إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ولعل العمر لو أنفق في استكشاف أسرار هذا المعنى وما يرتبط بمقدماته ولواحقه لانقضى العمر قبل استيفاء جميع لواحقه وما من كلمة من القرآن إلا وتحقيقها محوج إلى مثل ذلك وإنما ينكشف للراسخين في العلم من أسراره بقدر غزارة علومهم وصفاء قلوبهم وتوفر دواعيهم على التدبر وتجردهم للطلب ويكون لكل واحد حد في الترقي إلى درجة أعلى منه فأما الاستيفاء فلا مطمع فيه ولو كان البحر مدادا والأشجار أقلاما فأسرار كلمات الله لا نهاية لها فتنفد الأبحر قبل أن تنفد كلمات الله عز وجل .

فمن هذا الوجه تتفاوت الخلق في الفهم بعد الاشتراك في معرفة ظاهر التفسير وظاهر التفسير لا ، يغني عنه ومثاله فهم بعض أرباب القلوب من قوله صلى الله عليه وسلم في سجوده أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك أنه قيل له اسجد واقترب فوجد القرب في السجود فنظر إلى الصفات فاستعاذ ببعضها من بعض فإن الرضا والسخط وصفان ثم زاد قربه فاندرج القرب الأول فيه فرقي إلى الذات ، فقال : أعوذ بك منك ثم زاد قربه بما استحيا به من الاستعاذة على بساط القرب فالتجأ إلى الثناء فأثنى بقوله : لا أحصي ثناء عليك ثم علم أن ذلك قصور فقال : أنت كما أثنيت على نفسك فهذه خواطر تفتح لأرباب القلوب ثم لها أغوار وراء هذا وهو فهم معنى القرب واختصاصه بالسجود ومعنى الاستعاذة من صفة بصفة ومنه ، به .

وأسرار ذلك كثيرة ، ولا يدل تفسير ظاهر اللفظ عليه وليس هو مناقضا لظاهر التفسير ، بل هو استكمال له ، ووصول إلى لبابه عن ظاهره فهذا ما نورده لفهم المعاني الباطنة لا ما يناقض الظاهر ، والله أعلم .

تم كتاب آداب التلاوة والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد خاتم النبيين وعلى كل عبد مصطفى من كل العالمين وعلى آل محمد وصحبه وسلم .

يتلوه إن شاء الله تعالى كتاب الأذكار والدعوات والله المستعان لا رب سواه .


قال: فإن قلت فما السبيل إلى معرفة الله تعالى فأقول لو قال: لنا صبي، أو عنين ما السبيل إلى معرفة لذة الجماع، وإدراك حقيقته؟ قلنا: ههنا سبيلان أحدها نصفه لك حتى تعرفه، والثاني تصبر حتى تظهر فيك غريزة الشهوة، ثم تباشر الجماع حتى تظهر فيك لذته فتعرفه، وهذا السبيل الثاني هو المحقق المفضي إلى حقيقة المعرفة فأما الأول فلا يفضي إلا إلى توهم الشيء بما لا يشبهه، إذ غايتنا أن نمثل له لذة الجماع عنده بشيء من اللذات التي يدركها العنين، كلذة الطعام الحلو مثلا أفترى أن هذا يفهم حقيقة لذة الجماع كما هي حتى ينزل من معرفتها منزلة من ذاق تلك اللذة وأدركها، هيهات هيهات إنما غاية هذا الوصف إيهام وتشبيه ومشاركة في الاسم، لكن يقطع التشبيه بأن يقال: ليس كمثله شيء فهو حي لا كالأحياء قادر لا كالقادرين، كما يقال: الجماع لذيذ كالسكر، ولكن تلك اللذة لا تشبه هذه البتة، ولكن تشاركها في الاسم، وكأنا إذا عرفنا أن الله تعالى حي قادر عالم فلم نعرف أولا إلا بأنفسنا، فإذا قال القائل: كيف يكون الله تعالى عالما بالأشياء؟ فنقول: كما تعلم أنت أشياء، فإذا قال :كيف يكون قادرا؟ فنقول: كما تقدر أنت، فلا يمكنه أن يفهم شيئا إلا إذا كان فيه ما يناسبه، فيعلم أولا ما هو متصف به، ثم يعلم غيره بالمناسبة إليه فهذه معرفة قاصرة يغلب عليها الإيهام، والتشبيه، فينبغي أن يقترن بها المعرفة بنفي المشابهة أصلا، وبنفي أصل المناسبة مع المشاركة في الاسم، ثم أطال في تصوير ذلك .

ثم قال في تفاوت درجات العارفين في المعرفة: اعلم أن للمعرفة سبيلين أحدهما السبيل الحقيقي، وذلك [ ص: 553 ] مسدود إلا في حق الله تعالى فلا يهتز أحد من الخلق لنيله وإدراكه إلا ردته سبحات جلاله إلى الحيرة، وأما السبيل الثاني: وهو معرفة الصفات والأسماء فذلك مفتوح للخلق، وفيه تتفاوت مراتبهم، ثم أطال في تصوير ذلك إلى أن قال: وهذه المعرفة أعني بطريق الصفات والأسماء لا تكون بالكمال في الحقيقة إلا لله عز وجل، فالحاصل عندنا من قدرة الله تعالى أنه وصف ثمرته، وأثره، وجود الأشياء، وينطلق عليه اسم القدرة; لأنه يناسب قدرتنا مناسبة لذة الجماع بالسكر، وهو بمعزل عن حقيقة تلك القدرة، نعم، كلما ازداد العبد إحاطة بتفاصيل المقدورات، وعجائب الصنائع في ملكوت الأرض والسماوات كان حظه من صفة القدرة أوفر; لأن الثمرة تدل على المثمر .

وإلى هذا يرجع تفاوت معرفة العارفين، وبه تعرف أن من قال: لا أعرف إلا الله فقد صدق، ومن قال: لا أعرف الله فقد صدق، فإنه ليس في الوجود إلا الله وأفعاله فإذا نظر إلى أفعاله من حيث هي أفعاله، وكان مقصور النظر عليها، ولم يرها من حيث أنها سماء وأرض وشجر، بل من حيث إنها صنعته فلم تجاوز معرفته حضرة الربوبية، فيمكنه أن يقول: ما أعرف إلا الله، ولو تصور شخص لا يرى إلا الشمس ونورها المنتشر في الآفاق، يصح أن يقول: ما أرى إلا الشمس، فإن النور الفائض منها هو من جملتها ليس خارجا منها، وكل ما في الوجود نور من أنوار القدرة الأزلية، وأثر من آثارها .

وكما أن الشمس ينبوع النور الفائض على كل مستنير، فكذلك المعنى الذي قصرت العبارة عنه فعبر عنه بالقدرة الأزلية للضرورة هو ينبوع الوجود الفائض على كل موجود، فليس في الوجود إلا الله تعالى، فيجوز أن يقول العارف: ما أعرف إلا الله تعالى، ومن العجائب أن يقول: لا أعرف إلا الله تعالى، ويكون صادقا، ويقول: لا أعرف الله، ويكون أيضا صادقا، ولكن ذلك بوجه وهذا بوجه، ولو كذبت المتناقضات إذا اختلف وجود الاعتبارات لما صدق قوله تعالى: وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ولكنه صادق; لأن للرمي اعتبارين وهو منسوب إلى العبد بأحدهما ومنسوب إلى الرب بالثاني، ولا تناقض فيه، ولنقبض عنان الكلام فقد خضنا لجة بحر لا ساحل له، وأمثال هذه الأسرار لا ينبغي أن تبذل بإيداع الكتب، والله أعلم .

(ولعل العمر لو أنفق) أي صرفت مدته (في استكشاف أسرار هذا المعنى) الذي ذكر، (وما يرتبط بمقدماته ولواحقه) التي منها معرفة درجات الكمال، ثم معرفة الرغبة في طلبه، كيف يكون؟ ومعرفة تماثل الضدين، ومعرفة أن واجب الوجود، هل يرجع معناه إلى سلب السبب عنه؟ أو إلى إضافة الأفعال إليه؟ وما نهاية معرفة العارفين؟ وكيف تفاوت درجاتهم؟ وهل معرفته بالصفات معرفة تامة حقيقية أم لا؟ وغير ذلك من العلوم التي تتعلق به (لانقطع قبل استيفاء جميع لواحقه) ؛ لكثرتها وصعوبتها (وما من كلمة من) كلمات (القرآن إلا وتحقيقها محوج إلى مثل ذلك) ، لما سبق أن لكل كلمة من كلماته أربعة علوم، (وإنما ينكشف للراغبين في العلم) الإلهي النافع، المعرضين عن علوم الدنيا، (من أسراره) وحقائقه ومعانيه (بقدر غزارة علومهم) ، أي كثرتها (وصفاء قلوبهم) بأنوار اليقين، (وتوفر دواعيهم على التدبر) في معانيه، (وتجردهم للطلب) ، أي: للسلوك، وكذا تجرد الهم من تعلق بخلق وخلو النفس من الهوى، فأولئك يشهدهم تلك المعاني من علو مقامهم في مكان ما أظهر لهم من العلم به، ونصيب ما قسم لهم من العقل منه .

(ويكون لكل واحد حد في الترقي إلى درجة منه) ، فهم متفاوتون في الأشهاد والفهوم حسب تفاوتهم في الأنصبة من العقول والعلوم، (فأما الاستيفاء فلا مطمع فيه) لأحد، (ولو كان البحر مدادا) لكتابته (والأشجار أقلاما) تبرى كما تبرى الأقلام يستمد بها على الكتابة، (فأسرار كلمات الله لا نهاية لها) ، ومنها معلوماته، ومقدوراته لا نهاية لها، (فتنفد) أي تفنى (الأبحر) الممدة للكتابة، (قبل أن تنفد كلمات الله عز وجل) ، وهذا الكلام مضمن قوله تعالى: قل لو كان البحر مدادا الآية، وقد سبق ذلك (فمن هذا الوجه تتفاوت الخلق في الفهم) على قدر تفاوتهم في المعرفة (بعد الاشتراك في ظاهر التفسير، وظاهر التفسير لا يغني عنه) أي: لا بد من تحصيله أولا [ ص: 554 ] وإلا كان عاجزا، (ومثاله فهم بعض أرباب القلوب من قوله صلى الله عليه وسلم في سجوده) ، فيما رواه الستة إلا البخاري، من حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش، فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدميه وهو بالمسجد وهما منصوبتان وهو يقول: اللهم إني ( أعوذ برضاك من سخطك) ، أي: بما يرضيك عما يسخطك ، (وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك) ، استعاذ بمعافاته بعد استعاذته برضاه; لأنه يحتمل أن يرضى عنه من جهة حقوقه، ويعاقبه على حقوق غيره (وأعوذ بك منك) ، أي: برحمتك من عقوبتك فإن ما يستعاذ منه عن مشيئته وخلقه بإذنه، وقضائه فهو الذي سبب الأسباب التي يستعاذ منها خلقا، وكونا، وهو الذي يعيذ منها، ويدفع شرها خلقا وكونا، فمنه السبب والمسبب، وهو الذي حرك الأنفس، والأبدان، وأعطاها قوى التأثير، وهو الذي أوجدها وأمرها، وهو الذي يمسكها إذا شاء، ويحول بينها، وبين قواها وتأثيرها فتأمل ما تحت قوله: هذا من محض التوحيد، وقطع الالتفات إلى غيره، وتكميل التوكل عليه، وإفراده بالاستعاذة وغيرها (لا أحصي) أي: لا أطيق (ثناء عليك) في مقابلة نعمة واحدة من نعمك، والغرض منه الاعتراف بتقصيره، عن أداء ما وجب عليه من حق الثناء عليه تعالى، (أنت كما أثنيت على نفسك) ، وهذا اعتراف بالعجز عن التفصيل، فوكله إلى الله سبحانه، وكما أنه لا نهاية لصفاته لا نهاية للثناء عليه هذا الذي ذكرناه، هو تفسير أهل الظاهر ذكره القاضي أبو بكر بن العربي، وغيره من العلماء .

وأما فهم بعض أرباب القلوب من هذا الدعاء، (أنه قيل له) صلى الله عليه وسلم في خطاب الله عز وجل إليه كلا لا تطعه (واسجد واقترب) فعلم منه أن السجود محل القربة من الله تعالى; لأنه تنزيه بما يستحقه الله تعالى من العلو والرفعة عن صفات المحدثين، وتحقيق بما عليه العبد من الذل والاستكانة (فوجد القرب في السجود) ، ولذا قال لمن سأله القرب منه: أعني بكثرة السجود (فنظر إلى الصفات فاستعاذ ببعضها من بعض فإن الرضا والسخط وصفان) منبثان عن مشاهدة الأفعال، ومصادرها منه تعالى فقط، فكأنه لم ير إلا الله فقط، وأفعاله (ثم) لما رأى ذلك نقصا في التوحيد، (زاد قربه) فاندرج القرب الأول فيه، (فرقى) من مقام مشاهدة الصفات (إلى) مقام مشاهدة (الذات، فقال: أعوذ بك منك) ، وهذا فرار منه إليه من غير رؤية فعل وصفة، بل رأى نفسه فارا منه إليه ففني عن مشاهدة نفسه، (ثم زاد قربه) فاندرج القرب الثاني فيه، (بما استحيا به من الاستعاذة على بساط القرب فالتجأ إلى الثناء فأثنى بقوله: لا أحصي ثناء عليك) ، فأخبر عن فناء نفسه، وخروجه عن مشاهدة غيره، (ثم علم أن ذلك قصور فقال: أنت كما أثنيت على نفسك) ، فأخبر أنه المثني والمثنى عليه، وأن الكل منه بدئ، وإليه يعود، وكل شيء هالك إلا وجهه، فكان أول مقامه نهاية مقام الموحدين، وهو أن لا يرى إلا الله وأفعاله هذا ما فهم البعض المذكور، وفسرنا كلامه من جنس كلامه الموافق لذوقه الذي ذاقه .

وصرح به المصنف في مواضع من مصنفاته بعبارات مختلفة تؤل إلى هذا الذي ذكرته هنا، ومن ذلك قال المصنف في المقصد الأسنى: نهاية معرفة العارفين عجزهم عن المعرفة، ومعرفتهم بالحقيقة أنهم لا يعرفونه، وأنه يستحيل أن يعرف الله المعرفة الحقيقية المحيطة بكنه صفات الربوبية إلا الله تعالى، فإذا انكشف لهم ذلك انكشافا برهانيا فقد عرفوه، أي بلغوا المنتهى الذي يمكن في حق الخلق من معرفته، وهو الذي عناه رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، ولم يرد به أنه عرف منه ما لا يطاوعه لسانه في العبارة عنه، بل معناه إني لا أحيط بمحامدك، وصفات إلهيتك، وإنما أنت المحيط بها وحدك، فإذا لا يحيط مخلوق من ملاحظة حقيقة ذاته إلا بالحيرة، والدهشة، وأما اتساع المعرفة فإنما يكون في معرفة أسمائه وصفاته (فهذا خاطر يفتح لأرباب القلوب) المنورة، والبصائر المقدسة، (ثم لها أغوار وراء هذا) الذي ذكر، (وهو فهم معنى القرب) الأول، واندراجه في الثاني [ ص: 555 ] واندراج القرب الثاني في الثالث، (واختصاصه بالسجود) دون غيره، (ومعنى الاستعاذة من صفة بصفة، و) كذا معنى الاستعاذة (منه به) ، ومعنى الفرار منه إليه، (وأسرار ذلك كثيرة، ولا يدل تفسير ظاهر اللفظ عليه) .

وقد أشار إلى شيء من ذلك الشيخ الأكبر قدس سره في كتاب الشريعة أن العارف إذا تعوذ ينظر الحال الذي أوجب له التعوذ، وينظر إلى حقيقة ما يتعوذ به، وينظر إلى ما ينبغي أن يعاذ به فيتعوذ بحسب ذلك، فمن غلب عليه في حاله أن كل شيء يستعاذ منه بيد سيده، وأنه في نفسه عبد محل التصريف والتقليب استعاذ من سيده بسيده، وهو قوله صلى الله عليه وسلم، وأعوذ بك منك، وهذه استعاذة التوحيد يستعيذ به من الاتحاد، قال تعالى ذق إنك أنت العزيز الكريم وقال: كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار، وقال: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري من نازعني فيهما قصمته، ومن نزل عن هذه الدرجة في الاستعاذة استعاذ مما لا يلائم فعلا كان أوصفة، هذه قضية كلية والحال يعين القضايا، والحكم يكون بحسبها .

ورد في الخبر: أعوذ برضاك من سخطك ، فقد خرج العبد هنا، عن حظ نفسه بإقامة حرمة محبوبه، فهذا لله، ثم الذي لنفسه، من هذا الباب قوله: بمعافاتك من عقوبتك، فهذا في حظ نفسه، وأي المرتبتين أعلى في ذلك نظر، فمن نظر إلى ما يقتضيه جلال الله من أنه لا يبلغه ممكن، أي ليس في حقيقة الممكن قبول ما ينبغي لجلال الله من التعظيم، وأن ذلك محال في نفس الأمر، لم ير إلا أن يكون في حظ نفسه، فإن ذلك عائد عليه، ومن نظر في قوله إلا ليعبدون قال: ما يلزمني من حق ربي إلا ما تبلغه قوتي، فأنا لا أعمل إلا في حق ربي، لا في حق نفسي، فشرع الشارع الاستعاذتين لهذين الشخصين، ومن رأى أن وجوده هو وجود ربه إذ لم يكن له من حيث هو وجود، قال: أعوذ بك منك، وهي المرتبة الثالثة، وثبت في هذه المرتبة عين العبد، والله أعلم .

(وليس هو مناقضا لظاهر التفسير، بل هو استكمال له، ووصول إلى لبابه) وخالصه (عن ظاهره فهذا ما نريده بفهم المعاني) الباطنة، (لا ما يناقض الظاهر، والله أعلم)

وذكر الشيخ تاج الدين بن عطاء الله في لطائف المنن: اعلم أن تفسير هذه الطائفة لكلام الله، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم بالمعاني الغريبة ليس إحالة للظاهر عن ظاهره; ولكن ظاهر الآية مفهوم منه ما جلبت الآية له، ودلت عليه في عرف اللسان، وثم إفهام باطنه، تفهم عند الآية والحديث لمن فتح الله قلبه .

وقد جاء في الحديث: لكل آية ظهر وبطن، فلا يصدنك عن تلقي هذه المعاني منهم أن يقول ذو جدل ومعارضة: هذا إحالة لكلام الله، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم فليس ذلك بإحالة، وإنما يكون إحالة لو قالوا: لا معنى للآية إلا هذا، وهم لم يقولوا ذلك، بل يقولون: الظواهر على ظواهرها مرادا بها موضوعاتها، ويفهمون عن الله ما أفهم اهـ .

(خاتمة) .

في بيان طبقات المفسرين من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم رضي الله عنهم، قصدت التبرك بذكر أسمائهم، اعلم أنه اشتهر بالتفسير من الصحابة عشرة: الخلفاء الأربعة، وابن مسعود، وابن عباس، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري، وعبد الله بن الزبير، فأما الخلفاء فأكثرهم رواية رابعهم، والرواية عن الثلاثة نزرة جدا، وكان السبب في ذلك تقدم وفاتهم .

كما أن ذلك هو السبب في قلة رواية أبي بكر - رضي الله عنه - للحديث، وأما ابن عباس فقد سماه صلى الله عليه وسلم ترجمان القرآن، رواه أبو نعيم في الحلية، والبيهقي في الدلائل، وقد روى عنه في التفسير جماعة من طرق مختلفة، أجودها طريق علي بن أبي طلحة عنه، وله صحيفة كانت عند أبي صالح كاتب الليث، رواها عن معاوية بن صالح عنه، وهي عند البخاري عن أبي صالح.

وقد اعتمد عليها في صحيحه كثيرا فيما يعلقه عن ابن عباس، وأخرج منها ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن المنذر كثيرا بوسائط بينهم، وبين أبي صالح، ومن جيد الطرق عن ابن عباس، طريق قيس، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير عنه، وهي صحيحة على شرط الشيخين، وكثيرا ما يخرج منها الفريابي، والحاكم في المستدرك، ومن ذلك طريق ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى آل زيد بن ثابت عن [ ص: 556 ] عكرمة، أو هو وسعيد بن جبير عنه، هكذا بالترديد، وهي جيدة وإسنادها حسن، وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم كثيرا .

وفي معجم الطبراني الكبير منها أشياء، وأوهى طرقه طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس فإن انضم إلى ذلك رواية محمد بن مروان الصغير فهي سلسلة الكذب، وكثيرا ما يخرج منها الشعبي، والواحدي، وبعده مقاتل بن سليمان، وقد تكلم فيه، وطريق الضحاك بن مزاحم، عن ابن عباس منقطعة، فإن انضم إلى ذلك رواية بشر بن عمارة، عن أبي روق عنه فهي ضعيفة لضعف بشر.

وقد أخرج من هذه كثيرا ابن جرير وابن أبي حاتم، وإن كان من رواية جويبر، عن الضحاك فأشد ضعفا; لأن جويبرا متروك، وقد أخرج منها ابن مردويه وأبو الشيخ من طريق عطية العوفي، عن ابن عباس، ضعيفة لضعف العوفي، لكن ربما حسن له الترمذي.

ومن المبرزين في التفسير مجاهد، عرض القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة، واعتمد عليه الشافعي والبخاري وغيرهما، ومنهم سعيد بن جبير، وكان أعلمهم بالتفسير، ومنهم عكرمة، وكان أعلمهم بكتاب الله، ومنهم الحسن البصري، وعطاء بن أبي رباح، وعطاء بن أبي مسلم الخراساني، ومحمد بن كعب القرظي، وقتادة، وزيد بن أسلم، ومرة، وأبو مالك، والربيع بن أنس، فهؤلاء قدماء المفسرين، وبعد هذه الطبقة ألفت تفاسير جمعت أقوال الصحابة والتابعين، كتفسير سفيان بن عيينة، ووكيع بن الجراح، وشعبة بن الحجاج، ويزيد بن هارون، وعبد الرزاق، وآدم بن أبي إياس وإسحاق بن راهويه، وروح بن عبادة، وعبد بن حميد، وأبي بكر بن أبي شيبة، وآخرين وبعدهم تفسير ابن جرير الطبري، وهو أجل التفاسير، وأعظمها، ثم ابن أبي حاتم، والحاكم، وابن مردويه، ثم ابن أبي الشيخ، وابن المنذر في آخرين، وكلها مسندة إلى الصحابة والتابعين وأتباعهم، وليس فيها غير ذلك، إلا ابن جرير فإنه يتعرض لتوجيه الأقوال، وترجيح بعضها على بعض، والإعراب والاستنباط فهو يفوقها بذلك، ثم ألف التفسير جماعة فاختصروا الأسانيد، ونقلوا الأقوال بتراء فدخل من هنا الدخيل، والتبس الصحيح بالعليل، ثم صار كل من يسنح له قول يورده، ومن يخطر بباله شيء يعتمده، ثم ينقل ذلك عنه من يجئ بعده ظانا أن له أصلا غير ملتفت إلى تحرير ما روي فيه عن السلف الصالح حتى أن بعضهم حكى في تفسير قوله تعالى: غير المغضوب عليهم ولا الضالين نحو عشرة أقوال، وتفسيرها باليهود والنصارى هو الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، ومن تبعهم حتى قال ابن أبي حاتم: لا أعلم في ذلك اختلافا بين المفسرين، ثم صنف بعد ذلك قوم برعوا في علوم فمنهم المقتصر في تفسيره على الفن الذي يغلب عليه، كالزجاج والواحدي في البسيط، وأبي حيان في البحر والنهر والسمين .

وغيرهم اقتصروا في تفاسيرهم على الإعراب وتكثير الأوجه المحتملة فيه، ونقلوا فيها قواعد النحو، ومسائله، وخلافياته، وكالثعلبي ليس له في تفسيره إلا القصص والأخبار عمن سلف سواء كانت صحيحة، أو باطلة، وكالقرطبي سرد في تفسيره الفقه من الطهارة إلى أمهات الأولاد، وربما استطرد فيه إلى إقامة الفروع الفقهية التي لا تعلق لها بالآية أصلا، والجواب عن حجج المخالفين، وكالفخر الرازي ملأ تفسيره بأقوال الحكماء والفلاسفة، وتتبعها حتى خرج من شيء إلى شيء يقضي الناظر العجب من عدم مطابقة المورد للآية .

ولذلك قال بعض العلماء: فيه كل شيء إلا التفسير، وأما المبتدع فليس له قصد إلا تحريف الآيات، وتسويتها إلى مذهبه الباطل بحيث إنه متى لاح له شاردة من بعيد اقتنصها، أو وجد موضعا له فيه أدنى مجال سارع إليه، ومنهم صاحب الكشاف، فقد حشا في تضاعيف تفسيره مذاهب الاعتزال، وحسنها، وتحامل على أهل السنة، وجعل الأحاديث المرفوعة مرقوعة تنكيتا على أهل الحديث فلا تسأل عن إلحاده، وافترائه على الله ما لم يقله، وأما بعد هؤلاء فارتفع القيد أصلا، ومالت الناس إلى الاختصار، وأبطلوا الإسناد، وفسروا بوجوه المعقولات، ولم يبالوا صحت، أو فسدت فأحسن التفاسير على الإطلاق تفسير ابن جرير، وهو البحر الذي لا غاية بعده لطالب علم إذ لم يؤلف في قبيله مثله .

وقد انتهى بنا القول فيما أردناه من شرح كتاب أسرار تلاوة القرآن [ ص: 557 ] والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والشكر له على توفيقه لما فيه رضاه على أحسن الحالات، وأسأله سبحانه أن يمن علي، وعلى سائر المسلمين بكشف كربي وتفريج همي، وأن يشفي مريضي، ويحسن عواقب الجميع بحرمة حبيبه محمد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذرياته والتابعين لهم بإحسان وسلم، وقد فرغ من تحريره، وتهذيبه مع تشتيت البال، واختلال الأحوال صبيحة يوم الجمعة المباركة لأربع بقين من شهر ربيع الثاني من شهور

سنة 1198 بمنزله بسويقة لالا مؤلفه العبد المضطر

أبو الفيض محمد مرتضى الحسيني أصلح

الله خلله وتقبل عمله وبلغه أمله

آمين حامد الله ومصليا

ومسلما ومستغفرا

وحسبنا الله ونعم

الوكيل

(تم الجزء الرابع، ويليه الجزء الخامس، أوله كتاب الأذكار والدعوات) .

/////

التالي السابق


الخدمات العلمية