إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الباب الرابع .

في فهم القرآن وتفسيره بالرأي من غير نقل .

لعلك تقول عظمت الأمر فيما سبق في فهم أسرار القرآن وما ينكشف لأرباب القلوب الزكية من معانيه فكيف يستحب ذلك ؟ وقد قال صلى الله عليه وسلم : من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار وعن هذا شنع أهل العلم بظاهر التفسير على أهل التصوف من المقصرين المنسوبين إلى التصوف في تأويل كلمات في القرآن ، على خلاف ما نقل عن ابن عباس وسائر المفسرين وذهبوا إلى أنه كفر فإن صح ما قاله أهل التفسير فما معنى فهم القرآن سوى حفظ تفسيره وإن لم يصح ذلك فما معنى قوله صلى الله عليه وسلم من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار ... فاعلم أن من زعم أن لا معنى للقرآن إلا ما ترجمه ظاهر التفسير فهو مخبر عن حد نفسه ، وهو مصيب في الإخبار عن نفسه ولكنه مخطئ في الحكم برد الخلق كافة إلى درجته التي هي حده ومحطه بل الأخبار والآثار تدل على أن في معاني القرآن متسعا لأرباب الفهم قال علي رضي الله عنه : إلا أن يؤتي الله عبدا فهما في القرآن فإن لم يكن سوى الترجمة المنقولة فما ذلك الفهم وقال صلى الله عليه وسلم : إن للقرآن ظهرا وبطنا وحدا ومطلعا ويروى أيضا عن ابن مسعود موقوفا عليه وهو من علماء التفسير فما معنى الظهر والبطن والحد والمطلع وقال علي كرم الله وجهه : لو شئت لأوقرت سبعين بعيرا من تفسير فاتحة الكتاب فما معناه ، وتفسير ظاهرها في غاية الاقتصار وقال أبو الدرداء لا يفقه الرجل حتى يجعل للقرآن وجوها .

وقد قال بعض العلماء : لكل آية ستون ألف فهم ، وما بقي من فهمها أكثر وقال آخرون : القرآن يحوي سبعة وسبعين ألف علم ، ومائتي علم ، إذ كل كلمة علم ، ثم يتضاعف ذلك أربعة أضعاف إذ لكل كلمة ظاهر ، وباطن ، وحد ومطلع وترديد رسول الله صلى الله عليه وسلم بسم الله الرحمن الرحيم عشرين مرة لا يكون إلا لتدبره باطن معانيها ، وإلا فترجمتها وتفسيرها ظاهر لا يحتاج مثله إلى تكرير وقال ابن مسعود رضي الله عنه : من أراد علم الأولين والآخرين فليتدبر القرآن وذلك لا يحصل بمجرد تفسير الظاهر وبالجملة فالعلوم كلها داخلة في أفعال الله عز وجل ، وصفاته ، وفي القرآن شرح ذاته ، وأفعاله وصفاته ، وهذه العلوم لا نهاية لها ، وفي القرآن إشارة إلى مجامعها والمقامات في التعمق في تفصيله راجع إلى فهم القرآن ، ومجرد ظاهر التفسير لا يشير إلى ذلك ، بل كل ما أشكل فيه على النظار ، واختلف فيه الخلائق في النظريات ، والمعقولات ففي القرآن إليه رموز ودلالات عليه يختص أهل الفهم بدركها فكيف ، يفي بذلك ترجمة ظاهره وتفسيره ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : اقرءوا القرآن ، والتمسوا غرائبه .

وقال صلى الله عليه وسلم في حديث علي كرم الله وجهه : والذي بعثني بالحق نبيا لتفترقن أمتي عن أصل دينها ، وجماعتها على اثنتين وسبعين فرقة كلها ضالة مضلة يدعون إلى النار فإذا ، كان ذلك فعليكم بكتاب الله عز وجل فإن فيه نبأ من كان قبلكم ونبأ ، ما يأتي بعدكم ، وحكم ما بينكم من خالفه من الجبابرة قصمه الله عز وجل ، ومن ابتغى العلم في غيره أضله الله عز وجل وهو حبل الله المتين ونوره المبين وشفاؤه النافع عصمة لمن تمسك به ، ونجاة لمن اتبعه لا يموج فيقوم ولا يزيغ فيستقيم ولا تنقضي عجائبه ، ولا يخلقه كثرة الترديد . الحديث .

وفي حديث حذيفة لما أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاختلاف ، والفرقة بعده ، قال فقلت : : يا رسول الله فماذا تأمرني إن أدركت ذلك فقال ؟ : تعلم كتاب الله ، واعمل بما فيه فهو المخرج من ذلك ، قال : فأعدت عليه ذلك ثلاثا ، فقال صلى الله عليه وسلم ثلاثا : تعلم كتاب الله عز وجل ، واعمل بما فيه ففيه النجاة وقال علي كرم الله وجهه : من فهم القرآن فسر به جمل العلم أشار به إلى أن القرآن يشير إلى مجامع العلوم كلها ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا : يعني الفهم في القرآن وقال عز وجل ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما سمى ما آتاهما علما وحكما ، وخصص ما انفرد به سليمان بالتفطن له باسم الفهم ، وجعله مقدما على الحكم والعلم فهذه الأمور تدل على أن في فهم معاني القرآن مجالا رحبا ، ومتسعا بالغا وأن المنقول من ظاهر التفسير ليس منتهى الإدراك فيه .

فأما قوله صلى الله عليه وسلم : من فسر القرآن برأيه ونهيه عنه صلى الله عليه وسلم وقول أبي بكر رضي الله عنه أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا قلت في القرآن برأيي إلى غير ذلك مما ورد في الأخبار والآثار في النهي عن تفسير القرآن بالرأي فلا يخلو إما أن يكون المراد به الاقتصار على النقل والمسموع وترك الاستنباط والاستقلال بالفهم أو المراد به أمرا آخر وباطل قطعا أن يكون المراد به أن لا يتكلم أحد في القرآن إلا بما يسمعه لوجوه .

أحدها أنه يشترط أن يكون ذلك مسموعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسندا إليه وذلك مما لا يصادف إلا في بعض القرآن فأما ما يقوله ابن عباس وابن مسعود من أنفسهم فينبغي أن لا يقبل ويقال هو تفسير بالرأي ; لأنهم لم يسمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذا غيرهم من الصحابة رضي الله عنهم .

والثاني أن الصحابة والمفسرين اختلفوا في تفسير بعض الآيات ، فقالوا : فيها أقاويل مختلفة ، لا يمكن الجمع بينها وسماع جميعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم محال ولو كان الواحد مسموعا لرد الباقي فتبين على القطع أن كل مفسر قال في المعنى بما ظهر له باستنباطه حتى قالوا : في الحروف التي في أوائل السور سبعة أقاويل مختلفة لا يمكن الجمع بينها فقيل إن : الر هي حروف من الرحمن وقيل : إن الألف الله ، واللام لطيف ، والراء رحيم وقيل : غير ذلك والجمع بين الكل غير ممكن فكيف يكون الكل مسموعا .

والثالث أنه صلى الله عليه وسلم دعا لابن عباس رضي الله عنه ، وقال : اللهم فقهه في الدين ، وعلمه التأويل فإن كان التأويل مسموعا كالتنزيل ، ومحفوظا مثله فما معنى تخصيصه بذلك .

والرابع أنه قال عز وجل لعلمه الذين يستنبطونه منهم فأثبت لأهل العلم استنباطا ومعلوم أنه وراء السماع .

وجملة ما نقلناه من الآثار في فهم القرآن يناقض هذا الخيال فبطل أن يشترط السماع في التأويل ، وجاز لكل واحد أن يستنبط من القرآن بقدر فهمه وحد عقله وأما النهي فإنه ينزل على أحد وجهين أحدهما أن يكون له في الشيء رأي وإليه ميل من طبعه وهواه فيتأول القرآن على وفق رأيه وهواه وليحتج على تصحيح غرضه ولو لم يكن له ذلك الرأي والهوى ، لكان لا يلوح له من القرآن ذلك المعنى وهذا تارة يكون مع العلم كالذي يحتج ببعض آيات القرآن على تصحيح بدعته ، وهو يعلم أنه ليس المراد بالآية ذلك ولكن ، يلبس به على خصمه وتارة يكون مع الجهل ولكن إذا كانت الآية محتملة فيميل فهمه إلى الوجه الذي يوافق غرضه ويرجح ذلك الجانب برأيه ، وهواه فيكون قد فسر برأيه أي رأيه هو الذي حمله على ذلك التفسير ، ولولا رأيه لما كان يترجح عنده ذلك الوجه وتارة قد يكون له غرض صحيح فيطلب له دليلا من القرآن .

ويستدل عليه مما يعلم أنه ما أريد به كمن يدعو إلى الاستغفار بالأسحار فيستدل بقوله صلى الله عليه وسلم تسحروا فإن في السحور بركة ويزعم أن المراد به التسحر بالذكر وهو يعلم أن المراد به الأكل وكالذي يدعو إلى مجاهدة القلب القاسي فيقول : قال الله عز وجل اذهب إلى فرعون إنه طغى ويشير إلى قلبه ويومئ إلى أنه المراد بفرعون وهذا الجنس قد يستعمله بعض الوعاظ في المقاصد الصحيحة تحسينا للكلام وترغيبا للمستمع وهو ممنوع وقد تستعمله الباطنية في المقاصد الفاسدة لتغرير الناس ودعوتهم إلى مذهبهم الباطل فينزلون القرآن على وفق رأيهم ومذهبهم على أمور يعلمون قطعا أنها غير مرادة به فهذه الفنون أحد وجهي المنع من التفسير بالرأي ، ويكون المراد بالرأي الرأي الفاسد الموافق للهوى دون الاجتهاد الصحيح والرأي يتناول الصحيح ، والفاسد ، والموافق للهوى ، قد يخصص باسم الرأي .

والوجه الثاني أن يتسارع إلى تفسير القرآن بظاهر العربية من غير استظهار بالسماع والنقل فيما يتعلق بغرائب القرآن ، وما فيه من الألفاظ المبهمة والمبدلة وما فيه من الاختصار والحذف والإضمار ، والتقديم ، والتأخير فمن لم يحكم بظاهر التفسير وبادر إلى استنباط المعاني بمجرد فهم العربية كثر غلطه ودخل في زمرة من يفسر بالرأي .

فالنقل والسماع لا بد منه في ظاهر التفسير أولا ليتقي به مواضع الغلط ثم بعد ذلك يتسع التفهم والاستنباط والغرائب التي لا تفهم إلا بالسماع كثيرة ونحن نرمز إلى جمل منها ليستدل بها على أمثالها ويعلم أنه لا يجوز التهاون بحفظ التفسير الظاهر أولا ولا مطمع في الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر .


(الباب الرابع في فهم القرآن وتفسيره بالرأي ) .

أي من عند نفسه (من غير نقل) مأثور (لعلك تقول عظمت الأمر فيما سبق في فهم أسرار القرآن) ، وعجائبه، (وما ينكشف لأرباب القلوب الزكية) المطهرة عن دنس الأوهام (من معانيه) الغريبة، (فكيف يستحب ذلك؟) أي كيف يختار على الاستحباب؟ (وقد قال صلى الله عليه وسلم: من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار ) ، رواه الترمذي من حديث ابن عباس وحسنه، وهو عند أبي داود في رواية ابن العبد، وعند النسائي في الكبرى .

وقد تقدم ذلك في الباب الثالث من كتاب العلم، وروى النقاشتي في مقدمة تفسيره عند أبي عصمة عن زيد العمي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر رفعه: من فسر القرآن برأيه فأصاب تكتب عليه خطيئة لو قسمت بين العباد لوسعتهم فإن أخطأ فليتبوأ مقعده من النار.

وروي عن الحسن، عن أبي هريرة من فسر القرآن على رأيه، فإن أصاب لم يؤجر، وإن أخطأ محي النور من قلبه، ومن حديث جندب بن عبد الله رفعه من قال في القرآن برأيه، فأصاب فقد أخطأ، وليس في الكتب الستة إلا حديث ابن عباس، وهو الذي ذكرناه قبل، وحديث جندب بمعنى ما هنا، وحديث جندب رواه الترمذي، وقال: غريب .

ورواه النسائي وابن جرير والبغوي وابن الأنباري في المصاحف، والطبراني وابن حبان، ويروى عن ابن عباس أيضا مرفوعا، من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار، رواه الترمذي، وصححه وابن الأنباري والطبراني والبيهقي، وروى الديلمي من حديث أبي هريرة، من فسر القرآن برأيه، وهو على وضوئه فليعد، وضوأه (ومن هذا شنع أهل العلم بظاهر التفسير) الواقفين على حدود الظاهر (على أهل التصوف) في معاني الألفاظ، (من المفسرين المنسوبين إلى التصوف) كأبي عبد الرحمن العلمي في حقائق التفسير والقاشاني، وغيرهما (في تأويل كلمات في القرآن، على خلاف ما نقل عن) ترجمان القرآن (ابن عباس وسائر المفسرين) ممن بعده، (وذهبوا إلى أنه) أي: التأويل، (كفر) إذ هو إزالة [ ص: 527 ] الألفاظ عن معانيها الأصلية، ومخالفة النقل الصريح، (فإن صح ما قاله أهل التفسير) الظاهر، (فما معنى فهم القرآن سوى حفظ تفسيره) الذي أوردوه، (وإن لم يصح ذلك فما معنى قوله صلى الله عليه وسلم من فسر القرآن برأيه... الحديث) ، ولا بد من رفع النقاب عن وجه البيان في هذه المسألة، (فاعلم أن من زعم أن لا معنى للقرآن إلا ما ترجمه) وبينه، (ظاهر التفسير فهو مخبر عن نفسه، وهو مصيب في الإخبار عن نفسه) ، إذ هو لم يدرك إلا هذا القدر، ولم يتطلع إلى ورائه، (ولكنه مخطئ في الحكم برد الخلق كافة إلى درجته التي هي حده ومحطه) ، ومبلغ علمه .

وفي نسخة ومتخطاه بدل، ومحطه (بل الأخبار والآثار تدل على أن في معاني القرآن متسعا لأرباب الفهم) ، والرياضات منها ما (قال علي - رضي الله عنه - : إلا أن يؤتي الله عبدا فهما في القرآن) ، وقد تقدم في الباب الذي قبله (فإن لم يكن سوى الترجمة المنقولة فما ذلك الفهم) الذي يؤتاه العبد، وما معناه، (و) منها ما (قال صلى الله عليه وسلم: إن للقرآن ظهرا وبطنا وحدا ومطلعا ) .

رواه ابن حبان في صحيحه من حديث ابن مسعود مرفوعا، وتقدم ذلك في قواعد العقائد بلفظ: ظاهرا وباطنا، (ويروى أيضا) ذلك (عن ابن مسعود موقوفا عليه) ، أي من قوله ولم يرفعه ذكره صاحب القوت، (وهو) أي ابن مسعود (من علماء التفسير) ، وقد شاهد التنزيل فما معنى الظهر والبطن والحد والمطلع .

وقال الفريابي: حدثنا سفيان، عن يونس بن عبيد، عن الحسن، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ظهر وبطن لكل آية، ولكل حرف حد، ولكل حد مطلع، وعند الديلمي من حديث عبد الرحمن بن عوف مرفوعا، القرآن تحت العرش له بطن وظهر يحاج العباد، وعند الطبراني وأبي يعلى والبزار عن ابن مسعود موقوفا، بلفظ: إن هذا القرآن ليس منه حرف إلا له حد، ولكل حد مطلع، واختلفوا في معاني هذه الألفاظ على أوجه فقيل ظاهرها لفظها، وباطنها تأويلها، وقيل: ظاهرها الإخبار بهلاك الأولين، وباطنها وعظ الآخرين، ورجحه أبو عبيد، وقيل: ظاهرها ما ظهر من معانيها لأهل العلم بالظاهر، وبطنها ما تضمنته الأسرار التي أطلع الله عليها أرباب الحقائق .

ذكره ابن النقيب، وقيل: الظاهر التلاوة، والباطن الفهم، والحد أحكام الحلال والحرام والمطلع الإشراف على الوعد والوعيد، وقيل: الحد منتهى ما أراد الله من معناه، وقيل: المقدار من الثواب، والعقاب، وقوله: مطلع أي يتوصل به إلى معرفته، ويوقف على المراد منه، وقيل: كل ما يستحقه من الثواب، والعقاب يطلع عليه في الآخرة عند المجازاة، (وقال علي - رضي الله عنه -: لو شئت لأوقرت سبعين بعيرا من تفسير فاتحة الكتاب ) ، كما تقدم قريبا (فما معنى ذلك، وتفسير ظاهرها في غاية الاختصار) ، يأتي في أوراق معدودة، (وقال أبو الدرداء ) - رضي الله عنه -: (لا يفقه الرجل حتى يجعل للقرآن وجوها) .

قال أبو نعيم في الحلية: حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي حدثنا إسماعيل بن علية، حدثنا أيوب السختياني، عن أبي قلابة، قال: قال أبو الدرداء: إنك لا تفقه كل الفقه حتى ترى للقرآن وجوها، وإنك لا تفقه كل الفقه حتى تمقت الناس في جنب الله، ثم ترجع إلى نفسك فتكون لها أشد مقتا للناس.

قلت: وروى ابن لال من حديث جابر رفعه لا يفقه العبد كل الفقه حتى يبغض الناس في ذات الله، ثم يرجع إلى نفسه فتكون أمقت عنده من الناس أجمعين، وروى نحوه الخطيب في المتفق والمفترق، وابن عبد البر من حديث شداد بن أوس قال ابن عبد البر في جامع العلم: حدثنا خلف بن قاسم، حدثنا سعيد بن الفهري، حدثنا عبد الله بن أبي مريم، حدثنا عمرو بن أبي سلمة التنيسي، حدثنا صدقة بن عبد الله، عن إبراهيم بن أبي بكر، عن أبان بن أبي عياش، عن أبي قلابة، عن شداد بن أوس - رضي الله عنه - ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يفقه العبد كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله، ولا يفقه العبد كل الفقه حتى يرى للقرآن وجوها كثيرة، قال ابن عبد البر: صدقة ضعيف مجمع على ضعفه، وهذا حديث لا يصح مرفوعا، وإنما الصحيح فيه أنه من قول أبي الدرداء، ثم ساق من طريق معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي الدرداء من قوله مثل سياق الحلية، وقال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا وهيب، حدثنا أيوب [ ص: 528 ] عن أبي قلابة، عن أبي الدرداء قال: لن تفقه كل الفقه حتى ترى للقرآن وجوها كثيرة.

قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبيد، عن حماد بن زيد، قلت لأيوب: أرأيت قوله حتى ترى للقرآن وجوها كثيرة؟ فسكت يتفكر، قلت: أهو أن يرى له وجوها فيها بالإقدام عليه؟ قال: هذا هو هذا هو، أخرجه ابن عساكر كذلك، وأخرج أبو سعد من طريق عكرمة، قال ابن عباس، عن علي بن أبي طالب: أرسله إلى الخوراج، فقال: اذهب إليهم فخاصمهم، ولا تحاجهم بالقرآن فإنه ذو وجوه، ولكن خاصمهم بالسنة فجاءهم بالسنن فلم يبق بأيديهم حجة، واختلفوا في معرفة الوجوه فقيل: المراد به أن ترى اللفظ الواحد يحتمل معاني متعددة فيحمله عليها إذا كانت غير متضادة، ولا يقتصر به على معنى واحد، وقيل: المراد به استعمال الإشارات الباطنة، وعدم الاقتصار على التفسير الظاهر، وسيأتي الكلام في الفرق بين الوجوه، والنظائر في آخر الباب .

(وقد قال بعض العلماء: لكل آية ستون ألف فهم، وما بقي من فهمها أكثر ) ، نقله صاحب القوت، وقال: قال بعض علمائنا: يعني به أبا محمد سهل بن عبد الله التستري رحمه الله، وأورده أيضا ابن سبع في شفاء الصدور، (وقال بعضهم: القرآن يحوي سبعة وسبعين ألف علم، ومائتي علم، إذ لكل كلمة علم، ثم يتضاعف ذلك أربعا لكل واحد ظاهر، وباطن، وحد ومطلع) .

ولفظ القوت، وأقل ما قيل في علوم القرآن التي تحويه من ظواهر المعاني المجموعة فيه أربعة وعشرون ألفا وثمانمائة علما، إذ لكل آية علوم أربعة، وقد قيل: إنه يحوي سبعة وسبعين ألف علم، ومائتين من علوم; لأن كل كلمة علم، وكل علم عن وصف فكل كلمة مقتضى صفة، وكل صفة موجبة أفعالا حسنة، وغيرها على معانيها، وقال أبو بكر بن العربي في قانون التأويل: علوم القرآن خمسون علما، وأربعمائة علم، وسبعة آلاف علم على عدد كلم القرآن المضروبة في أربعة إذ لكل كلمة ظهر، وبطن، وحد، ومطلع وهذا مطلق دون اعتبار تركيب، وما بينهما من روابط، وهذا مما لا يحصى، ولا يعلمه إلا الله تعالى، (وترديد رسول الله لبسم الله الرحمن الرحيم عشرين مرة لا يكون إلا لتدبر باطن معانيها، وإلا فترجمتها وتفسيرها ظاهر) في بادئ الرأي، (ولا يحتاج مثله صلى الله عليه وسلم إلى تكرار) ، وتقدم تخريجه قريبا .

(وقال ابن مسعود - رضي الله عنه - : من أراد علم الأولين والآخرين فليتدبر القرآن) ، وهذا أيضا قد تقدم قريبا، (وذلك لا يحصل بمجرد تفسير الظاهر) ، وأعظم دليل على كثرة علوم القرآن المستنبطة منه قوله تعالى ما فرطنا في الكتاب من شيء وقوله تعالى: ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين وقوله تعالى: ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء .

وروى سعيد بن منصور، عن ابن مسعود قال: من أراد العلم فعليه بالقرآن، فإن فيه خبر الأولين والآخرين، قال البيهقي: يعني أصول العلم، وأخرج البيهقي عن الحسن قال: أنزل الله مائة وأربعة كتب أودع علومها أربعة منها التوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان، ثم أودع علوم الثلاثة الفرقان، وقال الشافعي رحمه الله تعالى: جميع ما تقوله الأمة شرح للسنة، وجميع السنة شرح للقرآن، وقال أيضا: جميع ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن .

وقال سعيد بن جبير: ما بلغني حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجهه إلا وجدت مصداقه في كتاب الله، أخرجه ابن أبي حاتم، وقال ابن مسعود: إذا حدثتكم بحديث أنبأتكم بتصديقه من كتاب الله عز وجل، أخرجه ابن أبي حاتم أيضا، وقال الشافعي أيضا: ليست تنزل بأحد في الدين نازلة إلا في كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها، (وبالجملة فالعلوم كلها داخلة في أفعال الله تعالى، وصفاته، وفي القرآن شرح ذاته، وأفعاله وصفاته، وهذه العلوم; لا نهاية لها، وفي القرآن إشارات إلى مجامعها) .

قال ابن أبي الفضل المرسي: جمع القرآن علوم الأولين والآخرين، بحيث لم يحط بها علما حقيقة إلا المتكلم بها، ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم خلا ما استأثر به سبحانه، ثم ورث عنه معظم ذلك سادات الصحابة، وأعلامهم مثل الخلفاء الأربعة، وابن مسعود، وابن عباس حتى قال: لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله، ثم ورث عنهم التابعون بإحسان، ثم تقاصرت الهمم، وفترت العزائم ،وتضاءل أهل العلم، وضعفوا عن حمل ما حمله الصحابة، والتابعون من علومه وسائر فنونه، فنوعوا [ ص: 529 ] علومه وقامت كل طائفة بفن من فنونه، منهم القراء والمعربون والمفسرون والأصوليون والكلاميون والفقهاء والفرضيون والصوفية والوعاظ والخطباء والمؤرخون والمعبرون والبيانيون والمؤقتون، وغير هؤلاء على تباينهم، وغير ذلك من الفنون التي أحدثها الإسلامية منه، وقد احتوى على علوم أخرى من علوم الأوائل، مثل: الطب والجدل والهيئة والهندسة والجبر والمقابلة والنجامة، وغير ذلك، وفيه أصول للصنائع وأسماء الآلات التي تدعو الضرورة إليها كالخياطة والحدادة والنجارة والغزل والحراثة والغوص والصياغة والزجاجة والتجارة والملاحة والكتابة والخبازة والقصارة والجزارة والبيع والشراء والصباغة والنحت والكيالة والرمي، وفيه من أسماء الآلات، وضروب المأكولات والمشروبات والمنكوحات ما تحقق معنى قوله ما فرطنا في الكتاب من شيء اهـ. كلام المرسي ملخصا، وقال أبو بكر بن العربي في قانون التأويل، وأم العلوم القرآنية ثلاثة توحيد، وتذكير، وأحكام، فالتوحيد يذكر فيه معرفة المخلوقات، ومعرفة الخالق بأسمائه، وصفاته، وأفعاله، والتذكير منه الوعد والوعيد والجنة والنار وتصفية الظاهر والباطن، والأحكام منها التكاليف كلها، وتبيين المنافع والمضار والأمر والنهي والندب، ولذلك كانت الفاتحة أم القرآن; لأن فيها الأقسام الثلاثة، وسورة الإخلاص ثلثه لاشتمالها على أحد الأقسام الثلاثة وهو التوحيد .

وقال ابن جرير: القرآن يشتمل على ثلاثة أشياء التوحيد والأخبار والديانات، ولهذا كانت سورة الإخلاص ثلثه; لأنها تشمل التوحيد كله، قال شيدلة: وعلى أن تلك الثلاثة تشمل سائر الأشياء التي تذكر فيه، بل أضعافها فإن القرآن لا يستدرك، ولا تحصى عجائبه، (والمقامات في التعمق في تفصيله راجع إلى فهم القرآن، ومجرد ظاهر التفسير لا يشير إلى ذلك، بل كل ما أشكل على النظار، واختلف فيه الخلائق في النظريات، والمعقولات ففي القرآن إليه رموز) جلية وخفية، (ودلالات عليه يختص أهل الفهم بدركه، فكيف يفي بذلك ترجمة ظاهره وتفسيره) ؟ ، ومن أعظم علوم النظر الجدل، فقد حوت آياته من البراهين، والمقدمات، والنتائج، والقول بالموجب والمعارضة، وغير ذلك شيئا كثيرا، ومناظرة إبراهيم عليه السلام نمروذ، ومحاجته قومه أصل في ذلك عظيم، (ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: اقرءوا القرآن، والتمسوا غرائبه) ، هكذا هو في القوت، والمعنى دوموا على قرائته، والتمسوا معانيه الغريبة بالاستنباط، والفهم .

قال العراقي: رواه ابن أبي شيبة في المصنف، وأبو يعلى الموصلي، والبيهقي في الشعب من حديث أبي هريرة بلفظ: اعربوا، وسنده ضعيف اهـ .

قلت: ورواه الحاكم كذلك، وقال صحيح عند جماعة، وقد رد عليه الذهبي في التلخيص، فقال: مجمع على ضعفه، وقال الهيثمي: فيه متروك، وقال الصدر المناوي: فيه ضعيفان، وأورده السيوطي في الإتقان، وقال: ليس المراد به الإعراب المصطلح عليه عند النحاة، وهو ما يقابل اللحن; لأن القراءة مع فقده ليست قراءة، ولا ثواب فيها، وعلى الخائض في ذلك التثبت، والرجوع إلى كتب أهل الفن، وعدم الخوض بالظن، وقد أفرد بالتصنيف في غريبه جماعة كأبي عبيدة، وأبي عمر الزاهد، وابن دريد، ومن أشهرها كتاب العزيز فقد أقام في تأليفه خمس عشرة سنة يحرره هو وشيخه أبو بكر الأنباري، ومن أحسنها المفردات للراغب، (وقال صلى الله عليه وسلم في حديث علي - رضي الله عنه-: والذي نفسي بيده) ، ولفظ القوت: والذي بعثني بالحق نبيا، (لتفترقن أمتي عن أصل دينها، وجماعتها على اثنتين وسبعين فرقة كلها ضالة مضلة يدعون إلى النار، فإن كان ذلك فعليكم بكتاب الله تعالى فإن فيه نبأ ما كان قبلكم، وبيان) ، وفي القوت نبأ (ما يأتي بعدكم، وحكم ما بينكم من خالفه من الجبابرة قصمه الله تعالى، ومن ابتغى) أي: طلب (العلم في غيره أضله الله تعالى هو حبل الله المتين) أي: القوي، (ونوره المبين) أي: الظاهر، (وشفاؤه النافع) من سائر الأمراض، (وعصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه لا يعوج) أي: لا يقبل العوج، (فيقام) أي: فيحتاج إلى إقامته (ولا يزيغ) أي: لا يميل، (فيستقيم ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلقه كثرة الترديد) إلى آخر الحديث .

أورده صاحب القوت بتمامه، فقال: هو الذي سمعته الجن فما تناهى أن ولوا إلى قومهم منذرين، فقالوا: إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد من [ ص: 530 ] قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن تمسك به هدي إلى صراط مستقيم، إلى هنا آخر الحديث، وقد بنى المصنف على هذا خطبته من أولها إلى آخرها تضمينا له إياها كما أشرنا إليه هناك، ووعدنا بذكر هذا الحديث، قال العراقي: هو عند الترمذي دون ذكر افتراق الأمة بلفظ: ألا ستكون فتنة، فقلت: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله فيه نبأ من كان قبلكم، فذكره مع اختلاف، وقال: غريب، وإسناده مجهول،اهـ .

قلت: هو من حديث الحارث الأعور، قال الذهبي: حديثه في فضائل القرآن منكر، وأورده السيوطي في النوع الخامس والستين من الإتقان بلفظ: ستكون فتن، قيل: وما المخرج منها؟ قال كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وقال: أخرجه الترمذي وغيره، قال صاحب القوت: (و) قد روينا معناه (في حديث حذيفة) بن اليمان - رضي الله عنه - (لما أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاختلاف، والفرقة بعده، قال: قلت: يا رسول الله بما تأمرني إن أدركت ذلك؟ قال: تعلم كتاب الله، واعمل بما فيه فهو المخرج من ذلك، قال: فأعدت عليه ثلاثا، فقال صلى الله عليه وسلم: تعلم كتاب الله، واعمل بما فيه ففيه النجاة ثلاثا) ، قال العراقي: رواه أبو داود والنسائي في الكبرى، وفيه تعلم كتاب الله واتبع ما فيه ثلاثا، (وقال علي - رضي الله عنه -: من فهم القرآن فسر به جمل العلم) ، نقله صاحب القوت (أشار به) علي - رضي الله عنه - (إلى أن القرآن يشير إلى مجامع العلوم كلها، وقال ابن عباس رضي الله عنهما في) تفسير (قوله تعالى ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا : يعني الفهم في القرآن) ، كذا في القوت .

وروى ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخره وحلاله وحرامه، وأمثاله، وروى ابن مردويه من طريق الضحاك، عن ابن عباس مرفوعا: يؤت الحكمة، قال: القرآن، قال ابن عباس: يعني تفسيره فإنه قد قرأه البر والفاجر، وروى ابن أبي حاتم، عن أبي الدرداء: يؤت الحكمة، قال: قراءة القرآن، والفكرة فيه، وروى ابن جرير مثله عن قتادة ومجاهد، وأبي العالية، (وقال تعالى ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما فسمى ما آتاهما حكما وعلما، وخصص ما انفرد به سليمان) عليه السلام (بالتفطن له باسم الفهم، وجعله مقدما على الحكمة والعلم) ، ولفظ القوت: فرفع الفهم على الحكم والعلم، وأضافه إليه للتخصيص، وجعله مقاما عاما فيهما، (فهذه الأمور) وأشباهها، (تدل على أن في فهم معاني القرآن) لأربابه (مجالا رحبا، ومتسعا بالغا وأن المنقول من ظاهر التفسير ليس منتهى الإدراك فيه) ، بل الأمر وراء ذلك لمن أعطي المزيد فيه، وكان له الحظ الوافر في الفهم، (فأما قوله صلى الله عليه وسلم: من فسر القرآن برأيه) الحديث .

(ونهيه صلى الله عليه وسلم عنه) أي عن التفسير بالرأي، (وقول أبي بكر رضي الله عنه) حين سئل عن قوله تعالى وفاكهة وأبا ، فقال: (أي أرض تقلني) ، أي تحملني، (وأي سماء تظلني إذا قلت في القرآن برأيي) ، رواه أبو عبيد في فضائل القرآن من طريق إبراهيم التميمي عنه بلفظ: إن أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم، وروى أنس أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قرأ على المنبر وفاكهة وأبا ، فقال: هذه الفاكهة قد عرفناها، فما الأب؟ ثم رجع إلى نفسه،فقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر فهؤلاء الصحابة، وهم العرب العرباء، وأصحاب اللغة الفصحى، ومن نزل القرآن عليهم، وبلغتهم، توقفوا في ألفاظ لم يعرفوا معناها، فلم يقولوا فيها شيئا (إلى غير ذلك مما ورد في الأخبار والآثار) الواردة (في النهي عن التفسير بالرأي) ، مما سقنا بعضها قريبا (فلا يخلو) من أحد أمرين، (إما أن يكون المراد الاقتصار على النقل والمسموع) بأن لا يتعداهما، (وترك الاستنباط) للمعاني والأحكام، (و) ترك (الاستقلال بالفهم أو) يكون (المراد به أمرا آخر) غير ما ذكر، (وباطل قطعا أن يكون المراد به أن لا يتكلم أحد في القرآن إلا بما يسمعه) ، ويتلقاه (لوجوه أحدها أنه يشترط أن يكون ذلك مسموعا من) فم (رسول الله صلى الله [ ص: 531 ] عليه وسلم ومسندا إليه) من طرق معروفة، (وذلك مما لا يصادف إلا في بعض القرآن) ، وهو قليل، والأصل المرفوع منه في غاية القلة كتفسير الظلم بالشرك في آية الأنعام، والحساب اليسير بالعرض، والقوة بالرمي في قوله وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة وقد سرد السيوطي في آخر الإتقان جملة ما ورد فيه على ترتيب السور، وسألحقها في آخر الباب .

(فأما ما يقوله ابن عباس وابن مسعود ) ، وغيرهما من أصحاب التفسير من طبقتهما (من أنفسهم) ، وفي بعض النسخ من نفسيهما (فينبغي أن لا يقبل) منهم ذلك ، (ويقال هو تفسير بالرأي; لأنهم لم يسمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، وإنما فسروه بحسب ما ظهر لهم في الآية، (وكذا غيرهم من الصحابة رضي الله عنهم) ، إذا قالوا في تفسير لفظ من ألفاظ القرآن، ولم يسندوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيكون ذلك تفسيرا بالرأي .

وقال الحاكم في مستدركه: تفسير الصحابي بمنزلة المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال أبو الخطاب من الحنابلة: يحتمل أن لا يرجع إليه إذا قلنا أن قوله ليس بحجة قال ابن تيمية: والصواب ما قاله الحاكم; لأنه من باب الرواية لا الرأي، قال السيوطي في الإتقان ما قاله الحاكم نازعه فيه الصلاح، وغيره من المتأخرين بأن ذلك مخصوص بما فيه سبب النزول، أو نحوه مما لا مدخل للرأي فيه، ثم رأيت الحاكم نفسه صرح به في علوم الحديث، فقال: الموقوفات تفسير الصحابة، وأما من يقول: إن تفسير الصحابة منه فإنما يقوله فيما فيه سبب النزول، فقد خصص هنا، وعمم في المستدرك فاعتمدوا الأول انتهى، (والثاني أن الصحابة) رضي الله عنهم، (والمفسرين) من بعدهم، قد (اختلفوا في تفسير بعض الآيات، فقالوا: فيها أقاويل مختلفة، لا يمكن الجمع بينها) إلا بتكلفات، (وسماع جميعها) مع اختلافها (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم محال) ; لكونه صلى الله عليه وسلم لا يختلف كلامه، (ولو كان) القول (الواحد منها مسموعا) منه صلى الله عليه وسلم (لترك الباقي) منها، ورد (فتبين على القطع أن كل مفسر قال في المعنى) للفظ القرآن، (بما ظهر له باستنباطه) ، وبحثه، واجتهاده فيه، (حتى قالوا: في الحروف التي في أوائل السور سبعة أقاويل) ، والحروف التي افتتحت بها أوائل السور يجمعها قولك نص حكيم له سر قاطع .

وكذلك قولك صراط على حكمه قسط، وهي أربعة عشر حرفا، وهي من الأحرف التسعة والعشرين، روى ابن جرير وابن أبي حاتم، عن أبي العالية قال: ليس فيها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه، وليس منها حرف إلا هو مدة أقوام وآجالهم، ثم إن أوائل السور من المتشابه، والمختار فيها أنها من الأسرار التي لا يعلمها إلا الله تعالى، روى ابن المنذر وغيره عن الشعبي أنه سئل عن فواتح السور فقال: إن لكل كتاب سرا، وإن سر هذا القرآن فواتح السور، وخاض في معناه قوم آخرون، فذكروا فيه أكثر من عشرين قولا، الأول: أنها حروف مقطعة كل حرف منها مأخوذ من اسم من أسمائه تعالى، والاكتفاء ببعض الكلمة معهود في العربية قال الشاعر:


قلت لها قفي فقالت قاف



أي: وقفت، وهذا القول اختاره الزجاج.

الثاني: أنها الاسم الأعظم نقله ابن عطية، وقد رواه ابن جرير بسند صحيح، عن ابن مسعود وروى ابن أبي حاتم، عن السدي قال: بلغني عن ابن عباس قال: الم اسم من أسماء الله الأعظم.

الثالث: أنها أقسام أقسم الله بها، وهذا القول، قد رواه ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، ويصلح أن يكون هذا القول من الأول; لأن القسم لا يكون إلا بأسماء الله، فهي برمتها أسماء الله تعالى، وعليه مشى ابن عطية، أو من القول الثاني .

الرابع: أنها أسماء للقرآن كالفرقان، والذكر، وهذا قد رواه عبد الرزاق، عن قتادة، ورواه ابن أبي حاتم بلفظ: كل هجاء في القرآن، فهو اسم من أسماء القرآن* الخامس: أنها أسماء للسور نقله الماوردي عن زيد بن أسلم، وعزاه صاحب الكشاف إلى الأكثر* .

السادس: أنها فواتح السور افتتح الله بها القرآن، رواه ابن جرير من طريق الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، ورواه أبو الشيخ من طريق ابن جريج عنه* .

السابع: أنها حساب أبا جاد لتدل على مدة هذه الأمة، قال الحوبي: وقد استخرج بعض الأئمة من قوله تعالى: الم غلبت الروم أن البيت المقدس يفتحه المسلمون في سنة [ ص: 532 ] ثلاث وثمانين وخمسمائة، ووقع كما قال، وقال السهيلي: لعل عدد الحروف التي في أوائل السور مع حذف المكرر للإشارة إلى مدة بقاء هذه الأمة، قال الحافظ ابن حجر، وهذا باطل لا يعتمد عليه فقد ثبت عن ابن عباس الزجر عن أبي جاد، والإشارة إلى أن ذلك من جملة السحر، وليس ذلك ببعيد فإنه لا أصل له في الشريعة، فهذه سبعة أقاويل، وقد زيد على ذلك، فقال بعضهم: هي تنبيهات كما في النداء عده ابن عطية مغايرا للقول بأنها فواتح، وقالالسيوطي والظاهر: أنه بمعناه، وقال الحوبي: القول بأنها تنبيهات جيد لأن القرآن كلام عزيز وفوائده عزيزة، فينبغي أن يرد على سمع متنبه فكان من الجائز أن يكون قد علم في بعض الأوقات كون النبي صلى الله عليه وسلم في عالم البشر مشغولا، فأمرجبريل بأن يقول عند نزوله: الم، و حم، ليسمع النبي صلى الله عليه وسلم صوت جبريل فيقبل عليه، ويصغي إليه، قال: وإنها لم تستعمل الكلمات المشهورة في التنبيه كألا، وأما; لأنها من الألفاظ التي تعارفها الناس في كلامهم، والقرآن كلام لا يشبه الكلام، فناسب أن يؤتى فيه بألفاظ تنبيه لم تعهد ليكون أبلغ في قرع سمعه اهـ

وقيل: إن العرب إذا سمعوا القرآن لغوا فيه فأنزل الله تعالى هذا النظم البديع، ليعجبوا منه، ويكون تعجبهم منه سببا لاستماعهم له، واستماعهم له سببا لاستماع ما بعده فترق القلوب، وتلين الأفئدة، وقد عد جماعة هذا قولا مستقلا، والظاهر خلافه، وإنما هذا مناسبته لبعض الأقوال، لا قولا في معناها إذ ليس فيه بيان معنى .

وقيل: إن هذه الحروف ذكرت لتدل على أن القرآن مؤلف من الحروف التي هي ا ب ت ث فجاء بعضها مقطوعا، وجاء تمامها مؤلفا ليدل القوم الذين نزل القرآن بلغتهم أنه بالحروف التي يعرفونها، فيكون ذلك تعريفا، ودلالة على عجزهم أن يأتوا بمثله بعد أن علموا أنه منزل بالحروف التي يعرفونها، ويبنون كلامهم منها، وقيل: إن المقصود بها الإعلام بالحروف التي يتركب منها الكلام، فذكر منها أربعة عشر حرفا، وهي نصف جميع الحروف، وذكر من كل جنس نصفه فمن حروف الحلق الحاء والعين والهاء، ومن التي فوقها القاف والكاف، ومن الحرفين الشفهيين الميم، ومن المهموسة السين والخاء والكاف والصاد والهاء، ومن الشديدة الهمزة والطاء والقاف والكاف، ومن المطبقة الطاء والصاد، ومن المجهورة الهمزة واللام والميم والعين والراء والطاء والقاف والياء والنون، ومن المنفتحة الهمزة والميم والراء والكاف والهاء والعين والسين والحاء والقاف والياء والنون، ومن المستعلية القاف والصاد والطاء، ومن المنخفضة الهمزة واللام والميم والراء والكاف والهاء والياء والعين والسين والحاء والنون، ومن القلقلة القاف والطاء، ثم إنه تعالى ذكر حروفا مفردة، وحرفين حرفين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة، وخمسة; لأن تراكيب الكلام على هذا النمط، ولا زيادة على الخمسة .

وقيل: أمارة جعلها الله تعالى لأهل الكتاب أنه منزل على محمد صلى الله عليه وسلم كتابا في أول سور منه حروف مقطعة، هذا ما وقفت عليه من الأقوال في أوائل السور من حيث الجملة، وفي بعضها أقوال، (فقيل: الر) من الرحمن، رواه أبو الشيخ عن محمد بن كعب القرظي، وروى ابن أبي حاتم من طريق عكرمة، عن ابن عباس قال: الر، و حم، و ن (هي حروف من الرحمن) مفرقة، (وقيل: إن الألف الله، واللام لطيف، والراء رحيم) ، فكأنه يقول أنا الله اللطيف الرحيم، (وقيل: غير ذلك) ، منها ما رواه ابن أبي حاتم من طريق أبي الضحى، عن ابن عباس قال: قوله الر، معناه أنا الله أرى، وهذه الأقوال كلها راجعة إلى قول واحد، تقدم ذكره، وهو أن فواتح السور حروف مقطعة كل حرف منها مأخوذ من اسم من أسمائه تعالى، (والجمع بين الكل) من هذه الأقوال، (غير ممكن فكيف يكون الكل مسموعا، والثالث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لابن عباس، وقال: اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل) .

رواه الطبراني عن ابن عباس، ولفظه أنه كان في بيت خالته ميمونة رضي الله عنها فوضع للنبي صلى الله عليه وسلم طهورا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من وضعه؟ قيل: ابن عباس قال: فضرب على منكبي، وقال: فذكره، وقد تقدم في الباب الثاني من كتاب العلم، وقال له أيضا: اللهم آته الحكمة، وفي رواية اللهم علمه الحكمة .

وأخرج أبو نعيم في الحلية [ ص: 533 ] عن ابن عمر قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس، فقال: اللهم بارك فيه وانشر منه، (فإن كان التأويل كالتنزيل، ومحفوظا مثله فما معنى تخصيصه بذلك) ، والتأويل هو حمل الظاهر على المحتمل المرجوح فإن حمل لدليل فصحيح، أو لما يظن دليلا ففاسد، أو لا لشيء فلعب لا تأويل كذا في جمع الجوامع، وفيه أقوال أخر تذكر مع التفسير، قد تقدمت الإشارة إليها في كتاب العلم، وفي قواعد العقائد .

(والرابع أن الله عز وجل قال) في كتابه العزيز وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم ( لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) قال البيضاوي: أي يستخرجون تدابيره بتجاربهم وأنظارهم، وقيل: المعنى لعلم ذلك من هؤلاء الذين يستنبطونه من الرسول، وأولي الأمر أي يستخرجون علمه من جهتهم، وأصل الاستنباط إخراج النبط، وهو الماء يجتمع في البئر أول ما يحفر اهـ .

(فأثبت لأهل العلم استنباطا) ، وأنهم يستخرجون من القضايا أمورا، (ومعلوم أن الاستنباط) أمر (وراء السماع) ، وإنما هو راجع إلى علمه وفهمه، (وجملة ما نقلناه من الآثار في فهم القرآن يناقض هذا الخيال) الذي توهموه في عقولهم، وسمى صورة ما تصوروه خيالا مجازا، (فبطل أن يشترط السماع في التأويل، وجاز لكل واحد) مما مكنه الله تعالى في علوم القرآن، (أن يستنبط من القرآن) معاني وأحكاما (بقدر فهمه) الذي رزقه، (وحد عقله) الذي استكمله بنور البصيرة، والإتقان، وقال أبو الحسن الماوردي: وقد حمل بعض المتورعة حديث النهي عن تفسير القرآن بالرأي على ظاهره، وامتنع من أن يستنبط معاني القرآن باجتهاده، ولو صحبتها الشواهد، ولم يعارض شواهدها نص صريح، وهذا عدول عما تعبد على معرفته من التفكر في القرآن، واستنباط الأحكام منه .

كما قال تعالى لعلمه الذين يستنبطونه منهم ، ولو صح ما ذهب إليه لم يعلم شيء بالاستنباط، ولما فهم الأكثر من كتاب الله شيئا، (وأما النهي) عن التفسير (فإنه) مع الغرابة في الحديث الوارد فيه ، (ينزل على أحد وجهين أحدهما أن يكون له في الشيء رأي) ، وفي نسخة غرض، (وإليه ميل من طبعه وهواه فيتأول القرآن على وفق رأيه وهواه ليحتج) به (على تصحيح غرضه) ، الذي مال إليه هواه، (ولو لم يكن له ذلك الرأي والهوى، لكان لا يلوح له من القرآن ذلك المعنى) ، (وهذا تارة يكون مع العلم) بقواعد الشرع أصلا وفرعا، (كالذي يحتج بآيات القرآن على تصحيح بدعته، وهو يعلم أنه ليس ذلك هو المراد بالآية، ولكنه يلبس بذلك على خصمه) .

وهذا صنيع الزمخشري في الكشاف فإنه له فيه دسائس اعتزالية، نبه عليها علماء السنة كابن المنير، والتقي السبكي، وأبي حيان، والعلم العراقي، وغيرهم فمن ذلك قوله في تفسير قول الله تعالى فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ، فقال: وأي فوز أعظم من هذا؟ أراد به تصحيح بدعته من إنكاره الرؤية، وكقوله في تفسير قول الله تعالى في قصة موسى عليه السلام لن تراني أن لن للجحد المؤكد، وإنما أراد به نفي الرؤية، وحمل ناظرة في قوله تعالى: إلى ربها ناظرة ، فقال: أي منتظرة، وغير ذلك من فضائحه التي أدرجها في تضاعيف تفسيره، ولذا منع العلماء من تعاطي كتابه، وحذروا من مطالعته حتى صنف التقي السبكي في ذلك الانكفاف عن مطالعة الكشاف، وقد جمع السيوطي رحمه الله تعالى مواضع من تفسيره نحو أربعة وعشرين موضعا في كتاب سماه الإتحاف، ونقل كل قول من أقواله، ورد عليه، وجاء في عصرنا رجل من فضلاء الروم فأجاب عن هذا التأليف، وساعد الزمخشري بعض مساعدة، وقرظ عليه بعض علماء العصر، ومنهم من كتب عليه في مواضع كالمساعد له، ولما سيق إلي بواسطة حاكم مصر، إذ ذاك وأمرني أن أكتب عليه لم يسعن السكوت، والمداهنة في دين الله فكتبت عليه ردا على طريق المحاكمة في كراسين، أو ثلاثة وسميته الإنصاف في المحاكمة بين السيوطي، وصاحب الكشاف، (وتارة يكون مع الجهل) بأصول الشريعة، والعقائد المختلفة، (ولكن إذا كانت الآية محتملة) وجهين، أو أكثر فيميل بهمه إلى الوجه الذي يوافق غرضه، ويرجح ذلك الجانب برأيه، وهواه فيكون (حينئذ) ممن قد (فسر القرآن برأيه، وهواه أي رأيه هو الذي حمله على [ ص: 534 ] ذلك التفسير، ولولا رأيه) وهواه، (لما كان يترجح عنده ذلك الوجه) الذي وافق غرضه دون الوجوه الأخر، (وتارة قد يكون له غرض صحيح) يحسن الإقدام عليه لترتب فائدة، (فيطلب له دليلا من القرآن، ويستدل عليه بما يعلم) ، ويتحقق (أنه ما أريد به) ذلك .

(كمن يدعو) الناس (إلى الاستغفار بالأسحار) ويعظم أمره (فيستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم تسحروا فإن في السحور بركة ) .

رواه أحمد والشيخان والترمذي والنسائي من حديث أنس، ورواه النسائي أيضا عن أبي هريرة وابن مسعود، وقد تقدم في الباب الثالث من كتاب العلم، (ويزعم أن المراد به التسحر بالذكر) أي: الذي يذكر الله بالأسحار وينزل فيه قوله تعالى والمستغفرين بالأسحار (وهو يعلم أن المراد به الأكل) في السحر مع ما ورد من تسميته غداء في حديث آخر من رواية أبي الدرداء عند الطبراني، وما ورد من حديث أنس عند أبي يعلى تسحروا، ولو بجرعة من ماء، (وكالذي يدعو إلى مجاهدة القلب القاسي) للرياضات والمخالفات، (فيقول: قال الله تعالى اذهب إلى فرعون إنه طغى ويشير إلى قلبه) ; لأنه تعرض عليه الخطرات والوساوس، والمراد به النفس الأمارة، (ويومئ إلى أنه) هو (المراد بفرعون) بجامع الطغيان، (وهذا الجنس قد يستعمله بعض الوعاظ) ، والقصاص (في المقاصد الصحيحة تحسينا للكلام) وتزيينا له، (وترغيبا للمستمع) على صيغة اسم المفعول، وهو لا ينكر موسى عليه السلام، ولا فرعون، ولا أن هذا الخطاب إلى موسى عليه السلام، وقد أمر بذهابه إلى إرشاد فرعون .

وقد بالغ بعضهم، فقال: حيث ذكر فرعون في القرآن، فالمراد به النفس الأمارة، وقد نسب هذا القول إلى الشيخ الأكبر قدس سره، وأسلفنا تحقيق ذلك في كتاب العلم، وفي قواعد العقائد فراجعه، وكقول بعضهم: في إن هي إلا فتنتك ما على العباد أضر من ربهم، ونسبه الذهبي في الميزان إلى صاحب القوت في ترجمته، والظن به جميل إن صح عنه (وهو ممنوع) ، ومن هذا الجنس قول بعضهم في قوله تعالى: من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه فقال: أي من ذل ذي يشفع أي من أذل نفسه نيل مقام الشفاعة، ومنهم من زاد، فقال: يشف ع جعله مركبا من جملتين، وقد سئل عن ذلك السراج البلقيني فأفتى بأن قائله ملحد، وقد قال الله تعالى إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا قال ابن عباس: هو أن يوضع الكلام في غير موضعه، رواه ابن أبي حاتم، ولعله يدخل في هذا الجنس ما تقدم للمصنف في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم: اللهم أصلح الراعي والرعية، أي القلب والأعضاء، وهذا المعنى وإن كان صحيحا في نفسه، لكنه لم يرد بذلك تصريح من الشارع فليجتنب، (وقد تستعمله الباطنية في المقاصد الفاسدة لتغرير الناس) ، أي: إيقاعهم في الغرور، (ودعوتهم إلى مذهبهم الباطل فينزلون القرآن على وفق رأيهم) الفاسد، (ومذهبهم) الباطل، (على أمور يعلمون قطعا أنها غير مرادة به) .

قال ابن الصلاح في فتاويه: وجدت عن الإمام أبي الحسن الواحدي المفسر أنه قال: صنف أبو عبد الرحمن السلمي حقائق التفسير، فإن كان اعتقد أن ذلك تفسير، فقد كفر، ثم قال: وأنا أقول إن الظن بمن يوثق به منهم إذا قال شيئا من ذلك أنه لم يذكره تفسيرا ولا ذهب مذهب الشرح للكلمة فإنه لو كان كذلك، كانوا قد سلكوا مسلك الباطنية، وإنما ذلك منهم تنظير ما ورد به القرآن فإن ذلك النظير يذكر بالنظير، ومع ذلك يا ليتهم لم يتساهلوا بمثل ذلك من الإبهام والإلباس .

وقال النسفي في عقائده: النصوص على ظواهرها، والعدول عنها إلى معان يدعيها أهل الباطن إلحاد، قال السعد في شرحه: سميت الملاحدة باطنية لادعائهم أن النصوص ليست على ظواهرها، بل لها معان باطنة لا يعرفها إلا المعلم، وقصدهم بذلك نفي الشريعة بالكلية، قال: وأما ما يذهب إليه بعض المحققين من أن النصوص على ظواهرها، ومع ذلك فيها إشارات خفية إلى دقائق تكشف على أرباب السلوك يمكن التطبيق بينها، وبين الظواهر المرادة فهو كمال الإيمان، ومحض العرفان اهـ، وسيأتي لذلك تحقيق في آخر الباب .

(فهذه الفنون أحد وجهي المنع من التفسير بالرأي، ويكون المراد بالرأي الرأي الفاسد الموافق للهوى دون الاجتهاد الصحيح [ ص: 535 ] والرأي يتناول الصحيح، والفاسد، والموافق للهوى، قد يخصص باسم الرأي) ، وأصل الرأي اعتقاد النفس أحد النقيضين، عن غلبة ظن فإن كان عن اجتهاد صحيح مطابق لأصول السنة، فصحيح وإلا ففاسد، فالمذموم المعيب المهجور المنهي عنه في تفسير القرآن، هو هذا القسم دون الصحيح المطابق، وقد أشار إلى ذلك ابن عبد البر في آخر كتاب جامع العلم .

(والوجه الثاني) من وجهي النهي (أن يسارع في تفسير القرآن بظاهر العربية) ، بالنظر إلى قواعدها (من غير استظهار بالسماع والنقل) المرفوعين، (فيما يتعلق بغرائب القرآن، وما فيها من الألفاظ المبهمة) ، والمجلة، (والمبدلة وما فيها) من الإيجاز، (والاختصار) والإطناب، (والحذف والإضمار، والتقديم، والتأخير) ، وغير ذلك مما يأتي بيانها، (فمن لم يحكم ظاهر التفسير المعبر عنه) بترجمة الألفاظ على قواعد لغة العرب، (وبادر إلى استنباط المعاني بمجرد فهم العربية) ، أي: قواعدها (كثر غلطه) ، وبان سقطه، (ودخل زمرة من يفسر بالرأي) ، وهوى النفس، (فالنقل والسماع) المرفوعان، (لا بد منه في ظاهر التفسير أولا ليتقي به مواضع الغلط) ، ويأمن به غوائل المخالفة، (ثم بعد ذلك يتسع الفهم) بقوة نور الإيمان، وضعفه (و) يهتدي بذلك إلى الاستنباط في المعاني، والأحكام، (والغرائب) القرآنية (التي لا تفهم إلا بالسماع) من حضرة النبوة، (فنون) أي أنواع كثيرة، (ونحن نرمز) أي نشير (إلى جمل منها يستدل بها على أمثالها) ، ونظائرها فيحمل النظير منها على النظير، (ويعلم أنه لا يجوز التهاون بحفظ التفسير الظاهر) منها (أولا و) من القطع أنه (لا مطمع في الوصول إلى) العلم (الباطن قبل إحكام) العلم (الظاهر) .

التالي السابق


الخدمات العلمية