إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الخامس التفهم : وهو أن يستوضح من كل آية ما يليق بها إذ القرآن يشتمل على ذكر صفات الله عز وجل ، وذكر أفعاله وذكر أحوال الأنبياء عليهم السلام وذكر أحوال المكذبين لهم وأنهم كيف أهلكوا وذكر أوامره وزواجره ، وذكر الجنة والنار .

أما صفات الله عز وجل فكقوله تعالى : ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، وكقوله تعالى : الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر فليتأمل معاني هذه الأسماء والصفات لينكشف له أسرارها فتحتها معان .

مدفونة لا تنكشف إلا للموفقين وإليه أشار علي رضي الله عنه بقوله : ما أسر إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا كتمه عن الناس إلا أن يؤتي الله عز وجل عبدا فهما في كتابه فليكن حريصا على طلب ذلك الفهم وقال ابن مسعود رضي الله عنه من أراد علم الأولين والآخرين فليثور القرآن وأعظم علوم القرآن تحت أسماء الله عز وجل ، وصفاته إذ لم يدرك أكثر الخلق منها إلا أمورا لائقة بأفهامهم ولم يعثروا على أغوارها .

وأما أفعاله تعالى فكذكره خلق السموات والأرض وغيرها فليفهم التالي منها صفات الله عز وجل وجلاله إذ الفعل يدل على الفاعل فتدل عظمته على عظمته فينبغي أن يشهد في العقل الفاعل دون الفعل فمن عرف الحق رآه في كل شيء إذ كل شيء فهو منه وإليه وبه وله فهو الكل على التحقيق ومن لا يراه في كل ما يراه فكأنه ما عرفه ومن عرفه عرف أن كل شيء ما خلا الله باطل ، وأن كل شيء هالك إلا وجهه لا أنه سيبطل في ثاني الحال بل هو الآن باطل إن اعتبر ذاته من حيث هو إلا أن يعتبر وجوده من حيث إنه موجود بالله عز وجل وبقدرته فيكون له بطريق التبعية ثبات وبطريق الاستقلال بطلان محض وهذا مبدأ من مبادئ علم المكاشفة ولهذا ينبغي إذا قرأ التالي قوله عز وجل أفرأيتم ما تحرثون أفرأيتم ما تمنون أفرأيتم الماء الذي تشربون أفرأيتم النار التي تورون فلا يقصر نظره على الماء والنار والحرث والمني ، بل يتأمل في المني وهو نطفة متشابهة الأجزاء ثم ينظر في كيفية انقسامها إلى اللحم والعظم والعروق والعصب وكيفية ، تشكل أعضائها بالأشكال المختلفة من الرأس واليد والرجل والكبد والقلب وغيرها ثم إلى ما ظهر فيها من الصفات الشريفة من السمع والبصر والعقل وغيرها ثم إلى ما ظهر فيها من الصفات المذمومة من الغضب ، والشهوة ، والكبر والجهل ، والتكذيب ، والمجادلة كما قال تعالى : أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين فليتأمل هذه العجائب ليترقى منها إلى عجب العجائب ، وهو الصفة التي منها صدرت هذه الأعاجيب فلا يزال ينظر إلى الصنعة فيرى ، الصانع .

وأما أحوال الأنبياء عليهم السلام ، فإذا سمع منها كيف كذبوا وضربوا وقتل بعضهم فليفهم منه صفة الاستغناء لله عز وجل عن الرسل والمرسل إليهم وأنه لو أهلك جميعهم لم يؤثر في ملكه شيئا وإذا سمع نصرتهم في آخر الأمر فليفهم قدرة الله عز وجل وإرادته لنصرة الحق .

وأما أحوال المكذبين كعاد وثمود وما جرى عليهم فليكن فهمه منه استشعار الخوف من سطوته ونقمته وليكن حظه منه الاعتبار في نفسه وأنه إن غفل وأساء الأدب واغتر بما أمهل فربما تدركه النقمة وتنفذ فيه القضية وكذلك إذا سمع وصف الجنة والنار وسائر ما في القرآن فلا يمكن استقصاء ما يفهم منه لأن ذلك لا نهاية له وإنما لكل عبد بقدر رزقه فلا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا ولذلك قال علي رضي الله عنه : لو شئت لأوقرت سبعين بعيرا من تفسير فاتحة الكتاب .

فالغرض مما ذكرناه التنبيه على طريق التفهيم لينفتح بابه فأما الاستقصاء فلا مطمع فيه ومن لم يكن له فهم ما في القرآن ولو في أدنى الدرجات دخل في قوله تعالى ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم والطابع هي الموانع التي سنذكرها في موانع الفهم وقد قيل لا يكون المريد مريدا حتى يجد في القرآن كل ما يريد ، ويعرف منه النقصان من المزيد ، ويستغني بالمولى عن العبيد .


(الخامس التفهم: وهو) وصول المعنى إلى فهم التالي بواسطة اللفظ، والمراد منه (أن يستوضح) ، ويستكشف (عن) معنى (كل آية) مما يتلوها (ما يليق بها) على حسب قوته في معرفته، (إذ القرآن يشتمل على ذكر صفات الله عز وجل، وذكر أفعاله وذكر أحوال الأنبياء) عليهم السلام (وذكر أحوال المكذبين لهم) من المحجوبين، (وأنهم كيف أهلكوا) بتكذيبهم للرسل، (و) على (ذكر أوامره وزواجره، وذكر الجنة والنار، أما صفات الله تعالى فكقوله: ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، وكقوله تعالى: الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر ) اعلم أن المصنف قدس سره قد ذكر في آخر كتابه المقصد الأسنى أن الأسماء الحسنى، والصفات العلى المذكورة في القرآن يرجع جميعها إلى سبع صفات، التي هي: الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام ومجموعها يرجع إلى ما يدل على الذات، أو على الذات مع سلب، أو على الذات مع إضافة، أو على الذات مع سلب وإضافة، أو على واحد من الصفات السبعة، أو على صفة، وسلب وإضافة، أو إلى صفة مع زيادة إضافة، أو على صفة وإضافة وسلب، أو صفة سلب وإضافة، أو على صفة فعل، أو على صفة فعل، وإضافة [ ص: 508 ] أو سلب فهذه عشرة أقسام، فلا تخرج هذه الأسماء، عن مجموع هذه الأقسام فإذا علمت ذلك فالذي ذكره المصنف هنا من الصفات السميع البصير .

وهما من القسم الخامس: وهو ما يرجع إلى صفة، والملك والعزيز من القسم الرابع: وهو ما يرجع إلى الذات مع سلب وإضافة، والقدوس والسلام من القسم الثاني: وهو ما يدل على الذات مع سلب، والمؤمن والمهيمن والجبار والمتكبر من القسم السابع: وهو ما يرجع إلى القدرة مع زيادة إضافة، (فليتأمل معاني هذه الأسماء والصفات لتنكشف له أسرارها فتحتها معان مدفونة لا تنكشف إلا للموفقين) ، أي الذين وفقهم الله تعالى لفهمها فكان له حظ وافر من معانيها، وأما من تلاها لفظا، أو سمعها، وفهم في اللغة تفسيرها، ووضعها واعتقد بالقلب معناها لله تعالى فهو مبخوس الحظ نازل الدرجة، ليس له أن يتبجح بما ناله فإن سماع اللفظ لا يستدعي إلا سلامة حاسة السمع التي بها تدرك الأصوات .

وهذه رتبة تشاركه فيها البهائم، وأما فهم وضعه في اللغة فلا يستدعي إلا معرفة العربية، وهذه رتبة يشاركه فيها الأديب اللغوي، بل الغبي البدوي، وأما ثبوت معناه لله تعالى من غير كشف فلا يستدعي إلا فهم معاني هذه الألفاظ، والتصديق بها، وهذه رتبة يشاركه فيها العامي، بل الصبي فإنه بعد فهم الكلام إذا ألقي إليه هذه المعاني تلقاها، وتلقنها، واعتقدها بقلبه، وصمم عليها وهذه درجات أكثر العلماء فضلا عن غيرهم، ولا ينكر فضل هؤلاء بالإضافة إلى من لم يشاركهم في هذه الدرجات الثلاث، ولكنه نقض ظاهر بالإضافة إلى ذروة الكمال فإن حسنات الأبرار، سيئات المقربين، بل حظوظ المقربين الموفقين من معاني هذه الأسماء .

والصفات ثلاثة، الحظ الأول معرفة هذه على سبيل المكاشفة، والمشاهدة حتى تتضح لهم حقائقها بالبرهان الذي لا يجوز فيه الخطأ، وينكشف لهم اتصاف الله تعالى بها انكشافا يجري في الوضوح والبيان مجرى اليقين الحاصل للإنسان بصفاته الباطنة التي يدركها بمشاهدة باطنه لا بإحساس ظاهره .

الحظ الثاني من حظوظهم استعظامهم ما ينكشف لهم من صفات الجلال على وجه ينبعث من الاستعظام تشوفهم إلى الاتصاف بما يمكنهم من تلك الصفات، ليتقربوا بها من الحق قربا بالصفة لا بالمكان، فيأخذوا من الاتصاف بها شبها بالملائكة المقربين عند الله تعالى ولن يتصور أن يمتلئ القلب باستعظام صفة، واستشرافها إلا ويتبعه شوق إلى تلك الصفة، وعشق لذلك الكمال والجلال وحرص على التحلي بذلك الوصف إن كان ذلك ممكنا للمتعظم بكماله فإن لم يمكن بكماله فينبعث الشوق إلى القدر الممكن منه لا محالة، ولا يخلو عن الشوق أحد إلا لأحد أمرين إما لضعف المعرفة، أو اليقين بكون الوصف المعلوم من أوصاف الجلال والكمال، وإما لكون القلب ممتلئا بشوق آخر مستغرقا به، والتلميذ إذا شاهد كمال أستاذه في العلم انبعث شوقه إلى التشبه، والاقتداء به إلا إذا كان ممنوعا بالجوع، مثلا فإن الاستغراق بشوق القوت ربما يمنع انبعاث شوق العلم، ولهذا ينبغي أن يكون الناظر في صفات الله تعالى خاليا بقلبه عن إرادة ما سوى الله تعالى فإن المعرفة بذر الشوق، ولكن مهما صادف قلبا خاليا عن حسيكة الشهوات فإن لم يكن خاليا لم يكن نيرا منجحا .

الحظ الثالث السعي في اكتساب الممكن من تلك الصفات، والتخلق بها، والتحلي بمحاسنها ، وبه يصير العبد ربانيا رفيقا للملإ الأعلى من الملائكة فإنهم على بساط القرب، فمن ضرب إلى شبه من صفاتهم نال شيئا من قربهم بقدر ما نال من أوصافهم المقربة لهم إلى الحق تعالى، (وإلى ذلك أشار علي) بن أبي طالب (رضي الله عنه في قوله: ما أسر إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا كتمه عن الناس إلا أن يؤتي الله تعالى فهما في كتابه) .

قال العراقي: رواه النسائي من رواية أبي جحيفة قال : سألنا عليا - رضي الله عنه - فقلنا: هل عندكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء سوى القرآن؟ فقال: لا، والذي خلق الجنة وبرأ النسمة إلا أن يعطي الله عز وجل فهما في كتابه، الحديث، وهو عند البخاري بلفظ: هل عندكم شيء مما ليس في القرآن؟ وقال مرة: ليس عند الناس، ولأبي داود والنسائي فقلنا: هل عهد عندك رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا لم يعهده [ ص: 509 ] إلى الناس؟ فقال: لا، إلا ما في كتابي، الحديث، ولم يذكر الفهم في القرآن، (وقال ابن مسعود - رضي الله عنه - من أراد علم الأولين والآخرين فليثور القرآن ) ، كذا في القوت والتثوير التحريف، وفي بعض الروايات فليثر القرآن من الإثارة، وهو بمعناه وتقدم أن قول ابن مسعود هذا قد رواه الديلمي عن أنس بن مالك مرفوعا، (وأعظم علوم القرآن تحت أسماء الله عز وجل، وصفاته إذ لم يدرك أكثر الخلق منها إلا أمورا لائقة بأفهامهم) فمنهم من اكتفى بسردها، وتلاوتها، وفهم معناها اللغوي، وإثبات ذلك لله تعالى، ومنهم من ترقى عن ذلك، وكل ذلك حوم حواليها من غير كشف إلهي، وهو قصور كما سبقت الإشارة إليه قريبا (ولم يعثروا) ، أي: لم يطلعوا (على أغوارها) أي على حقائقها الجلية ودقائقها المخفية، (وأما أفعاله فذكره خلق السماوات والأرض وغيرها) كالجبال والبحار (فليفهم التالي من ذلك صفات الله تعالى وجلاله) ، وعظمته وكمال قدرته (إذ الفعل يدل على الفاعل) وهو الذي صدر منه الفعل، (فتدل عظمته على عظمته) وجلاله على جلاله (فينبغي أن يشهد في الفعل الفاعل دون الفعل فمن عرف الحق رآه في كل شيء فهو منه وإليه وبه وله) ، اعلم أن معرفة الله سبحانه بطريق الأسماء، والصفات، والأفعال بالكمال في الحقيقة لا يكون إلا لله تعالى إلا أنا إذا علمنا ذاتا عالمة، فقد علمنا شيئا مبهما لا ندري حقيقته، لكن ندري أن له صفة العلم، وإن كانت صفة العلم معلومة لنا حقيقة كان علمنا بأنه عالم أيضا علما تاما بحقيقة هذه الصفة، وإلا فلا، ولا يعرف أحد حقيقة علم الله تعالى إلا من له مثل علمه، وليس ذلك إلا له فلا يعرفه سواه تعالى، وإنما يعرفه غيره بالتشبيه بعلم نفسه، وعلم الله تعالى لا يشبهه علم الخلق البتة فلا تكون معرفته به معرفة تامة حقيقة أصلا، بل إيهامية تشبيهية .

وكذلك الحاصل عندنا من قدرة الله تعالى، وأنه وصف ثمرته وأثره وجود الأشياء، وينطلق عليه اسم القدرة; لأنه يناسب قدرتنا مناسبة لذة الجماع لذة السكر، وهذا كله بمعزل عن حقيقة تلك القدرة، نعم كلما ازداد العبد إحاطة بتفاصيل المقدورات، وعجائب الصنائع في ملكوت الأرض والسماوات كان حقه من معرفة صفة القدرة أوفر; لأن الثمرة تدل على المثمر فهذا معنى قول المصنف إذ الفعل يدل على الفاعل، وإلى هذا يرجع تفاوت العارفين في معرفة الله تعالى فمن قال: لا أعرف إلا الله فقد صدق، ومن قال: لا أعرف الله فقد صدق، فإنه ليس في الوجود إلا الله تعالى، وأفعاله فإذا نظر إلى أفعاله من حيث هي أفعاله، وكان مقصور النظر عليها، ولم يرها من حيث أنها سماء وأرض وشجر، بل من حيث إنها صنعة فلم تجاوز معرفته حضرة الربوبية فيمكنه أن يقول: ما أعرف إلا الله، ولا أدري إلا الله، وهذا معنى قول المصنف: فمن عرف الحق رآه في كل شيء إلخ .

ولو تصور شخص لا يرى إلا الشمس ونورها المنتشر في الآفاق يصح أن يقول: ما أرى إلا الشمس فإن النور الفائض منها هو من جملتها ليس خارجا عنها، وكل ما في الوجود نور من أنوار القدرة الأزلية، وأثر من آثارها، وكما أن الشمس ينبوع النور الفائض على كل مستنير، فكذلك المعنى الذي قصرت العبارة عنه فعبر عنه بالقدرة الأزلية للضرورة هو ينبوع الوجود الفائض على كل موجود فليس في الوجود إلا الله، (فهو الكل على التحقيق) .

ومنه قول بعض العارفين كل شيء 7 فيه كل شيء، (ومن لا يراه في كل ما يراه فكأنه ما عرفه) فصاحب هذا المقام هو الذي يقول: لا أعرف الله وهو صادق، كما أن قائل القول الأول صادق أيضا، ولكن هذا بوجه، وذلك بوجه، فلا تناقض (ومن عرفه عرف أن كل شيء ما خلا الله باطل، وأن كل شيء هالك إلا وجهه) ، اعلم أنه لا ظلمة أشد من ظلمة العدم; لأنه مظلم وسمي مظلما; لأنه ليس يظهر للأبصار إذ ليس كل موجود يصير موجودا للبصر مع أنه موجود في نفسه فالذي ليس موجودا لا بنفسه ولا بغيره، كيف لا يستحق أن يكون هو الغاية في الظلمة؟ وفي مقابلته الوجود فهو النور فإن الشيء ما لم يظهر في ذاته لا يظهر لغيره، والوجود بنفسه أيضا ينقسم إلى ما الوجود له من ذاته، وإلى ما الوجود له من غيره، وما له الوجود من غيره موجود مستعار لا قوام له بنفسه، بل إذا اعتبرت ذاته فهو عدم محض، وإنما هو وجوده [ ص: 510 ] من حيث نسبته إلى غيره، وذلك ليس بوجود حقيقي، ومن هنا ترقى العارفون من حضيض المجاز إلى قلاع التحقيق، واستكملوا معراجهم فرأوا بالمشاهدة العيانية أن ليس في الوجود إلا الله، وأن كل شيء ما خلا الله باطل، وأن كل شيء هالك إلا وجهه، (لا أنه سيبطل) ، ويهلك (في حال ثان) ، أي في وقت من الأوقات، (بل هو الآن باطل) ، وهالك أزلا، وأبدا لا يتصور إلا كذلك فإن كل شيء، (إن اعتبر ذاته من حيث هو) ، أي من حيث ذاته فهو عدم محض .

(إلا أن يعتبر وجوده من حيث إنه موجود بالله عز وجل وقدرته) ، أي من الوجه الذي يسري إليه الوجود من الأول، (فيكون له بطريق التبعية ثبات) ، أي: يرى موجودا لا في ذاته، لكن من الوجه الذي يلي موجده فيكون الموجود أصالة وجه الله فقط، (وبطريق الاستقلال) ، والأصالة (بطلان محض) ، ولكل شيء وجهان وجه إلى نفسه، ووجه إلى ربه فهو باعتبار وجه نفسه عدم، وباعتبار وجه الله موجود فإذا لا موجود إلا الله، ووجهه فإذا كل شيء هالك إلا وجهه أزلا وأبدا، ولم يفتقر هؤلاء إلى قيام القيامة ليسمعوا نداء الباري لمن الملك اليوم؟ لله الواحد القهار، بل هذا النداء لا يفارق سمعهم أبدا (وهذا) الذي ذكر (مبدأ من مبادئ علوم المكاشفة) .

ووراء ذلك أسرار يطول الخوض فيها فوجه في كل ذي وجه إليه فأينما تولوا فثم وجه الله فإذا لا إله إلا هو فلا هو إلا هو; لأن هو عبارة عما إليه إشارة، وكيفما كان فلا إشارة إلا إليه، بل كلما أشرت إليه فهو بالحقيقة إشارة إليه وإن كنت لا تعرفه أنت بغفلتك فكل ما في الوجود فنسبته إليه في ظاهر المثال كنسبة النور إلى الشمس فإذا لا إله إلا الله توحيد العوام، ولا هو إلا هو توحيد الخواص; لأن هذا أدخل لصاحبه في الفردانية المحضة والوحدانية الصرفة، ومنتهى معراج الخلائق مملكة الفردانية .

فليس وراء ذلك مرقى إذ المرقى لا يتصور إلا بكثرة فإنه نوع إضافة يستدعي ما منه الارتقاء، وما إليه الارتقاء، وإذا ارتفعت الكثرة حقت الوحدة، وبطلت الإضافة، وطاحت الإشارة فلم يبق علو، ولا سفل، ولا نازل، ولا مرتفع فاستحال الترقي، واستحال العروج فليس وراء الأعلى علو، ولا مع الوحدة كثرة، ولا مع انتفاء الكثرة عروج فإن كان من تغير حال فبالنزول إلى السماء الدنيا، أعني بالإشراف من علو إلى أسفل; لأن الأعلى له أسفل، وليس له أعلى فهذا غاية الغايات، ومنتهى الطلبات يعلمه من يعلمه، وينكره من يجهله، وهو من العلم الذي هو كهيئة المكنون، وأرى الآن قبض عنان البيان فما أراك تطيق من هذا الفن أكثر من هذا المقدار، (ولهذا ينبغي إذا قرأ التالي قول الله تعالى أفرأيتم ما تحرثون أفرأيتم ما تمنون أفرأيتم الماء الذي تشربون أفرأيتم النار التي تورون فلا يقصر نظره على الماء والحرث والنار والمني، بل يتأمل في) كل من هؤلاء ما يوصله إليه فهمه من عجائب صنع الله فيه، مثل أن يتأمل في (المني وهو نطفة متشابهة) وفي نسخة: متناسبة (الأجزاء ثم) ينتقل، و (ينظر) نظر تأمل (في كيفية انقسامها إلى) كل من (اللحم والعظم والعروق والعصب، و) يتأمل في (كيفية تشكل الأعضاء بها بالأشكال المختلفة) الأنواع (من الرأس واليد والرجل والكبد والقلب وغيرها) ، وهذا على طريق الإجمال، ثم يتأمل، وينظر (إلى ما ظهر فيها من الصفات الشريفة من السمع والبصر والعقل وغيرها) ، كالنطق والمعرفة والإدراك والحياء والسخاء والحلم، وغير ذلك، (ثم) ينظر (إلى ما ظهر منها من الصفات المذمومة من الغضب، والشهوة، والكبر) ، والعجب، (والجهل، والتكذيب، والمجادلة) ، وغيرها .

(كما قال تعالى: أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين ) ، إلى آخر السورة، روى ابن أبي حاتم عن السدي أن هذه الآيات نزلت في أبي بن خلف، وكذا رواه عبد بن حميد، عن عكرمة، وابن المنذر، عن مجاهد، وابن جرير عن قتادة، وسعيد بن منصور، عن أبي مالك، وابن مردويه، عن ابن عباس، وقيل: في العاص بن وائل، رواه الحاكم والإسماعيلي، والبيهقي في الشعب عن ابن عباس، وقيل: في أبي جهل .

رواه ابن مردويه، عن ابن عباس (فليتأمل هذه العجائب ليرقى منها إلى أعجب العجائب، وهو الصنعة) المحكمة، (التي صدرت منها هذه الأعاجيب فلا يزال ينظر إلى [ ص: 511 ] الصنعة، ويرى الصانع) جل وعز فلا يرى في الوجود إلا الواحد الحق، ثم منهم من تكون له هذه الرؤية عرفانا علميا، ومنهم من يصير له ذوقا، وحالا وحينئذ يحصل لهم الاستغراق بالفردانية المحضة، وتنتفي عنهم الكثرة بالكلية، ولا يبقى فيهم متسع لذكر غير الصانع، ولا لذكر أنفسهم أيضا فاعرف ذلك، (وأما أحوال الأنبياء عليهم السلام، فإذا سمع منها أنهم كيف كذبوا) فيما بلغوه من رسالات ربهم إليهم، (و) كيف (ضربوا) ؟ وأوذوا (وقتل بعضهم) كيحيى بن زكريا عليه السلام، وغيره فليفهم منه (صفة الاستغناء لله عز وجل عن الرسل والمرسل إليه ) إذ الغني هو الذي لا تعلق له بغيره لا في ذاته، ولا في صفاته، بل يكون منزها عن العلاقة مع الأغيار فمن تعلق ذاته، أو صفات ذاته بأمر خارج من ذاته يتوقف عليه، وجوده وكماله فليس بغني، وقد ثبت غناه عن كل شيء فلا افتقار له إلى الرسل، ولا إلى المرسل إليه 7 أولئك الرسل، (وأنه لو أهلك جميعهم لم يؤثر ذلك في ملكه) ، خللا لكمال غنى ذاته، وغنى صفاته، (وإذا سمع نصرتهم في آخر الأمر) ، وعصمتهم من أعدائهم (فليفهم قدرة الله تعالى) الباهرة، (وإرادته لنصرة الحق) ، حيث كان وأنه إنما نصرهم الله تعالى لكونهم قائمين بأداء الحق، ونصرته فليفهم السالك من هذا أنه إذا ثبت على الحق، فلن يعدم من ناصر له عليه .

(وأما أحوال المكذبين) لرسل الله عليهم السلام، (كعاد وثمود) ، وفرعون وأضرابهم، (وما جرى عليهم) من ضروب نقم الله تعالى بأنواع الهلاك، (فليكن فهمه من ذلك استشعار الخوف من سطوة الله تعالى) وقهره، (ونقمته) من جنس ما أهلكوا به، (وليكن حظه منه الاعتبار في نفسه) خاصة، (وأنه إن غفل) عن طاعة الله تعالى، (وأساء الأدب) لمخالفته لأوامر الله تعالى، (واغتر بما أمهل) في دنياه ممتعا بحواسه، وحشمه، وخدمه مفاضا عليه الخيور، (فربما تدركه) صاعقة (النقمة) القهرية، (وتنفذ فيه القضية، وتحق فيه كلمة الله فلا يجد عن ذلك محيدا، ولا لأحواله شفيعا .

وكذلك إذا سمع وصف الجنة والنار) ، وما أعد الله فيهما من أنواع الثواب، وأجناس العقاب، (و) كذلك (سائر ما في القرآن) من وعد ووعيد، ورجاء وخوف وتضرع وتبرئ، وإبعاد، وتقريب، وتوبيخ، وعتاب، وتأمين، وإمهال فليكن حظ التالي من كل ذلك ما يهديه إليه فهمه من المعاني المناسبة للمقام (فلا يمكن استقصاء ما يفهم منها; لأنه لا نهاية له) ، وحسنه لا تنقضي عجائبه، (وإنما لكل عبد منه بقدر ما رزق) فيه من الفهم الصحيح، (فلا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) ، وفيه علم الأولين والآخرين .

قال الشيخ الأكبر قدس سره في كتاب الشريعة: البرودة أصل فاعلي، والحرارة أصل فاعلي، والرطوبة، واليبوسة فرعان منفعلان فتبعت الرطوبة البرودة، لكونها منفعلة عنها فلهذا تكونت الفضة على النصف من زمان تكوين الذهب; لأن المدة لحصول كمال الورق ثمان عشرة ألف سنة، وهو نصف زمان كمال الذهب، وهو ستة وثلاثون ألف سنة، ولما كان المنفعل يدل على الفاعل، ويطلبه بذاته لهذا استغنى بذكر المنفعل عن ذكر ما انفعل عنه لتضمنه إياه، فقال: ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ، ولم يذكر ولا حار ولا بارد، وهذا من فصاحة القرآن وإعجازه، وحيث علم أن الذي أتى به، وهو محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن ممن اشتغل بالعلوم الطبيعية، فيعرف هذا القدر فعلم قطعا أن ذلك ليس من جهته، وأنه تنزيل من حكيم حميد .

وأن القائل بهذا عالم، وهو الله تعالى فعلم النبي صلى الله عليه وسلم كل شيء بتعليم الله، وإعلامه لا بفكره ونظره وبحثه فلا يعرف مقدار النبوة إلا من أطلعه الله على مثل هذه الأمور، ( قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا ) ، روى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد قال: كلمات ربي يقول: علم ربي.

وروى ابن أبي حاتم عن قتادة، قال: قبل أن تنفد كلمات ربي ، يقول: ينفد ماء البحر قبل أن ينفد كلامه وحكمه .

(ولذلك قال علي - رضي الله عنه -: لو شئت لأوقرت سبعين بعيرا من تفسير فاتحة الكتاب ) ، نقله صاحب القوت، وابن أبي جمرة في شرحه على المختصر، قال: وبيان ذلك أنه إذا قال الحمد لله رب العالمين يحتاج إلى تبيين معنى الحمد، وما يتعلق بالاسم الجليل الذي هو الله، وما يليق به الاسم الجليل من التنزيه، ثم [ ص: 512 ] يحتاج إلى بيان العالم ، وكيفيته على جميع أنواعه، وأعداده، وهي ألف عالم أربعمائة في البر، وستمائة في البحر فيحتاج إلى بيان ذلك كله فإذا قال: الرحمن الرحيم يحتاج إلى بيان الاسمين الجليلين، وما يليق بهما من الجلال وما في معناهما، ثم يحتاج إلى بيان جميع الأسماء والصفات، ثم يحتاج إلى بيان الحكمة في اختصاص هذا الموضع بهذين الاسمين دون غيرهما، فإذا قال: مالك يوم الدين يحتاج إلى بيان ذلك اليوم، وما فيه من المواطن والأهوال، وكيفية مستقره، فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين يحتاج إلى بيان المعبود من جلالته، والعبادة وكيفيتها، وصفاتها، وآدابها، فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم إلى آخر السورة يحتاج إلى بيان الهداية، ما هي؟ والصراط المستقيم، وأضداده وتبيين المغضوب عليهم، والضالين، وصفاتهم وتبيين المرضي عنهم وصفاتهم ، وطريقتهم فعلى هذه الوجوه يكون ما قاله على هذا القبيل اهـ .

(فالغرض مما ذكرناه التنبيه على طريق التفهيم لينفتح بابه) للسالكين، (فأما الاستقصاء) ، والإشراف على الأغوار (فلا مطمع فيه) لأحد، (ومن لم يكن له فهم ما في القرآن) من المعاني والأسرار، (ولو في أدنى الدرجات دخل في) حكم قوله تعالى: ( ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا ) ، ومثله مثل من سمع، وقلبه مشغول عن المسموع مما يضره عما ينفعه، حتى إذا خرج عن الكلام سأل من حضر بقلبه ماذا فهم من الخطاب الذي كان هو عنه بغفلته قد غاب؟ وقد كان حاضرا بجسمه ( أولئك الذين طبع الله على قلوبهم ) أي عن فقه الخطاب، فلم تسمعه القلوب، ولم تعه واتبعوا أهواءهم يعني أباطيلهم، وظنونهم الكاذبة .

(والطابع هي الموانع التي سنذكرها في موانع الفهم) بعد هذا، (وقد قيل لا يكون المريد مريدا حتى يجد في القرآن كل ما يريد، ويعرف منه النقصان من المزيد، ويستغني بالمولى عن العبيد) ، نقله صاحب القوت، عن بعض العارفين .

التالي السابق


الخدمات العلمية