إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ومنها أن يكون مستقصيا عن السلاطين فلا يدخل عليهم ألبتة ما دام يجد إلى الفرار عنهم سبيلا بل ينبغي أن يحترز عن مخالطتهم وإن جاءوا إليه فإن الدنيا حلوة خضرة وزمامها بأيدي السلاطين .

والمخالط لا يخلو عن تكلف في طيب مرضاتهم واستمالة قلوبهم مع أنهم ظلمة .

ويجب على كل متدين الإنكار عليهم وتضييق صدرهم بإظهار ظلمهم وتقبيح فعلهم فالداخل عليهم إما أن يلتفت إلى تجملهم فيزدري نعمة الله عليه أو يسكت عن الإنكار عليهم فيكون مداهنا لهم أو يتكلف في كلامه كلاما لمرضاتهم وتحسين حالهم وذلك هو البهت الصريح أو أن يطمع في أن ينال من دنياهم وذلك هو السحت وسيأتي في كتاب الحلال والحرام ما يجوز أن يؤخذ من أموال السلاطين ، وما لا يجوز من الإدرار والجوائز وغيرها .

وعلى الجملة فمخالطتهم مفتاح للشرور وعلماء الآخرة طريقهم الاحتياط .

وقال صلى الله عليه وسلم من بدا جفا يعني : من سكن البادية ، جفا ، ومن اتبع الصيد غفل ومن أتى السلطان افتتن وقال صلى الله عليه وسلم سيكون : عليكم أمراء تعرفون منهم وتنكرون فمن أنكر فقد برئ ، ومن كره فقد سلم ، ولكن من رضي وتابع أبعده الله تعالى ، قيل : أفلا نقاتلهم قال صلى الله عليه وسلم : لا ، ما صلواوقال سفيان في جهنم واد لا يسكنه إلا القراء الزائرون للملوك .

وقال حذيفة إياك ومواقف الفتن قيل : وما هي قال : أبواب الأمراء يدخل أحدكم على الأمير فيصدقه بالكذب ، ويقول فيه ما ليس فيه .

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " العلماء أمناء الرسل على عباد الله تعالى " ما لم يخالطوا السلاطين فإذا فعلوا ذلك ، فقد خانوا الرسل فاحذروهم واعتزلوهم رواه أنس .

وقيل للأعمش ولقد أحييت العلم لكثرة من يأخذه عنك فقال : لا تعجلوا ثلث يموتون قبل الإدراك وثلث يلزمون أبواب السلاطين ، فهم شر الخلق ، والثلث الباقي : لا يفلح منه إلا القليل ولذلك قال سعيد بن المسيب رحمه الله إذا رأيتم العالم يغشى الأمراء فاحترزوا منه فإنه لص .

وقال الأوزاعي : ما من شيء أبغض إلى الله تعالى من عالم يزور عاملا .

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : شرار العلماء الذين يأتون الأمراء ، وخيار الأمراء الذين يأتون العلماء وقال مكحول الدمشقي رحمه الله من تعلم القرآن وتفقه في الدين ثم صحب السلطان تملقا إليه وطمعا فيما لديه خاض في بحر من نار جهنم بعدد خطاه .

وقال سمنون: ما أسمج بالعالم أن يؤتى إلى مجلسه فلا يوجد فيسأل عنه فيقال هو عند الأمير ، قال : وكنت أسمع أنه يقال : إذا رأيتم العالم يحب الدنيا فاتهموه على دينكم حتى جربت ذلك إذ ما دخلت قط على هذا السلطان إلا وحاسبت نفسي بعد الخروج فأرى عليها الدرك وأنتم ترون ما ألقاه به من الغلظة والفظاظة وكثرة المخالفة لهواه ولوددت أن أنجو من الدخول عليه كفافا مع أني لا آخذ منه شيئا ولا أشرب له شربة ماء ثم قال : وعلماء زماننا شر من علماء بني إسرائيل يخبرون السلطان بالرخص وبما يوافق هواه ولو أخبروه بالذي عليه وفيه نجاته ستثقلهم وكره دخولهم عليه ، وكان ذلك نجاة لهم عند ربهم .


( ومنها) أي: ومن العلامات اللازمة لعلماء الآخرة ( أن يكون منقبضا عن) مخالطة ( السلاطين) ومن في معناهم من الأمراء والحكام، ( بل لا يدخل عليهم البتة) أي: بوجه من الوجوه ( ما دام بجد إلى الفرار عنهم سبيلا) ومخلصا وممكنا ( بل ينبغي أن يحترز من مخالطتهم) ومخاللتهم ( وإن جاءوا إليه) أي: لزيارته، ( فإن الدنيا حلوة خضرة) نضرة، ( وزمامها) في الحقيقة ( بأيدي السلاطين) إذ هم حياتها وإليهم مآلها ( والمخالط لهم لا يخلو من تكلف في طلب مرضاتهم) كما هو مشاهد ( واستمالة قلوبهم) إليه بما أمكن ( مع أنهم ظلمة) على رقابهم مظالم العباد، وظلموا نفوسهم بارتكاب المحظورات، ( ويجب على كل متدين) أي: متقيد بالدين ( الإنكار عليهم) بلسانه وقلبه، ( وتضييق قلوبهم بإظهار ظلمهم وقبيح فعلهم) تصريحا إن أمكن كما فعله أبو حازم حين دخل على سليمان بن عبد الملك، وعنده الزهري، وكما فعله شقيق حين جاءه هارون الرشيد زائرا فإن لم يتمكن من التصريح فالتعريض ( فالداخل عليهم) في مجالسهم لا يخلو ( إما أن يلتفت إلى تجملهم) وتزينهم في الملابس والفرش، والستور فينخزل باطنا وتميل نفسه إلى حصول مثل ذلك أو بعضه ( فيزدري) أي: يستحقر ( نعمة الله) عز وجل التي أنعمها ( عليه أو يسكت عن الإنكار) عليهم مع وجوبه، ( فيكون مداهنا) بسكوته، ( أو يتكلف في كلامه) الذي يورده طلبا ( لمرضاتهم وتحسين حالهم وذلك هو البهت الصريح) [ ص: 387 ] والافتراء الخالص ( أو يطمع في أن ينال) ، ويصيب ( من دنياهم) التي بأيديهم، ( وذلك هو السحت) أي: الحرام الخالص، وقد يجتمع بعض الأحيان في بعض الأشخاص من الذين يداخلونهم، من هذه الأوصاف الخمسة اثنان وثلاثة، وأكثر وأقل وعلى كل حال تقرب السلاطين، نار محرقة، إن لم تحترق تكون تحب رق ( وسيأتي في كتاب الحلال والحرام) في أثناء هذا الكتاب، ( ما يجوز أن يؤخذ من أموال السلاطين، وما لا يجوز من الإدرار) أي: الوظائف والجرايات، ( والجوائز) أي: العطايا، ( وغيرها) كإلباس الخلع والتشاريف ( وعلى الجملة) مع قطع النظر عن التفصيل، ( فمخالطتهم مفتاح للشرور) وأصل أصيل للوقوع في النكد والغرور، ( وعلماء الآخرة طريقتهم الاحتياط) أي: الأخذ بالأحوط في أمور دينهم ودنياهم كيف ( وقد قال صلى الله عليه وسلم: من سكن البادية، جفا، ومن اتبع الصيد غفل ومن أتى السلاطين افتتن) ; لأنه إن وافقه على مرامه، فقد خاطر بدينه وإن خالفه، فقد خاطر بروحه، وربما استخدمه فلا يسلم من الإثم في الدنيا والعقوبة في العقبى، أخرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والبيهقي في الشعب، والطبراني في الكبير، ومن طريقه أبو نعيم في الحلية، وأبو قرة كهلم من رواية سفيان عن أبي موسى، عن وهب بن منبه، عن ابن عباس، رفعه، ولفظهم كلهم ما عدا الترمذي: ومن أتى السلطان والباقي سواء، ولفظ الترمذي، من أتى أبواب السلطان، وقال حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث الثوري.

وقال سفيان مرة: لا أعلمه إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال أبو نعيم في الحلية: أبو موسى هو اليماني، لا نعرف له اسما، وقال الذهبي في الميزان: شيخ يماني يجهل ما روى عنه غير الثوري، ولعله إسرائيل بن موسى، وإلا فهو مجهول، ونقل المنذري في مختصر السنن، قال الكرابيسي: حديثه ليس بالقائم .

وفي الباب عن أبي هريرة، والبراء بن عازب، ولفظ حديث أبي هريرة: "من بدى فقد جفا" والباقي سواء، وزاد في آخره: وما ازداد أحد من السلطان قربا إلا ازداد من الله بعدا"، رواه أبو يعلى في مسنده، وابن عدي في الكامل، وابن حبان في الضعفاء، كلهم من رواية الحسن بن الحكم النخعي، عن عدي بن ثابت، عن أبي حازم، عن أبي هريرة وضعفوه، كالمنذري في مختصر السنن، ولكن حسنه العراقي، قال: وقد رواه أبو داود في رواية ابن داسة، وابن العبد من طريق الحسن بن الحكم هذا، إلا أنه قال: عن عدي بن ثابت، عن شيخ من الأنصار، عن أبي هريرة، بلفظ حديث وهب بن منبه، عن ابن عباس، وقد رواه أيضا أبو يعلى في مسنده، هكذا وأما حديث البراء فرواه أحمد مختصرا من طريق شريك عن الحسن بن الحكم، عن عدي بن ثابت، عنه رفعه: "من بدى جفا" وذكره الدارقطني في العلل فقال: تفرد به شريك، واختلف فيه على الحسن بن الحكم، فرواه شريك عنه هكذا، وخالفه إسماعيل بن زكريا، فرواه عنه عن عدي بن ثابت، عن أبي حازم عن أبي هريرة، كما تقدم .

وخالفهما محمد بن عبيد الطنافسي، فرواه عنه عن عدي بن ثابت عن شيخ من الأنصار لم يسمه اهـ .

قلت: وأخرجه العقيلي في الضعفاء، والروياني، وسعيد بن منصور كلهم عن البراء نحوه بزيادة: ومن تبع الصيد غفل، ( وقال صلى الله عليه وسلم: ستكون عليكم أمراء تعرفون منهم وتنكرون فمن أنكر فقد برئ، ومن كره فقد سلم، ولكن من رضي وتابع أبعده الله، قيل: أفلا نقاتلهم قال: لا، ما صلوا) .

قال العراقي: أخرجه مسلم وأبو داود، والترمذي، من رواية ضبة بن محصن، عن أم سلمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: واللفظ للترمذي، إلا أنه قال: أئمة بدل أمراء، ولم يقل أبعده الله، وقال حسن صحيح، وفي رواية لمسلم: أنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون، وتنكرون فمن كره فقد برئ، من أنكر قد سلم فذكره، دون قوله: أبعده الله، وفيه قالوا يا رسول الله، بدل قيل، وفي رواية له: فمن أنكر فقد برئ، ومن كره فقد سلم، وفي رواية له: ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم اهـ .

قلت: وأخرج ابن أبي شيبة عن عبادة بن الصامت، رفعه: "ستكون عليكم أمراء يأمرونكم بما تعرفون ويعملون بما تنكرون فليس لأولئك عليكم طاعة"، وأخرج ابن جرير، والطبراني في الكبير، والحاكم عن عبادة بن [ ص: 388 ] الصامت أيضا، ولفظهم: "سيلي أموركم من بعدي رجال يعرفونكم بما تنكرون وينكرون عليكم ما تعرفون فمن أدرك ذلك منكم فلا طاعة، لمن عصى الله عز وجل"، وأخرج ابن ماجه وابن عساكر عن أبي هريرة رفعه: "سيكون بعدي خلفاء يعلمون بما لا تعلمون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن أنكر عليهم برئ، ومن أمسك يده سلم، ولكن من رضي وتابع"، ( وقال سفيان) بن سعيد الثوري ( في جهنم واد لا يسكنه إلا القراء الزوارون) أي: الكثير والزيارة ( للملوك) أخرجه البيهقي عن بكر بن محمد العابد، قال: سمعت سفيان الثوري، يقول فذكره بلفظ: أن في جهنم لجبا تستعيذ منه جهنم، كل يوم سبعين مرة أعده الله للقراء، الزائرين للسلاطين، وقد تقدم عن بكر بن خنيس ما يعضده وقال السيوطي، ما رواه الأساطين من عدم المجيء إلى السلاطين ما نصه: وأخرج ابن عدي عن أبي هريرة رفعه أن في جهنم واديا تستعيذ منه كل يوم سبعين مرة أعده الله للقراء المرائين بأعمالهم وإن أبغض الخلق إلى الله تعالى عالم السلطان.

( وقال حذيفة) ابن اليمان رضي الله عنه فيما أخرجه أبو نعيم في الحلية، فقال: حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن ابن إسحاق، عن عمارة بن عبد، عن حذيفة، قال: ( إياكم ومواقف الفتن قيل: وما هي) يا أبا عبد الله ( قال: أبواب الأمراء يدخل أحدهم) ونص الحلية: أحدكم ومثله في نسخة أخرى، ( فيصدقه بالكذب، ويقول ما ليس فيه) ، وأخرجه كذلك البيهقي في الشعب، وابن أبي شيبة في المصنف ( وقد قال صلى الله عليه وسلم: "العلماء أمناء الرسل على عباد الله") فإنهم استودعهم الشرائع التي جاءوا بها، وهي العلوم والأعمال، وكلفوا الخلق طلب العلم فهم أمناء عليه، وعلى العمل به ( ما لم يخالطوا السلطان فإذا فعلوا ذلك، فقد خانوا الرسل) في أماناتهم; لأن مخالطهم لا يسلم من النفاق، والمداهنة والإطراء في المدح، وفيه هلاك الدين ( فاحذروهم) أي: خافوا من شرهم ( واعتزلوهم) أي: تأهبوا لما يبدو منهم من الشر ( رواه) أبو جعفر العقيلي في الضعفاء في ترجمة حفص الأبري عن اسماعيل بن سميع الحنفي، عن ( أنس) ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال العقيلي: وحفص كوفي حديثه غير محفوظ، قال العراقي: وقد رواه الديلمي في مسند الفردوس من طريق الحاكم، من طريق أبي نعيم الأصبهاني من رواية إبراهيم بن رستم، عن أبي حفص العبدي عن إسماعيل بن سميع، عن أنس، وزاد بعد قوله: ما لم يخالطوا السلطان ويداخلوا الدنيا، وقال في آخره: فاحذروهم واخشوهم اهـ .

قلت: لفظ الحاكم ويدخلوا في الدنيا، فإذا دخلوا في الدنيا وخالطوا السلطان وفي آخره، فاعتزلوهم، وأخرجه الحسن بن سفيان في مسنده، عن محمد بن مالك، عن إبراهيم بن رستم، قال العراقي: ورواه ابن الجوزي في الموضوعات من رواية إبراهيم بن رستم عن عمر بن حفص العبدي، عن إسماعيل بن سميع، قال: تابعه محمد بن معاوية النيسابوري، عن محمد بن يزيد عن إسماعيل، ثم قال: وأما عمر العبدي قال: يحيى ليس بشيء، وقال النسائي: متروك، وأما إبراهيم ابن رستم فقال ابن عدي ليس بمعروف، محمد بن معاوية قال فيه أحمد: كذاب، إلى هنا كلام ابن الجوزي.

قال العراقي: أما إبراهيم بن رستم، فقال فيه عثمان بن سعيد الدارمي، عن يحيى بن معين: إنه ثقة اهـ .

قال السيوطي: الحديث ليس بموضوع، وإبراهيم بن رستم معروف مروزي جليل، قال الحافظ ابن حجر في لسان الميزان، عن أبي حاتم: يذكر بفقه وعبادة ومحله الصدق، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال يخطئ، وقال الدارقطني: مشهور وليس بالقوي، وله طريق آخر أخرجه الديلمي من رواية محمد بن النضر، حدثنا محمد بن يزيد بن سابق، حدثنا نوح بن أبي مريم، عن إسماعيل بن سميع، وقد ورد هذا الحديث بهذا اللفظ، عن علي بن أبي طالب مرفوعا، أخرجه العسكري، وورد موقوفا على جعفر بن محمد أخرجه أبو نعيم في الحلية، وله شاهد نحوه، من حديث عمر بن الخطاب، أخرجه الديلمي في مسند الفردوس، وله شواهد بمعناه كثيرة، صحيحة، وحسنه فوق الأربعين، حديثا، وهذا الحديث الذي نحن في الكلام عليه يحكم له على مقتضى صناعة الحديث بالحسن، والله أعلم اهـ .

قلت: والموقوف الذي أخرجه أبو نعيم في الحلية، رواه من طريق [ ص: 389 ] هشام بن عباد قال: سمعت جعفر بن محمد يقول: الفقهاء أمناء الرسل، فإذا رأيتم الفقهاء قد ركنوا إلى السلاطين فاتهموهم ( وقيل للأعمش) وهو سليمان بن مهران الأسدي الكاهلي مولاهم، أبو محمد الكوفي، رأى أنس بن مالك، وأبا بكرة الثقفي، وأخذ له بالركاب، فقال له: يا بني إنما أكرمك ربك عز وجل قال ابن معين: كل ما روى الأعمش عن أنس فهو مرسل، وقال عيسى بن يونس: ما رأيت الأغنياء والسلاطين عند أحد أحقر منهم عند الأعمش مع فقره، وحاجته مات سنة ثمان وأربعين ومائة ( لقد أحييت العلم لكثرة من يأخذ عنك) أي: فيبقى في صدورهم فيلقونه إلى من يأخذ عنهم ( فقال: لا تعجلوا ثلث) منهم ( يموتون قبل الإدراك) ، أي قبل أن يدركوا ثمرة العلم التي هي العمل، ( والثلث) الثاني ( يلزمون أبواب السلاطين، فهم شرار الخلق، والثلث الباقي: لا يفلح منهم إلا القليل) ، فأشار بقوله: فهم شرار الخلق إن مخالطة السلاطين شر محض .

وأخرج أبو نعيم في الحلية من رواية أحمد بن شيبان، قال سمعت سفيان بن عيينة، يقول: ونظر إلى كثرة أصحاب الحديث ثلث يتبعون السلطان، وثلث لا يفلحون، وثلث يموتون، ( ولذلك قال) أحد العلماء الأثبات ( سعيد بن المسيب) بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم القرشي المخزومي قال ابن المديني: لا أعلم في التابعين أوسع علما منه، مات بعد التسعين، وقد ناهز الثمانين، ( إذا رأيتم العالم يغشى أبواب الأمراء فاحترزوا منه فإنه لص) بتثليث اللام، أي سارق محتال على اقتناء الدنيا، وجذبها إليه من حرام وغيره، كما يحاول السارق إخراج المتاع عن الحرز، وهذا الذي ذكره المصنف، عن سعيد بن المسيب، فقد ورد مرفوعا عن أبي هريرة بلفظ: إذا رأيتم العالم يخالط السلطان مخالطة كثيرة، فاعلم أنه لص، أخرج الديلمي، أي قد سلب وصف الأمانة، وكسي ثوب الخيانة، فلا يؤتمن على أداء العلم، الذي من أسرار الله تعالى .

ويروى عن سفيان الثوري: إذا رأيت القارئ يلوذ بالسلطان فاعلم أنه لص، وإذا رأيته يلوذ بالأغنياء فاعلم أنه مراء، أخرجه البيهقي، عن يوسف بن أسباط، قال: قال لي الثوري، فذكره .

وأخرج أبو نعيم في الحلية، من رواية محمد بن علي بن الحسن، قال: قال عمر بن الخطاب: إذا رأيتم القارئ يحب الأغنياء فهو صاحب الدنيا، وإذا رأيتموه يلزم السلطان من غير ضرورة فهو لص، ( وقال) عبد الرحمن بن عمرو ( الأوزاعي: ما من شيء أبغض على الله من عالم يزور عاملا) أي: من عمال الملوك وشاهده من حديث أبي هريرة رفعه أخرجه ابن ماجه أن أبغض الخلق إلى الله العالم يزور العمال، وسيأتي في الذي بعده ( وقال صلى الله عليه وسلم: شرار العلماء الذين يأتون الأمراء، وخيار الأمراء الذين يأتون العلماء) .

قال العراقي: لم أره بهذا اللفظ، وروى ابن ماجه من رواية أبي معاذ البصري، عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في أثناء حديث أوله: "تعوذوا بالله من جب الحزن إلى أن قال: وإن أبغض القراء إلى الله الذين يأتون الأمراء"، وأول الحديث عند الترمذي دون هذه الزيادة، إلا أنه قال أبو معان بالنون، وهو الصحيح، ثم قال: وروى أبو بكر أحمد بن علي بن لال الفقيه في كتاب مكارم الأخلاق من رواية عصام بن داود العسقلاني، عن بكير بن شهاب الدمغاني، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، رفعه: "إن أبغض الخلق إلى الله عز وجل العالم يزور العمال اهـ .

قلت: وهكذا هو في مسند الفردوس للديلمي وتاريخ قزوين للرافعي، وأخرجه أبو الفتيان الحافظ في كتاب التحذير من علماء السوء بلفظ: إن أهون الخلق على الله، وفي هذا المعنى قال حكيم من الحكماء: وسيأتي للمصنف أنه محمد بن مسلمة الذباب على العذرة أحسن حالا من العالم على باب هؤلاء، وقالوا: نعم الأمير على باب الفقير، وبئس الفقير على باب الأمير، وقال أبو حازم فيما وعظ به سليمان بن هشام: إن بني إسرائيل لم يزالوا على الهدى والتقى حيث كان أمراؤهم يأتون إلى علمائهم; رغبة في علمهم، فلما نكسوا وتعسوا وسقطوا من عين الله عز وجل وآمنوا بالجبت والطاغوت، كان علماؤهم يأتون إلى أمرائهم، فشاركوهم في دنياهم، وشركوا في فتنتهم، أورده أبو نعيم في الحلية، في ترجمة أبي حازم، وقال أيضا بسنده إلى يوسف بن أسباط: أخبرني مخبر أن بعض الأمراء أرسل إلى أبي حازم، فأتاه وعنده الإفريقي [ ص: 390 ] والزهري، وغيرهما فقال له: تكلم يا أبا حازم فقال أبو حازم: إن خير الأمراء من أحب العلماء، وإن شر العلماء من أحب الأمراء وإنه كان فيما مضى، إذا بعث الأمراء إلى العلماء لم يأتوهم، وإذا أعطوهم لم يقبلوا منهم، وإذا سألوهم لم يرخصوا لهم، وكان الأمراء يأتون العلماء في بيوتهم، فيسألونهم فكان في ذلك صلاح للعلماء، وصلاح للأمراء، فلما رأى ذلك ناس من الناس، قالوا: ما لنا لا نطلب العلم حتى نكون مثل هؤلاء، فطلبوا العلم فأتوا الأمراء فحدثوهم فرخصوا لهم، وأعطوهم فقبلوا منهم فخربت العلماء على الأمراء، وخربت الأمراء على العلماء.

( وقال) أبو عبد الله ( مكحول الدمشقي) الفقيه ( من تعلم القرآن وتفقه في الدين وصحب السلطان تملقا إليه) أي: خضوعا له ( وطمعا لما في يديه) من المال وغيره ( خاض في جهنم بعدد خطاه) جزاء وفاقا .

قلت: وهذا قد روي مرفوعا من حديث معاذ أخرجه أبو الشيخ في كتاب الثواب له، وكذا الحاكم في تاريخه بلفظ: إذا قرأ الرجل القرآن وتفقه في الدين، ثم أتى باب السلطان تملقا إليه، وطمعا لما في يده خاض بقدر خطاه في نار جهنم.

ولفظ الحاكم: ثم أتى صاحب سلطان كذا أفاده السيوطي، ( وقال) أبو الحسن ويقال: أبو القاسم ( سمنون) بن حمزة تلميذ السري، ومات قبل الجنيد، وفي كتاب السيوطي، وقال إسحاق بدل سمنون: ( ما أسمج بالعالم) أي: ما أقبح ( أن يؤتى إلى مجلسه فلا يوجد) فيه ( فيسأل عنه فيقال إنه عند الأمير، قال: وكنت أسمع أنه يقال: إذا رأيتم العالم يحب الدنيا فاتهموه على دينكم) أي: فإنه كالسارق المحتال على جمع الحطام إلى نفسه من حيث أمكن ( حتى جربت) ذلك قال ( وما دخلت قط على السلطان إلا حاسبت نفسي بعد الخروج) من عنده في سائر أحوالها بالتدقيق، ( فأرى عليها الدرك) أي، في بعض أمرها ( وأنتم ترون ما ألقاه) أي: السلطان ( به من الغلظة) في الكلام ( والفظاظة) في الخلق ( وكثرة المخالفة لهواه) ، أي لهوى نفسه فيما يخالف ظاهر الشريعة ( لوددت أن أنجو) أي: أخلص ( من الدخول) عليه ( كفافا) لا علي ولا لي ( مع أني لا آخذ منهم شيئا) من الأموال وغيرها ( ولا أشرب عندهم شربة ماء) فضلا عن الأكل أي فكيف حال الداخل إليه، وهو يطمع في دنياه، أو يتناول عنده شيئا، وهكذا ساقه السيوطي، إلا أن في سياقه حتى جربت; إذ ما دخلت قط على هذا السلطان إلا وحاسبت وفيه مع ما أواجههم به من الغلظة والمخالفة لهواهم، والباقي سواء ( قال: وعلماء زماننا شر من علماء بني إسرائيل) فإنهم ( يخبرون السلاطين) إذا سئلوا في الواقعات ( بالرخص) والمساهلات ( وما يوافق هواهم) فيفتون لهم بذلك، ( ولو أخبروهم بالذي عليهم وفيه نجاتهم) من العذاب ( استثقلوهم وكرهوا دخولهم عليهم، وكان ذلك نجاة لهم عند ربهم) حيث بلغوا ما أمروا به .

وأخرج أبو نعيم في الحلية في ترجمة أبي حازم ما نصه: قال سليمان بن هشام لأبي حازم يا أبا حازم، ما تقول فيما نحن فيه، قال: أو تعفيني يا أمير المؤمنين، قال بل نصيحة تلقيها إلي قال إن آباءك غصبوا الناس هذا الأمر، فأخذوه عنوة بالسيف من غير مشورة، ولا اجتماع من الناس، وقد قتلوا فيه مقتلة عظيمة، وارتحلوا فلو شعرت ما قالوا وقيل لهم: قال رجل من جلساء سليمان بئسما قلت: قال أبو حازم كذبت فإن الله تعالى أخذ على العلماء الميثاق ليبيننه للناس ولا يكتمونه، وأخرج في ترجمة الفضيل من رواية إبراهيم بن الأشعث، قال سمعت الفضيل بن عياض، يقول: لأن يدنو الرجل من جيفة منتنة خير له من أن يدنو إلى هؤلاء يعني السلطان، وسمعته يقول رجل لا يخالط هؤلاء ولا يزيد على المكتوبة أفضل عندنا من رجل يقوم بالليل ويصوم بالنهار ويحج ويعتمر ويجاهد في سبيل الله ويخالطهم اهـ .

التالي السابق


الخدمات العلمية