منه حرفا، وقد أسقط العمل به) ، نقله صاحب القوت هكذا، (وفي حديث) عبد الله (بن عمر) بن الخطاب، (وحديث) أبي ذر (جندب) بن جنادة الغفاري رضي الله عنهم قالا: (لقد عشنا دهرا) وفي القوت: برهة من دهرنا، (وأحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن، فتنزل السورة) من القرآن (على محمد صلى الله عليه وسلم فيعلم حلالها وحرامها، وآمرها وزاجرها، وما ينبغي أن يقف عنده منها) كما تعلمون أنتم القرآن، (ثم لقد رأيت رجالا يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان فيقرأ ما بين فاتحة الكتاب إلى خاتمته لا يدري ما آمره ولا زاجره ولا ما ينبغي أن يقف عنده منه فينثره نثر الدقل) ، هكذا نقله صاحب القوت .

أخرجه النحاس في كتابه، فقال: حدثنا محمد بن جعفر الأنباري، حدثنا عبد الله بن جعفر، حدثنا عبد الله بن عمرو، عن زيد بن أبي أنيسة، عن القاسم بن عوف النكري، قال: سمعت عبد الله بن عمر يقول: لقد عشنا برهة في دهرنا. . فساقه، ثم قال: فهذا الحديث يدل على أنهم كانوا يتعلمون الأوقاف كما يتعلمون القرآن، وقوله لقد عشنا. .. إلخ يدل على أن ذلك إجماع من الصحابة اهـ .

قال السيوطي: هذا الأثر أخرجه البيهقي في سننه عن علي في قوله: ورتل القرآن ترتيلا ، وقد تقدم شيء من ذلك في كتاب العلم مفصلا، ثم قال صاحب القوت بعد إيراده الكلام السابق ما نصه، وهذا كما قال; لأن المراد والمقصود بالقرآن الائتمار لأوامره والانتهاء عن زواجره إذ حفظ حدوده مفترض، ومسئول عنه العبد، ومعاقب عليه، وليس حفظ حروفه فريضة، ولا عقاب على العبد إذا لم يحفظ ما وسعه منه، (وقد ورد في التوراة: يا عبدي) ولفظ القوت: وقرأت في سورة الحنين من التوراة، (أما تستحي مني يأتيك كتاب من بعض إخوانك، وأنت في الطريق تمشي فتعدل عن الطريق، وتقعد لأجله وتقرؤه وتتدبره حرفا حرفا حتى لا يفوتك شيء منه، وهذا كتابي أنزلته إليك أنظر كم وصلت لك فيه من القول، وكم كررت عليك فيه لتتأمل طوله وعرضه ؟ ثم أنت معرض عنه أفكنت أهون عليك) عز ربي وجل (من بعض إخوانك يا عبدي يقعد إليك بعض إخوانك فتقبل عليه بكل وجهك وتصغى إلى حديثه بكل قلبك فإن تكلم) إليك (متكلم، أو شغلك شاغل عن حديثه، أومأت إليه أن كف وها أنا مقبل عليك ومحدث لك وأنت معرض بقلبك عني فجعلتني أهون عندك من بعض إخوانك) عز ربي وجل، أو كما قال، هكذا نقله صاحب القوت بتمامه .

التالي السابق


الخدمات العلمية